قلت لهم: "إن وجوهكم لا تعبر فقط عن مشاعركم ومشاعري وإنما تقدم ثلاثة مداخل أفكر فيها لقراءة التقلبات المحتملة للمشهد السوري الراهن فأشكركم لأنكم لخصتموها لي ببساطة". فقد كنت مثل الأول مندهشاً من سرعة وطريقة وتوقيت سقوط النظام، مذهولاً من هروب طاغية الشام في دقائق بعد أن ظل هو وأبيه ممسكين بالسلطة لخمسين سنة. كما كنت مثل الثاني مبتهجاً لأن حجم النصر جاء على مقدار المعاناة، ولأن دماء الشهداء لم تذهب سدى. فمن كان يصدق أن ستالين السوري، ذهب بغير رجعة؟ لكني كنت أيضاً مثل الزميل الثالث خائفاً يساورني قلق عظيم لأن سوريا لم تكد تخرج من عنق الزجاجة إلا لتجد نفسها على مفترق طرق جميعها مزروع بالألغام. فأصعب يوم بعد نجاح عظيم عادة ما يكون هو اليوم التالي.
يوم سوريا التالي
لم تمض ساعات قليلة على النصر الشعبي المذهل على الطاغية إلا وبدأت غيوم كثيفة تتجمع فوق أرض الشام منذرة بحجم الصعاب التي ستواجه سوريا من اليوم التالي، أكتفي برصد عشرة من بينها:
1- الأحلام العريضة، فالشعب السوري عانى الأمرين ثم تحول فجأةً من مهزوم إلى فائز. وبعد أن قُهر وعومل بقسوة وإذلال نجح بامتياز. هذا التحول ولدّ لديه أحلاماً عريضة وتوقعات متزايدة ينتظر السوريون من العهد الجديد أن يحققها بسرعة. فإن تأخرت أو لم تتحقق قد ينفلت العيار. فليس أخطر بعد ثورة مقاتلة إلا ثورة التوقعات المتزايدة، والسوريون بكل أطيافهم باتت لديهم منذ أن سقط بشار توقعات متزايدة بعضها متشابه وبعضها الآخر متناقض. وهذا أمر مقلق لأن الخروج من ثورة والدخول مباشرة في ثورة أخرى أخطر منها مسألة كثيرة التكرار في تاريخ الشعوب.
2- تكوين سكاني فسيفسائي جرت السيطرة عليه طويلاً بالحديد والنار، ومجتمع لم يهضم قط معنى وأركان وواجبات المواطنة، ثم بات فجأة مطالباً بأن يتبناها ويبنيها. فهل فاقد الشيء قادر على أن يعطيه؟ وهذا بدوره أمر آخر مقلق لأن المواطنة ليست كلمة تُقحم في وثيقة، وإنما قناعة ذهنية، واعتياد فكري، والتزام أخلاقي-قانوني، ومنهج سلوكي يتطلب عقوداً طويلة لكي يستوعبها الناس وتتقيد بها السلطة. كما أن المواطنة تحتاج في نهاية المطاف إلى قدر من العلمنة. والكل يعرف سواء في سوريا أو في المنطقة أن تلك العلاقة ما زالت محلاً للجدل والتشكيك.
3- فصيل إسلامي امتطى صهوة الحكم في دمشق ليعيد الجدل حول ما أثير وما زال يثار في بلدان الربيع العربي بخصوص الإسلاميين وأنساقهم العقيدية التي لا تلين وقدراتهم على الحكم والإدارة. الإسلاميون لهم أعداء كثر، أولهم الإسلاميين أنفسهم، حيث يؤخذ عليهم، بجانب خلافاتهم الداخلية، ما يتسم به تفكيرهم من مركزية شديدة حول الذات وتعنت وانغلاق، وهي أمور يخشى معها على مستقبل سوريا القريب لأنها في أمس الحاجة إلى جرعات ضخمة من البرجماتية واللا أيديولوجية.
4- لغة خطاب ناعمة يتبناها القائد العام للإدارة السورية الجديدة أحمد الشرع تختلف عن خطابه المتشدد وقت أن كان مسئولاً عن جبهة النصرة ومن بعدها جبهة تحرير الشام ثم هيئة تحرير الشام، وهو ما يضع الإدارة السورية الجديدة في موضع شك انتظاراً لأفعالها وهل ستماثل أقوالها أم ستختلف عنها. فالشك عميق في أن اللين وخطابات التسكين ليست إلا طريقة للمراوغة إلى أن تستكمل القيادة الراهنة الهيمنة والتمكين. وفي دنيا السياسة، فإن أجهزة الاستخبارات والمحللين يبدأون بفحص دقيق للغة خطاب القيادات الجديدة جسداً وصورة وصوتاً وكلمة لأن الخطاب يحمل تصورات، والتصورات أول خطوة تحدد التصرفات.
5- ضغوط سكانية متزايدة ومظالم اجتماعية واسعة تنتظر سرعة الاستجابة لها سواء لتحسين ظروف المعيشة أو للإسراع بإنجاز العدالة أو لتوفير شروط معقولة تسمح بعودة اللاجئين السوريين المتلهفين إلى بلدهم.
6- بيئة إقليمية فوضوية كل ملفاتها متشابكة، تعج بالثعالب والضباع سواء كانوا دولاً أو جماعات لكل منها حساباته ومصالحه. وهي حسابات ومصالح بينها قليل من الاتفاق وكثير من التعارض. وعلى أرض رخوة كسوريا ستنفتح شهية المتنافسين الإقليميين لسد الفراغ. ولا تعني هزيمة البعض منهم فيها قبل أيام نهايةً مطلقةً لنفوذه، كما لا يدل انتصار بعضهم الآخر على أنه تمتع بالسيطرة المطلقة. فسوريا هشة والإقليم من حولها سائل لا يعرف أحد الشكل الذي سيكون عليه في المدى القريب. فالحدود قابلة للتغيير، والجيوش معبأة، بل ويخترق بعضها الحدود بسهولة إلى قلب سوريا، كما أن خطوط التماس بين الفرقاء المحليين مضطربة، وحركة السكان ومشروعات تهجيرهم في المنطقة معروفة، بجانب أن البحث داخل سوريا عن وكالات تنوب بموجبها قوى محلية عن قوى إقليمية ليس بجديد.
7- فلول غاطسة من النظام القديم أُخذت على حين غرة فتوارت لكنها تبقى شوكةً في جسد سوريا الجديد إلى أن يتم نزعها. وهذا هو ما يحدث باستمرار من بقايا النظام القديم بعد أن ينهار ويسقط رأسه. فالثورة متى نجحت تظل في مواجهة مع جيوب من بقايا النظام القديم. وتلك لا تقاوم فقط بشن أعمال عدائية عنيفة وإنما أكثر من خلال بيروقراطية العهد القديم التي تعرف كيف تتلون لتدافع عن امتيازاتها. ولأن هذه الفلول تعلم أن استيعابها مستحيل في جسد الثورة، فلن تجد أمامها إلا استنزاف العهد الجديد بكل السبل بما في ذلك البحث عن كفيل خارجي يحميها مقابل أن تنوب عنه لتمثيل مصالحه في سوريا.
8- قوى عظمى تعرف كيف تتفاهم مع بعضها حتى وهي تختلف مع بعضها. تلك القوى هي التي حسمت مصير الأسد الصغير فسمحت له بأن يفر هارباً، فلا دافعت عنه ولا تركته للثورة تصفي حساباتها معه. هذه القوى تنظر إلى سوريا ضمن حسابات كونية أوسع فتقدم إحداها للأخرى تنازلات على أرض الشام مقابل أن تحصل بعد ذلك على تنازلات ثمينة تهمها في أوكرانيا. وهي من يمسك اليوم بمفاتيح رسم ملامح الخارطة السياسية السورية الجديدة. وإذا كان الأوروبيون والأمريكيون والروس يكررون أن تلك الخريطة سيرسمها السوريون، فإن السوريين أول من يعلم أن بلدهم مغموس في قلب لعبة الأمم وعليه أن يقبل برسم مستقبله تحت أعين، إن لم تكن وصاية، القوى العالمية وممثليها الإقليميين.
9- غموض تاريخي يعتري المواقف المحلية والإقليمية والدولية تجاه الإسلام السياسي، مسرحه هذه المرة سوريا. فحتى الآن والجدل لم ينته حول ما فعله الإسلام السياسي في بلدان كمصر وتونس، ليأتي التغيير الأخير في سوريا ليجدده، بل وليأخذه إلى مستوى غير مسبوق من الاستقطاب بين من يرونه جزءً من الحل لا بد من الاعتراف به واستيعابه، وبين من يقطعون بأنه جوهر المشكلة ولا بد وأن يُصفّى ويُقتلع. وإذا كان الإقبال على زيارة دمشق بعد وصول الإسلاميين إلى حكمها سجل ارتفاعاً ملحوظاً بما في ذلك زيارات قام بها ممثلون لجهات عربية ناصبت الإسلاميين العداء خلال ثورات الربيع العربي، فإن معظم تلك الزيارات تم بهدف الاستطلاع والتنبيه وتوضيح شروط تلك الدول لفتح صفحة جديدة مع دمشق. فالأمر كله ما يزال مائعاً.
10- استثنائية مربكة ميزت المشهد السوري عن باقي حالات الربيع العربي. فما جرى في سوريا منذ الثامن من ديسمبر قليل التكرار ليس فقط في الشرق الأوسط، بل في العالم بأسره. ففي نفس الوقت الذي أسقطت فيه ثورة شعبية نظام حكم، كانت قوة أجنبية (إسرائيل) تسقط فيه دولة. ولذلك معنى وتبعات استراتيجية. فعلى السوريين وهم يرممون قدرات النظام القديم ليتمكنوا من تدبير أحوالهم، أن يأخذوا الشروط والتحفظات الإسرائيلية بعين الاعتبار وهم يعيدون بناء الدولة. وقد بعثت إسرائيل بتلك الشروط بوضوح وبسرعة في نفس اليوم الذي سقط فيه بشار، حيث سارعت فتوغلت داخل الأراضي السورية، وأعلنت نهاية اتفاقية فك الاشتباك الموقعة عام 1974، والأهم أنها حطمت أهم رمز للدولة الحديثة عندما دمرت القدرات العسكرية السورية تقريباً بالكامل. وكان ذلك أشبه ببلاغ صريح بأن إسرائيل بعد أن صفّت محور المقاومة ونزعت أوراق الحماية عن إيران وباتت المهيمن على الجوار، لن تسمح للدولة السورية الجديدة إلا بجيش أشبه بقوات شرطة لكن حجمها أكبر، يقتصر نشاطها على العمل داخل الحدود ولا يمتد إلى ما هو خارجها. وقد خلط التزامن بين هدم النظام وهدم الدولة الأمر على السوريين قيادة وجمهوراً. فبينما كان هدم النظام أمنية شعبية طاغية، فإن هدم الجيش شكل ضربة معنوية من شأنها تعقيد الأمور على السوريين عندما يفكرون في الوظيفة الإقليمية لبلدهم في المستقبل.
تلك التحديات العشرة ليست إلا بعض أشكال القلق التي تواجه سوريا من اليوم التالي لانتصار الثورة، وستظل تواجهها لفترة طويلة قادمة. والأرجح أن ما سيجري فيها سيأتي على نحو يشبه وجوه أصدقائي الثلاثة ليصيبنا كثيراً بالدهشة، وأحياناً بالفرحة، وأكثر بالقلق.
الدهشة في بيئة هشة
لن تقف الدهشة عند السرعة والطريقة التي سقط بها الأسد، بل ستتخطى ذلك عندما نرى خلال المرحلة الانتقالية ترتيبات تنهار تلو أخرى، واتفاقات تسقط تلو اتفاقات، وشخصيات تختفي بعد أن تظهر وتنتشر. فهذا طبيعي للغاية، بل ومتوقع. ومن الطبيعي أيضاً، بل والمؤكد، بعد زوال نظام بوليسي قمعي كنظام الأسد أن يدخل البلد في مرحلة طويلة من الخلخلة والجلجلة والبلبلة والزلزلة لتبدأ سلسلة من الفترات الانتقالية. والسبب في ذلك هو أن عملية التحول السياسي تبدأ من بعد هدم النظام القديم بعد أيام وربما أسابيع من الفرحة، أو لنقل شهر عسل، بتفجير كافة التناقضات في الرؤى والمصالح سواء حول هوية الدولة أو شكل التحالفات الخارجية أو فلسفة الاقتصاد أو طبيعة نظام الحكم أو دور الدين في المجال العام وعشرات القضايا الأخرى الأساسية. والتناقضات في أمور كهذه ليست ثانوية أو بسيطة وإنما رئيسية ومعقدة يصعب التوفيق بينها. وسوريا تعيش تجربة انتقال سياسي مليئة بكل هذه التناقضات، ما يجعل المشهد السياسي فيها سائلاً يختبر قدرة الإدارة الجديدة على دفعه إلى التماسك. وخلال تلك المحاولات ستبين النية وتتكون تحالفات وتوازنات تبدأ في التغير وهو أمر بدأ بالفعل لا يعلم أحد متى أو كيف سينتهي.
وفي ظل حالة السيولة هذه ستحدث وقائع لا بد وأن تثير الدهشة. والدهشة، برغم غرابتها أحياناً، تبقى مفيدة للمراحل الانتقالية لأنها قد تكون الباب الوحيد المتاح للتغيير. أليس هذا ما حدث عندما سقط نظام الأسد فجأة فكانت دهشة سقوطه هي المخرج إلى التغيير؟ واستحضار الدهشة سيكون مفيداً لأن اللاعبين السوريين المتواجدين في المشهد حالياً يحتاجون حتى ينجحوا إلى أن يتذكروا أنهم غير معصومين من الزوال مثلما زال بشار. فكل النخب السورية الحالية، الظاهرة والكامنة، الإسلامية والعلمانية، المرتبطة بقوى إقليمية أو المكتفية بقواعدها المحلية كلهم بلا استثناء مكتوبة أسماؤهم على خارطة المستقبل بقلم رصاص، قد تمحى سياسياً في أية لحظة.
مثل هذا الخوف من دهشة الزوال قد يعطي الجميع دروساً في فن التعايش السياسي. فلكي تبقى عليك أن تتنازل ولكي تستمر عليك أن تتعاون. لكن البعض ينسى دور المفاجآت في السياسة وأن الانتقال السياسي غالباً ما ينتهي إلى غير ما بدأ به وبوجوه غير التي استهل بها. وسوريا ليست استثناءً. فمن بدأ التغيير لن ينتهي على الأرجح وهو على رأسه، وستقع أحداث لا علم للحاضر بها لكنها ستثير الدهشة. والسؤال هنا كيف سيتلقف الشارع السوري تلك الأحداث وما هي ردة فعل المواطن البسيط إزاء المفاجآت؟ المأمول ألا تدفع الدهشة السوريين بسبب عصف الأحداث لأن يقولوا "ولا يوم من أيامك يا بشار". فقد ترددت عبارات شبيهة بذلك في العراق واليمن وتونس عبرت عن الندم على سقوط النظم القديمة في تلك البلدان. لكنها كانت عبارات فلولية بامتياز، أو جاءت على لسان من كانت لديهم تصورات وردية عن المستقبل ثم جاءت الحقائق لتصدمهم بصعوبتها ليغرقوا بسبب الصدمة في حنين إلى الماضي. والأرجح أن موقف كهذا لن يحدث في سوريا لأن نظام الأسدين الكبير الصغير لم يترك سورياً واحداً إلا وهو يكرهه، فيما عدا بطبيعة الحال قلة قليلة استفادت منه. ومع هذا فردة فعل الرأي العام في بلد كسوريا يعيش انتقال من مجهول إلى مجهول يبقى هو ذاته مجهولاً. لهذا، إن لم تقع الدهشة بسبب تصرفات النخب فقد تحدث نتيجة ما تؤول إليه تصورات وميول الرأي العام.
الفرحة في أرض مالحة
برغم الخوف من دهشة القادم ستبقى بهجة إسقاط النظام القديم حية. فما حدث لم يكن بالأمر البسيط وإنما مثّل نجاحاً شعبياً هائلاً بإمكان السوريين أن يبنوا عليه. فمهما وقع من مفاجآت خلال العام أو العامين التاليين، سيخرج السوريون في الثامن من ديسمبر 2025، والثامن من ديسمبر 2026 ليعبروا عن فرحتهم بزوال نظام مقيت قهرهم لنصف قرن. هذه الفرحة تحتاج إلى من يفهمها ويهتم بها لأنها فرحة غير قابلة للنسيان يمكن تعزيز الثقة المتبادلة بين السوريين من خلالها. فما حققه السوريون لم يكن سهلاً بالمرة كما أنه لا يشبه أي تجربة وقعت حولهم في الإقليم. فثورتهم هي ثورة الربيع العربي الوحيدة التي استمرت ثلاثة عشرة سنة، كما كانت الثورة الأكثر دموية حيث قدمت عشرات الآلاف من الشهداء وملايين من الجرحى واللاجئين. هذه الكلفة الباهظة ستبقى رادعة لكل التيارات الفكرية والسياسية، بل وللفصائل السورية المسلحة تذكرها بأهمية ضبط النفس وعدم وضع اليد من جديد على الزناد. ومثلما حملت العشرية الدموية في الجزائر الجزائريين على التبصر في طريقة حسمهم للخلافات، فالأرجح أن السوريين سيحاولون إدارة خلافاتهم السياسية قدر الإمكان بعيداً عن العنف. فما جرى لهم يكفي. لكن ما ينقصهم لكي يترسخ هذا الوعي النوعي المسؤول هو أن تبدأ الإدارة السياسية الجديدة التي تحركها عناصر جبهة تحرير الشام في تقديم تنازلات تثبت أن سوريا لن تكون غنيمة للغالب لأن ذلك إن حدث سيخرجها من دائرة الفرحة ليدخلها إلى دائرة الصدمة.
ومن شأن تقديم تلك التنازلات نزع فتيل كثير من التوترات المصاحبة للعملية الانتقالية. فهل يستطيع التيار الإسلامي الحاكم في سوريا فعل ذلك؟ الثابت بالتجربة عن التيارات الإسلامية إلى الآن أنها متى تمكنت أقصت غيرها. واللوم لا يقع عليها وحدها بالطبع لأنها تعرضت بالمثل لكثير من الإقصاء. لكن بحكم أنها امتلكت السلطة المجتمعية طويلاً قبل أن تصل إلى السلطة السياسية ولأنها نجحت في النفاذ إلى عقول الناس لعقود طويلة ثم الآن وهي تقبض على السلطة السياسية فقد بات عليها أن تبرهن للسوريين أنه بعد أن تمكنت من إسعادهم بإزاحة الأسد قادرة على تعزيز فرحتهم أيضاً في مرحلة ما بعد الأسد. وليس أمامها مدخلاً لذلك أفضل من تقديم تنازلات فكرية جوهرية تساعد على ترسيخ "المواطنة" وتحييد آلة الدولة فلا تكون على مقاس عقائدها السياسية. فإن استوعبت الإدارة السورية الجديدة ذلك لربما تمكنت من فك عقدة الإسلام السياسي الممتدة لقرون لتحقق اختراقاً تاريخياً. فنجاح الإسلاميين في بناء تجربة تعايش على قاعدة المواطنة الكاملة في سوريا قد يغير من نظرة المتشككين اقليمياً ودولياً في التيار الإسلامي الذي تمتع عبر التاريخ بتعاطف الشارع لكنه أثار أيضاً كثيراً من مخاوفه.
قلق في نهاية النفق
ماذا في نهاية النفق؟ هذا هو السؤال الأهم الذي لا تُعرف له إجابة بعد. فإذا كانت الثورة السورية أنتجت إدارة سياسية جديدة تسعى لملأ الفراغ، إلا أن خيارات تلك الإدارة النهائية لم تتضح بعد، بل إنها اختارت أن تمد الفترة الانتقالية وتؤجل الحوار الوطني، وهو أمر يثير القلق أكثر مما يكبحه. ومثل هذا الغموض هو ما يفسر التصريحات النمطية التي تلقتها إدارة الشرع من كل الوفود التي زارت دمشق تقريباً بأن بلادها تتوقع من إدارته أن تدير عملية انتقال شاملة وواسعة لا تقصي أو تستبعد أحداً، بل تستوعب كل الأطراف.
ويتضاعف القلق عندما تؤخذ سياسات اللاعبين الإقليميين في الحسبان لأنهم عندما يحثون الشرع على استيعاب كافة الأطراف فإنهم لا يعتنون إلا بالطرف المحلي الذي يرتبطون به إما بعلاقات مذهبية، أو تاريخية، أو اثنية، أو مصلحية. كما يزداد القلق أكثر لأن المسافة بين النظام الجديد في سوريا والقوى الكبرى ما تزال غامضة. فبعد أن كانت تلك القوى تنعت الشرع ورفاقه بالإرهابيين، تحولت فبدأت تعيد إنتاج صورتهم وتغيير أوصافهم. لكن هذا التحول لن يكون بلا ثمن. فما هو الثمن؟ وهل الشرع وإدارته على استعداد لدفعه؟ وهل لو دفعه سيرضى الداخل السوري عن ذلك؟ تكفي الإشارة هنا إلى الهمز واللمز، بل والنقد المباشر أحياناً، للشرع وإدارته من داخل سوريا أو في الإقليم حيال سكوته على ما تفعله إسرائيل. فإن كان ذلك السكوت يرضي الولايات المتحدة، فإنه يناقض أساسيات الخطاب الإسلامي، بل ويهز شرعية جبهة الحكم في الصميم. ثم إن الإدارة الجديدة في دمشق لم تشأ أن تحرق بطاقة روسيا بالكامل لأنها ليست على ثقة من أن العلاقة مع الولايات المتحدة ستمضي بلا مشاكل. وإذا كانت تركيا قد ساعدت على تمكين الحركة وفتحت قنوات اتصال بينها وبين الولايات المتحدة فإن حسابات أنقرة معقدة ويمكن أن تعود لتنزع من الحركة باليسار ما قدمته لها باليمين.
تساؤل آخر يثير القلق يتعلق بسقف الصبر عند السوريين، وقد صبروا لخمسين سنة من بينها ثلاثة عشرة عاماً امتلأت بالرعب والفزع. فقد اعتاد المواطن السوري لفترة ليست قصيرة على أن يعتمد على نفسه والعيش بدون دولة. كان يدبر احتياجاته بنفسه بمعزل عن الدولة وكأنها لا توجد، وكأنه لم يجمعه بها عقد اجتماعي. معنى ذلك أن المواطن السوري بعد العذابات التي لاقاها من الدولة بات مدرباً على إعطائها ظهره والانسحاب بعيداً عنها إن لم يجد من وعود التغيير التي يسمعها غير الكلمات. ووقتها لن يكون خياره غريباً. سيواصل انسحابه وانكفائه على ذاته مهملاً المشاركة في بناء الدولة، والأخطر من ذلك أنه قد ينقلب عليها مستعيناً بسلاح الطوائف والعشائر والمذاهب.
لهذا كله فالقلق على سوريا شديد. فهل ستبقى بنفس حدودها وتكويناتها المعروفة أم ستعاني من تمزقات وربما انسلاخات جغرافية لتنشأ تقسيمات جديدة؟ هل يمكن أن تنقسم سوريا إلى دويلات إن لم تستطع مكوناتها التعايش معاً؟ أم تستمر موحدة على الورق بأمر من القوى العظمى بينما مكوناتها منفصلة عن بعضها وظيفياً ونفسياً؟ ثم ما الذي ستحصل عليه إسرائيل من أرض سوريا بعد أن أوجدت الأولى حقائق جديدة على الأرض يرجح أنها ستسمح لدونالد ترمب بالنظر إلى أجزاء من سوريا على أنها جانب من الأرض التي كان يقصدها عندما قال: "نظرت إلى خريطة إسرائيل فوجدتها صغيرة جداً."
هذه الزوايا الثلاثة من دهشة مؤكدة من قادم مجهول، وفرحة ممزوجة بأمل في نموذج إيجابي للتغيير، وقلق على سوريا ومن سوريا، يجب أن تدفع أي مراقب إلى خفض توقعاته ليفكر قبل تغيير سوريا في تثبيت سوريا. فما هو تثبيت سوريا؟
تثبيت لدرء التفتيت
لا يوجد في السياسة غير ثابت واحد: التغيير. ومع ذلك فالتغيير يحتاج إلى اتفاق بين المشتركين فيه على ثوابت تسمح به وفق ضوابط دستورية وقانونية لا اختلاف عليها. وشيء من ذلك لا يتوفر في سوريا اليوم. فالحوار الوطني لم يبدأ، والمرحلة الانتقالية اقترح الشرع لها أربع سنوات وثلاث لكتابة الدستور. وهو ما يعني أن الاتفاق على ثوابت لإدارة التغيير غائب ما يضيف إلى قائمة المسائل المقلقة.
وبسبب هذا الفراغ لا يجب أن يُقاس الإنجاز في سوريا بالتقدم إلى الأمام وإنما بمنع العودة إلى الوراء ومنع الانزلاق إلى التفتيت. فالنسيج السياسي السوري مهلهل، والوجوه الجديدة المنتشرة في الفضاء العام متواضعة الخبرات في حين أن مهامها جسيمة. إذن ما العمل؟
العمل هو تبني سلسلة إجراءات وقائية لتثبيت ما تبقى من أسس الدولة والنظام، بجانب تثبيت آخر لحد أدنى من المبادئ المنظمة للتغيير لا يختلف الرأي على أنها بديهية. دون ذلك قد يصبح التفتيت مآلاً للكفاح السوري. ومشكلة التثبيت أنه نافع وضار في نفس الآن. فبرغم أهميته خلال فترات من المرحلة الانتقالية، فإنه قد يتحول إلى سبب للتجميد ما لم يجر تعريفه بشكل شديد الوضوح. ولكيلا يتحول من سبب للنفع إلى سبب للإضرار يجب أن يجري التثبيت السياسي وفق: 1- استراتيجية محددة، 2- توقيت معلن، 3- مجال بعينه، 4- هدف محدد. فإن لم تكن له استراتيجية وتوقيت وموضوع وهدف سيصوره بعض شركاء الانتقال على أنه خدعة تُخفي رغبة من اقترحه في تجميد الأوضاع على النحو الذي يحقق مصلحته دون مصالح باقي الأطراف.
والجوانب الأربعة لتثبيت سوريا يجب أن تأتي مرتبطة ببعضها: التوقيت، والاستراتيجية، والموضوع، والهدف. فالسنوات الأربعة المقترحة لإنجاز العملية الانتقالية ستكون مقبولة ومناسبة فقط إذا ما كان الهدف المطلوب تحقيقه واضحاً، ومجال العمل المشمول بالتغيير معروفاً، والاستراتيجية الحاكمة لذلك موضوعة بعناية. أما إذا كان مجال التثبيت فضفاضاً، وهدف التثبيت غامضاً، واستراتيجية التثبيت غير محددة، فالسنوات الأربعة التي حددها الشرع قد تمثل خطأً، بل وخطراً على سوريا حيث ستبدو وكأنها شراء للوقت من أجل الوصول إلى مآرب أخرى.
ونقطة البدء الأهم من بين العناصر الأربعة هي الاستراتيجية لأن العناصر الثلاثة الأخرى تُستمد منها. ونظراً لحالة الهشاشة المؤسسية التي عليها سوريا وافتقارها إلى أهم عناصر التثبيت وهي الثقة المتبادلة، فإن الاستراتيجيات التخفيضية وليس التعظيمية تعد الأنسب لتثبيت ما يمكن تثبيته قبل الخوض في محاولات التغيير العميقة. فسوريا ليست جاهزة للاستراتيجيات التعظيمية أو استراتيجيات الحد الأقصى حالياً Maximalist Strategies لأن تلك الاستراتيجيات ترفع سقف الرغبات إلى حد يزيد على الإمكانات، وتتضمن أهدافاً كبيرة لا توجد أدوات لتحقيقها، كما أنها توسع مجال التغيير ليشمل كل القضايا الشائكة مثل الهوية والدين والتعليم والسياسة الخارجية. واستراتيجية كهذه لا يمكن أن تنجح في حالة سائلة كحالة سوريا قبل أن تتوفر درجة مقبولة من الثقة بين مكونات المعادلة السياسية فيها. والمعروف أن إجراءات بناء الثقة في سوريا تعطلت منذ زمن بعيد، ولهذا فإن الأنسب لها في هذه المرحلة هي الاستراتيجيات التخفيضية أو استراتيجيات الحد الأدنى Minimalist Strategies لأنها متواضعة وتدرجية، كما أن مجال عملها ضيق وتوقيتها قصير وأهدافها مفيدة للجميع. يكفي مثلاً أن تجعل الإدارة الجديدة ومعها كل الأطراف الموجودة في المشهد من إعادة تشغيل المصانع وتسديد الرواتب هدفاً قومياً للجميع. فالتواضع مطلوب ونسيان الأحلام الكبرى ضرورة، كما أن الرومانسيات السردية المترهلة سواء العلمانية، أو الدينية، أو المذهبية، أو الطائفية لم تعد لها قيمة لدى من يقتلهم الجوع ويستبد بهم الخوف وتشقيهم البطالة.
هذه الاستراتيجية التخفيضية تبدأ بهدف متواضع لا اختلاف عليه، النجاح فيه ممكن، ومن شأنه أن يشجع على مواصلة التعاون في مجالات جزئية أخرى تُشعر الجميع بأنهم يتقدمون معاً خطوة خطوة. بجانب ذلك فإن تلك الاستراتيجية تحل إشكالية أدوات التغيير ومن يجب أن يملكها ويتحكم فيها. ولا شك في أن احتكار أدوات الإدارة الآن خطير إذا كان النقاش يتعلق بقضايا كبيرة مثل الشريعة والهوية، والتعليم، والدين، والدستور. أما إذا كانت الأهداف متواضعة كتدبير المازوت وإمدادات الغذاء وسداد الرواتب وتوفير الاحتياجات اليومية فأمرها أهون يمكن أن يتشارك الجميع فيه بما يستبعد مخاوف الإقصاء والاحتكار.
يبقى في النهاية أن التجارب الانتقالية لا تُخطط بالورقة والقلم ولا تسير وفق ما هو موجود في نظريات علم السياسة، وإنما تجري بعفوية وتلقائية وفق تطور الأحداث على الأرض. وستمضي التجربة السورية نحو التغيير إلى أن تتبين ملامحها. وملامحها الرئيسية حتى اللحظة ثلاثة: أ- بهجة مستحقة بعد إسقاط طاغوت، يصاحبها أمل في التحول إلى الأحسن، ب- دهشة لن تغيب من الكيفية التي طويت بها صفحة النظام البائد ستصاحبها دهشات متوقعة من الطريقة التي ستسير بها المرحلة الانتقالية، ج- قلق من مستقبل مجهول تزيد من غموضه حالة سيولة بعيدة كل البعد عن التماسك.
وإذا كان من طريق إلى التماسك فلن يكون بغير تثبيت الحد الأدنى من احتياجات السوريين أولاً بما يسمح بتعزيز إجراءات بناء الثقة بينهم، ويتيح للعملية الانتقالية أن تمضي بأقل درجة من الدهشة والقلق وبأكبر درجة ممكنة من الفرحة. والأمر مرهون بقدرة الإدارة الجديدة على تحرير عقليتها من السرديات الرومانسية التي دمرت ثورات الربيع العربي واحدة تلو أخرى. وإذا كان لدى تلك الإدارة الآن ما يشفع لها عندما اختارت الابتعاد عن اقتسام السلطة خلال المرحلة الانتقالية حتى لا تضطرب كما حدث في بلدان الربيع العربي الأخرى، إلا أن هذا المبرر لن يدوم طويلاً وإنما يلزمه تحديد تاريخ واضح ينتهي عنده الانفراد بالإدارة وإلا لتحول ذلك إلى مدعاة لجر سوريا من جديد إلى سنوات أخرى من السلطوية والإقصاء.
-------------
مركز الاهرام للدراسات