يرى البعض أن مشكلة المعارضة تكمن في ابتعادها عن الشارع وارتباطاتها الخارجية، وكذلك اتباع سياسة “تبديل الطرابيش” للحفاظ على بقاء وجوه محددة في قيادة عمل المعارضة السياسية، وعلى رأسهم مجموعة عُرفت اصطلاحًا بـ”G4″.
ويحاجج هؤلاء بأن المعارضة “فقدت قاعدتها الشعبية”، والدليل موقف الشارع منها.
هذه التفاصيل تناقشها عنب بلدي في هذا الملف، مع مجموعة من الباحثين والأعضاء السابقين والحاليين في هيئات المعارضة السورية، مع الحديث عن مستقبل المعارضة سياسيًا، في ظل متغيرات إقليمية ودولية تؤثر في الملف السوري بشكل أو بآخر.
خلافات متزامنة
مطلع أيلول/سبتمبر الحالي، عقد ممثلون عن منصتي “القاهرة” و”موسكو” في “هيئة التفاوض” و”اللجنة الدستورية” اجتماعًا عبر الفيديو، بمشاركة رئيس منصة “موسكو”، قدري جميل، ورئيس “تيار الغد” السوري، أحمد الجربا، ومنسقي المنصتين وأعضائهما في “هيئة التفاوض” واللجنة الدستورية.وخلال الاجتماع، جرى بحث آخر التطورات السياسية المتعلقة بالوضع السوري، وعمل “هيئة التفاوض” وضرورة توجيهه بحيث تلعب دورها الوظيفي في عملية التفاوض المباشر، بغرض التطبيق الكامل لقرار مجلس الأمن “2254”، مع الاتفاق على متابعة اللقاءات والتنسيق للخطوات اللاحقة، وفق تصريح صحفي مقتضب أعقب الاجتماع.
وقبل هذا الاجتماع بأيام قليلة، صدر عن منصة “القاهرة”، في 28 من آب/أغسطس الماضي، بيان بعد اجتماعين سابقين لـ”هيئة التفاوض” حول تعديل النظام الداخلي ومدة رئاسة “الهيئة”.
منصة “القاهرة” أعربت عن تحفظها على القرارات الصادرة عن “الهيئة” في هذا السياق، إذ رأت أن تعديل النظام الداخلي جرى بناء على أغلبية عددية، وهو يعد غير قانوني ويتجاهل الطبيعة التعددية التي تشكلت “الهيئة” بناء عليها، وفقًا للقرار “2254”، مع إشارتها إلى أن التعديل جرى اعتماده لإبقاء بعض الأشخاص في مناصبهم لفترات غير قانونية.
كما اعتبرت منصة “القاهرة” أن مسألة عدم إشراك بعض المكونات السياسية في الاجتماعات الأخيرة لـ”الهيئة”، وعدم دعوتها لحضور تلك الاجتماعات تثير القلق من أن يكون هذا النهج ليس مجرد تنظيم داخلي، بل تمهيد لخطوات سياسية لا تتماشى مع تطلعات الشعب السوري الذي يعلّق آماله على “هيئة التفاوض” في الدفاع عن حقوقه وتحقيق طموحاته المشروعة.
ودعت المنصة في بيانها إلى ضمان شرعية “الهيئة” وعدم الإضرار بمكتسب يخص الشعب السوري وحده، ولعدم الإضرار باستمرارية عمل “هيئة التفاوض” حتى تطبيق القرار “2254”.
وكانت “هيئة التفاوض” وبعد اجتماعات عقدت على مدار يومين، أصدرت، في 22 من تموز/يوليو الماضي، بيانًا أعلنت فيه تعديل نظامها الداخلي بموافقة أغلبية الحضور الممثلين لمكوناتها كافة، وتضمن ذلك تعديل شروط العضوية وزيادة المدة المحددة لتكليف قيادة “الهيئة” إلى سنتين بدلًا من سنة، قابلة للتمديد لمرة واحدة فقط.
وتحت عنوان مناقشة الواقع السوري وسبل تذليل التحديات التي تواجهه، عقدت مجموعة من الأجسام والهيئات السورية المعارضة اجتماعًا استضافته تركيا في 3 من أيلول/سبتمبر الحالي، وشاركت فيه كل من “الحكومة السورية المؤقتة” و”الائتلاف الوطني لقوى الثورة والمعارضة” و”هيئة التفاوض” ومجلس القبائل والعشائر” وقادة “الجيش الوطني السوري”.
ورغم تأكيد الأطراف المجتمعة على “أهمية استمرار عقد الاجتماعات لمناقشة المشكلات الطارئة وإيجاد الحلول المناسبة”، فإن ما تبع الاجتماع كشف عن وجود شرخ بين بعض المكونات التي شاركت فيه، إذ أعلنت “الجبهة الشامية” (من مكونات الجيش الوطني)، في 4 من أيلول/سبتمبر، تعليق عملها مع “الحكومة المؤقتة” بسبب خلاف مع رئيسها، عبد الرحمن مصطفى.
وقالت “الجبهة” في بيان لها، إنها علقت عملها مع “المؤقتة” حتى تتشكل “حكومة رشيدة”، وطالبت “الائتلاف” بعقد اجتماع طارئ لـ”حجب الثقة عن حكومة عبد الرحمن مصطفى”، مطالبة بإحالته إلى القضاء.
بيان “الجبهة الشامية” وجه مجموعة من الاتهامات لرئيس “الحكومة المؤقتة”، إذ قالت إن “عدائية” مصطفى ضدها معهودة، لكنها كانت غير مسبوقة خلال الاجتماع الأخير الذي انعقد في مدينة غازي عينتاب التركية.
كما لفت البيان إلى أن مصطفى وجه “سيلًا” من الاتهامات لـ”الجبهة الشامية”، سياسية وجنائية، محاولًا “تشويه صورتها” أمام المسؤولين الأتراك، ومهددًا بسحب الشرعية عنها.
واعتبرت “الجبهة” أن الاتهامات التي وجهها مصطفى لها، تصب في “مصلحته الخاصة”، وقالت أيضًا إن مصطفى اعتبر الحراك المعارض لحكومته في مدينة اعزاز شمالي حلب “مؤامرة تخريبية على حكومته وانقلابًا عليها”.
شخصيات غائبة وأخرى مستمرة رغم الإخفاقات
منذ الإعلان عن تشكيله في تشرين الثاني/نوفمبر 2012، تعاقبت على “الائتلاف الوطني لقوى الثورة والمعارضة السورية” وجوه سياسية كان لها حضورها في الملف السوري، كجورج صبرا وأحمد معاذ الخطيب، لكنها انسحبت في وقت لاحق وجمّدت نشاطها السياسي، وبات وضعها الحالي أشبه بالاعتزال، مع الاكتفاء بظهور إعلامي محدود عبر حوارات مصورة، أو ندوات حوارية، والتعليق على بعض القضايا والجوانب السياسية عبر وسائل التواصل الاجتماعي.بالتزامن مع خروج هذه الشخصيات من المشهد، ثبّت “الائتلاف” وجوهه، متبعًا سياسة تبديل الأدوار بين اللاعبين أنفسهم، للجلوس على كرسي رئاسة “الائتلاف”، ليتحول الجسم السياسي المعارض الأكبر من ناحية التيارات والأحزاب التي يضمها إلى نادٍ سياسي مغلق دون أي مساحة لدخول شخصيات جديدة وضخ دماء شابة فيه، قد تسهم في محاولة تغيير الواقع السياسي للملف السوري المعقد، أو بناء تحالفات جديدة بعد كل ما خسره “الائتلاف” والمعارضة السورية من حلفاء وأوراق تفاوض طيلة سنوات.
النظام الأساسي و”التحكم” الخارجي
وصل الملف السوري إلى حالة تعقيد وتشابك مصالح بين أطراف إقليمية ودولية فاعلة، بات معروفًا معها أن الجهات الممسكة والمتحكمة بالملف ليست محلية، سواء من طرف النظام أو المعارضة، إذ أعلنت دول عربية منذ أكثر من عام، توجهها لتطبيع العلاقات السياسية مع النظام السوري، ما قوبل ببيانات رفض ودعوات للتراجع صدرت عن “الائتلاف” لم تحدث فارقًا في التوجه السياسي لتلك الدول.ورغم تعثر نسبي في التقارب العربي مع النظام، فإن التوجه ما زال حاضرًا، وعلى أساسه افتتحت السعودية سفارتها في دمشق، قبل أيام، واستعاد النظام حضوره في جامعة الدول العربية قبل نحو عام ونصف.
ورغم كل هذه التطورات المتسارعة خلال العامين الماضيين، حافظت بعض الوجود والشخصيات السياسية على غيابها، وسياسية النأي بالنفس، دون تسوية خلافات قائمة مع سياسيين معارضين حاليين، وأقصى ما جرى في هذا الإطار شائعات ضعيفة عن استعداد بعضها لتشكيل جسم سياسي بديل عن “الائتلاف”، كما أن “الائتلاف” نفسه، لم يوجه دعوات لهذه الشخصيات في ظلّ هذه الظروف، للعودة للعمل بشكل جماعي، تداركًا للخسائر.
رئيس “الائتلاف” الأسبق، خالد الخوجة، أوضح لعنب بلدي أن غياب قيادات “الائتلاف” السابقة يرتبط بالنظام الأساسي لـ”الائتلاف” لدى تأسيسه، الذي ينص على تداول المواقع، وتحديد التمديد لرئيس هذا الجسم السياسي بدورتين، مدة كل منهما 6 أشهر، لكن السبب الأبرز هو التدخل الدولي في هندسة بنية “الائتلاف” الداخلية ليناسب توجه الإدارة الأمريكية تحت إدارة الرئيس الأسبق، باراك أوباما، لتعويم النظام وعدم تمكين المعارضة بشكلها الذي تأسست عليه، والذي يعكس نسب تركيبة المجتمع السوري التي تطغى عليها أغلبية “العرب السنّة”، وفق الخوجة.
وبحسب الخوجة، فالسياسي لا يعتزل العمل، لكن أسباب استقالة تلك القيادات والشخصيات لا تزال قائمة وآخذة في التفاقم، كما أن التواصل بين تلك القيادات السابقة والغيورين على تحقيق أهداف الثورة في الداخل السوري وخارجه قائم رغم الثقل الإقليمي والدولي لشرعنة النظام وليّ عنق المعارضة لتوائم تلك الشرعنة.
ومنذ تأسيس “الائتلاف” في 2012، تعاقب على رئاسته 11 شخصية، وكانت البداية مع أحمد معاذ الخطيب الذي شارك بالقمة العربية في 26 من آذار/مارس 2013، وألقى كلمة حينها باسم الشعب السوري، وكان الحضور الوحيد لرئيس “ائتلاف” لاجتماعات الجامعة العربية، بينما يتولى حاليًا رئاسة “الائتلاف” هادي البحرة.
الرئيس الأسبق لـ”الائتلاف”، نصر الحريري، أوضح لعنب بلدي أن القيادات الحالية اعتزلت السياسة التي لم تتقنها على أرض الواقع، وسلمت نفسها وقراراتها للغير، وبالتالي فهي مستبعدة من طاولة الترتيبات السياسية المتعلقة بمستقبل سوريا.
وأضاف أنه في حال كانت الشخصيات الحالية في المعارضة غير قادرة على التحرك أو اتخاذ قرارات حاسمة تصب في مصلحة سوريا، فهناك حاجة ملحة لتجديد الدماء على مستوى القادة والأعضاء، خاصة إذا كانت لا ترغب في الاعتراف بالمشكلة والعمل لحلها، أو إفساح المجال على الأقل لأشخاص أكثر تمثيًلا وانتماء.
وسط كل تعقيدات الملف السوري، لا تزال بعض الشخصيات السياسية تمارس عملها عبر شقّين، إما عبر وجودها ضمن تكتلات وهيئات سياسية، كـ”الائتلاف”، ومنها رئيسه، هادي البحرة، وبدر جاموس (رئيس هيئة التفاوض) على سبيل المثال، وإما عبر إبداء آراء ومواقف عبر حساباتها في وسائل التواصل الاجتماعي، كأحمد معاذ الخطيب وبرهان غليون وغيرهما.
ويبدو أن عوامل غياب هذه الشخصيات تتعلق عمليًا بعدم القدرة على التحرك في الملف السوري، سواء عبر “الائتلاف” وتعقيدات العلاقات بين أعضائه، بالإضافة إلى أنظمته الداخلية، أو بسبب ارتباط الملف بالدول الإقليمية، كتركيا وإيران، بالإضافة إلى القوى الدولية، كالولايات المتحدة الأمريكية وروسيا، وبالتالي على الشخصيات السياسية هذه أن تبني علاقات خارجية أكثر من علاقاتها السياسية المحلية مع أطراف أخرى.
وبحسب الحريري، فإن الوضع السوري الراهن يتطلب تغييرًا جذريًا في صفوف المعارضة لتصبح أكثر فعالية وتمثيلًا لمطالب السوريين، وهذا يعني بالضرورة التخلص من الارتهان للقوى الخارجية، والعمل على توحيد صفوفها ورؤيتها السياسية، وإنتاج قيادات جديدة ذات كفاءة ورؤية مستقبلية تتناسب مع التحديات الراهنة، والتركيز على بناء مشروع وطني جامع يضع مصلحة سوريا فوق كل اعتبار، بحسب رأيه.
“غياب الديمقراطية” والبعد عن السوريين
مقابل غياب بعض الشخصيات السياسية عن المشهد السوري، يستمر سياسيون آخرون بالعمل ضمن “الائتلاف”، الذي لا يكاد يخلو بيان من بياناته من التأكيد على “الاستمرار بالعمل على تحقيق متطلبات الشعب السوري وحقه في الحرية والكرامة”.“الائتلاف” الذي يؤكد قولًا على استمرار عمله لتلبية تطلعات الشارع، وبقاء أعضائه في مناصبهم عمليًا، لم ينجُ من غضب السوريين، سواء عبر التعليقات الساخرة على وسائل التواصل الاجتماعي، أو على الأرض، عندما تعرضت مؤسساته وشخصيات تنتمي إليه للهجوم في شمال غربي سوريا من قبل متظاهرين غاضبين، في أيلول/سبتمبر 2023، حين أغلق محتجون غاضبون مبنى “الائتلاف” في مدينة اعزاز بريف حلب، كنوع من الرفض لهذه المؤسسة.
مصدر قيادي في “الائتلاف” طلب عدم ذكر اسمه، قال لعنب بلدي، إن أعضاء الجسم السياسي الأكبر للمعارضة السورية لديهم قناعة بأنهم لا يمثلون السوريين، وكذلك لا فائدة من الاستمرار بعملهم في “الائتلاف” نفسه.
وأوضح أن نظرة أعضاء “الائتلاف” لهذه المؤسسة تصوّره كبرلمان لهم، ولا توجد لديهم أي مخاوف من تشكيل جسم سياسي جديد على اعتبار أن المجتمع الدولي، وفي ظلّ الظروف الراهنة، لن يعترف به، كما يعرفون أنهم بعيدون كل البعد عن السوريين وآمالهم.
وفق المصدر، فإن الأعضاء لا يريدون حلًا سياسيًا في سوريا باعتباره سيأتي على حسابهم، خاصة مع جمود الحل السياسي وتوقف المعارك، مع غياب القناعة بأن الأسد راحل عن حكم سوريا خلال فترة قريبة.
ويرى المصدر نفسه، أن “الائتلاف” تغيب عنه الثقافة الديمقراطية، وأن الأعضاء متمسكون بالبقاء فيه دون أي فوائد مادية أو سياسية في الوقت الحالي على الأقل، وسبق أن قدمت مقترحات بتحديد مدة زمنية لكل عضو من الأعضاء كطريقة لتداول المقاعد وضخ دماء جديدة، لكن هذه المقترحات قوبلت بالرفض.
وسبق أن انتقد أعضاء سابقون في “الائتلاف” طريقة التصويت في انتخاباته، وتحديدًا ما يسمى “آلية التفويض”، التي تنص على انتخاب عشرة أعضاء كمفوضين عن حوالي 77 عضوًا.
وشابت الانتخابات الأخيرة لـ”الائتلاف”، في أيلول/ سبتمبر 2023، اتهامات متبادلة بالتزوير والتهديد والإجبار على انتخاب هادي البحرة رئيسًا له.
عضو الهيئة السياسية لـ”الائتلاف”، عبد الله كدو، قال لعنب بلدي، إن “الائتلاف” تشكل في ظروف معينة صعبة بتأييد أكثر من 100 دولة، منها دول عظمى وأخرى فاعلة في الساحتين الإقليمية والدولية، لكن خصوصية موقع سوريا الجيوسياسي ومصالح الدول، إضافة إلى ضعف تجربة ممثلي الشعب السوري في التحالفات وفي السياسة التي ظلت ممنوعة من قبل “نظام البعث” لنحو نصف قرن، أدت إلى عدم تحقيق ما كان يصبو إليه الشعب السوري خلال الـ13 سنة الماضية.
كدو لم ينفِ أن على المعارضة تحسين العوامل الذاتية التي تستند إلى الانفتاح على عموم الشعب السوري، وإجراء تقييم جريء لمسيرتها وتجديد أساليبها وتفعيل أدواتها، لكنه أشار إلى أن “الائتلاف” يضم ممثلين عن معظم مكونات سوريا ويحافظ على شعارات الثورة، ويتمسك بالقرارات الدولية إزاء حل القضية السورية.
ولا يعتقد كدو أن من الضرورة أن تكون الاتهامات الموجهة لـ”الائتلاف” حول فشله بإدارة الملف السوري صحيحة، معتبرًا أن أي مكوّن من المعارضة السورية لم ينجُ من تهم مشابهة، وأن أكثر من نصف الأعضاء الحاليين فيه ليسوا من المؤسسين، وهذا لم يتحقق في مؤسسات وأحزاب سورية أخرى.
ويرى عبد الله كدو أن النجاح والتقدم في المسيرة السياسية مرتبط بعوامل موضوعية وذاتية معًا، وليس فقط بنوعية وقدم أعضاء قيادة المعارضة، بينما يرى الرئيس الأسبق لـ”الائتلاف”، نصر الحريري، أن المشكلة تكمن في ارتهان “الائتلاف” لدول متخبطة سياسيًا ولا تملك استراتيجيات واضحة ونافعة في الملف السوري، في حين يجب أن تكون العلاقة بين المعارضة وهذه الدول قائمة على المنفعة المتبادلة.
وتتبع لـ”الائتلاف” ثلاث مؤسسات تعمل في الشؤون المحلية السورية الداخلية، هي “الحكومة المؤقتة” و”الهيئة السورية للحج والعمرة” و”اللجنة الأولمبية الوطنية”.
نقاط قوة وضعف.. التغيير ضرورة
تعيش المعارضة السورية اليوم على أنقاض ركام سياسي تشكّل سابقًا بسبب ظروف دولية كانت تولي الملف السوري اهتمامًا، لكن مع تناقص هذا الاهتمام تدريجيًا متأثرًا بظهور أزمات دولية جديدة تكتسب أهمية أعلى على سلّم أولويات الدول الفاعلة، لم يبقَ للمعارضة أثر سياسي ملموس، بينما لا يبدو واضحًا إذا كانت تسعى لإعادة هذا الأثر.وتعاني مؤسسات المعارضة اليوم بعد أكثر من عقد من المتغيرات السياسية التي حلّت على الملف السوري، من العديد من نقاط الضعف، أبرزها تراجع الاعتراف أو التعامل الدولي معها، فالعديد من الدول التي كانت تعترف بهذه المؤسسات أصبحت تُقلل من مستوى التعامل معها، لدرجة أن اللقاءات مع قيادات المعارضة باتت تجري مع موظفين من الدرجة الرابعة في وزارات خارجية الدول التي لا تزال تتعامل مع المعارضة السورية.
رئيس “الائتلاف الوطني لقوى الثورة والمعارضة السورية”، هادي البحرة، قال خلال حوار سابق أجرته معه عنب بلدي، إن من أبرز المشكلات التي تواجه المعارضة اليوم، ظهور ملفات أكثر أهمية وإلحاحًا من سوريا على الساحة الدولية.
وأضاف أن “الائتلاف” يحاول اليوم إعادة حضور سوريا على قائمة أولويات الدول الفاعلة، لكن هذا الطرح لم يشهد نتائج حتى اليوم، رغم مرور نحو عام على الحديث عنه.
مدير قسم تحليل السياسات في مركز “حرمون للدراسات المعاصرة”، سمير العبد الله، يعتقد أن نقاط ضعف المعارضة لا تقتصر على حضور الملف السوري على الساحة الدولية، إنما تكمن بشكل أساسي في فقدان الثقة الشعبية بها.
وأضاف العبد الله لعنب بلدي، أن حالة عدم الثقة هذه تعمّقت بسبب ما أُطلق عليه “المسرحيات” التي شهدتها المعارضة في السنوات الأخيرة، مثل تبديل القيادات دون إحداث تغييرات حقيقية، وفق ما يعرف بـ”تبديل الطرابيش”.
التمديد لبعض قيادات المعارضة أفقدها قاعدتها الشعبية، وفق الباحث، وصولًا إلى تعديل الأنظمة الداخلية لتلك المؤسسات لتحقيق ذلك، يضاف إلى ذلك غياب الشخصيات الوطنية عنها.
ويرى العبد الله أن هذه العوامل قوضت ثقة الشارع السوري في تلك المؤسسات، التي بات يُنظر إليها على أنها جزء من المشكلة وليست جزءًا من الحل.
الملف بحاجة إلى معارضة
رغم المشكلات التي تتكرر في أروقة مؤسسات المعارضة السورية، تبقى نقطة القوة الأساسية أو السبب الذي يحافظ على وجودها هو الحاجة الدولية لممثل عن المعارضة السورية، وفق الباحث سمير العبد الله.ويرى الباحث أن الدول الفاعلة في الملف السوري بحاجة إلى جهة تستطيع التوقيع على اتفاقيات تخص سوريا، وبالتالي فإن هذه المؤسسات تظل موجودة حتى لو كانت فاعليتها محدودة.
السياسي المعارض السوري فايز سارة، كتب في صحيفة “الشرق الأوسط” مقال رأي قال فيه، إن في هيكل المعارضة الأساسي شخصيات من “الائتلاف” وتشكيلات قريبة منه، أبرزها “الهيئة العليا للمفاوضات” و”اللجنة الدستورية” ومجموعة “أستانة”.
وأضاف أن غالبية من تبادلوا الأدوار في قيادات المعارضة منذ تشكيل “الائتلاف الوطني” عام 2012 لهم علاقات بمديري الملف السوري في الدول المتدخلة في سوريا، ولا سيما تركيا والولايات المتحدة وروسيا وبعض الدول الأوروبية والعربية، والشائع أن معظم المستقلين لهم مثل تلك الروابط، ويرغبون في لعب دور قيادي في المرحلة المقبلة، وفق سارة.
وبغض النظر عما يقال في موضوع سعي غالبية المجموعة للتمسك بمناصبهم ودورهم والعمل للبقاء في مركز القرار، اعتبر سارة أن من المهم الإشارة إلى مسار تحالفات المعارضة المتبدلة داخل “الائتلاف” والتشكيلات القريبة منه، وعلاقاتها مع ما أسماها “تشكيلات الظل الإسلامية”، ثم التوقف عند إجمالي تجاربها في المسؤوليات القيادية التي تولتها في السنوات الماضية، والتي لم تتمخض عنها نتائج ذات أهمية كما في “أستانة” و”اللجنة الدستورية”، وقد عملت على استمرارها لسنوات تحت حجج وادعاءات.
وختم سارة مثاله بالقول، إنه ما من معارضة في العالم منذ نهاية الحرب العالمية الثانية مهما كانت قوية، استطاعت تغيير أو إسقاط نظام في أي بلد من دون الاستعانة بطرف أو أطراف من الجوار أو الأشقاء والأصدقاء، “فكيف إذا كانت المعارضة في ضعف ودمار وأمراض المعارضة السورية؟”.
خسارة مكتسبات
لا ترتبط أسباب خسارة مؤسسات المعارضة للمكتسبات التي حققتها في السنوات الأولى فقط بالظروف السياسية الدولية وتغير مزاج الدول من القضية السورية، بل تتعلق أيضًا بمشكلات داخلية لتلك المؤسسات نفسها، وفق ما يراه الباحث سمير العبد الله.وقال الباحث، إن انحدار المعارضة بدأ بهيمنة جماعة “الإخوان المسلمين” على مفاصل مؤسساتها بشكل واضح، ثم جاء دور مجموعة “G4” التي سيطرت على المؤسسات، ما أفقدها الكثير من الثقة، خصوصًا على الساحة الدولية.
ويقصد بمجموعة “G4” أربعة أعضاء رئيسين في “الائتلاف” هم بدر جاموس، وأنس العبدة، وعبد الأحد اصطيفو، وهادي البحرة.
وتنظر اليوم جهات فاعلة في الملف السوري إلى المعارضة السورية على أن لا قدرة لها على تمثيل الشعب ومطالب السوريين بشكل حقيقي.
وأضاف أن المشكلة الأساسية لهذه المؤسسات تكمن في نقطتين رئيستين، الأولى تتجلى بهيمنة بعض الشخصيات على هذه المؤسسات واستمرارها في مناصبها عبر تمديد فترات توليها أو تبادلها فيما بينها.
وللحفاظ على مناصبها، قدمت هذه الشخصيات المعارضة تنازلات وصفها الباحث بـ”الكبيرة” للدول الداعمة لها، ما أدى إلى تفاقم الفجوة بينها وبين الشارع السوري.
أما السبب الثاني فيتجلى بتكرار عمليات تعديل الأنظمة الداخلية لتلك المؤسسات بما يخدم مصالح شخصية لبعض هذه الشخصيات، وإبعاد العديد من الشخصيات الوطنية عنها.
ويرى العبد الله أن الحل لا يكمن بإلغاء هذه المؤسسات، بل في استبدال القائمين عليها كلهم، وتعديل الأنظمة الداخلية لها، والعمل من الداخل السوري لتمثيل إرادة الشعب السوري بشكل حقيقي.
التغيير ضرورة
تشير الخلافات والاختلافات بين أطياف المعارضة إلى ضرورة تجاوز الهياكل الحالية، لأنها أصبحت بعيدة عن الأهداف التي أٌنتجت لأجلها، بحسب ما يراه الدكتور حسام الحافظ، رئيس المكتب القانوني في “اللجنة العليا للمفاوضات” لعامي 2016 و2017، وعضو وفد مفاوضات المعارضة السورية لعام 2014.كما أن هذه الهياكل السياسية تجاوزت الكثير من المفاصل القانونية والسياسية والواقعية التي أدت إلى إنشاء هذه الهياكل، ومنها “الائتلاف” و”هيئة التفاوض” و”اللجنة الدستورية” التي لم يكن للسوريين على ضفة قوى الثورة والمعارضة أي دور في تشكيلها أو قبول تشكيلها.
الحافظ في حديثه لعنب بلدي، لا يتفق مع أن خلق أجسام سياسية جديدة قد يكون مضرًا بتمثيل قوى الثورة والمعارضة، إذ يعكس تطور الحالة والوعي لدى الثورة والمعارضة، فلا يمكن الاستمرار بأجسام سياسية لا تمثل سوى نفسها، حتى لو حققت سابقًا شرعية ما، فهذه الشرعية لم تعد موجودة منذ زمن طويل.
وتابع أن حملة هذه الأفكار والطموحات يجب أن يجري اختيارهم بآلية مبتكرة وجديدة، مع سبر للأجسام السياسية وشبه السياسية، ويتم التوافق على مجموعة أشخاص ضمن لائحة تنفيذية ولائحة داخلية جديدة تمثل البوصلة الجديدة، مع إمكانية الاستعانة بمجموعة من المشهود بنزاهتهم، “سواء ممن ابتعدوا أو أُبعدوا عن المشهد”.
لا بد من تجاوز الوضع الحالي، ولا يمكن الركون إلى أن هذه الأجسام لها شرعية، فهي لا تملك شرعية فعلًا، ليس فقط بالنظر إلى مستوى الخلافات بينها، فهي أيضًا لا تملك أي تأثير في سير الأحداث السياسية والميدانية المرتبطة بالملف السوري، وكانت في بعض الأحيان أداة بيد الآخرين لحرف البوصلة أو تأكيد واقع غير مرحب به وغير مقبول ولا يصب في مصلحة السوريين، وفق الحافظ.