ليس جديداً، إذاً، أن يستأنف بشار الأسد هذا الإرث الدامي في محافظة ومدينة درعا هذه الأيام، بطرائق ليست البتة أقلّ همجية، وإنْ كانت تنهض على مقاربة تختلف بهذا المقدار النسبي أو ذاك، بسبب من متغيرات شتى تخصّ الشارع الشعبي، والمحيط الإقليمي، وأنساق التواصل، ومناقلة المعلومات، وسطوة الصورة؛ فضلاً، بالطبع، عن صفات تخصّ شخصية الوريث ذاته، بينها الطيش وقلّة الخبرة والغطرسة وقصر النظر والفذلكة العقلية واستيهام الشعبية. وليس بمنأى عن المنطق البسيط، استطراداً، أنّ تكون 11 سنة من توريث الابن هي محض إضافة حسابية إلى سنوات حكم الأب.
وذات يوم نُسب إلى الأسد الابن قوله، في اجتماع مشترك للقيادة القطرية لحزب البعث وقادة الأجهزة الأمنية، إنّ "حافظ الأسد يحكم سورية من قبره"، ولم تكن العبارة مزيجاً من الوعيد والتهديد والتمنّي، فحسب؛ بل انطوت على مقدار كبير من الصحة، عملياً، لجهة إدامة الإستبداد والفساد، والحفاظ على بنية النظام وتوازناته الداخلية الأساسية، ومحاصصة القوّة وأنساق النفوذ وحُسن توزيعها على الأطراف. وهذه السطور ستكتفي بالشأن الداخلي السوري في استقراء انعكاس صيغة الحكم من القبر، مع إشارة ضرورية إلى انعكاساتها في السياسة الخارجية أيضاً، ولكن ضمن مواصفات القصور ذاتها التي اتصف بها الابن بالمقارنة مع الأب.
وأجد ضرورة في التأكيد، اليوم أيضاً، على جانب خاصّ في حكاية حكم الموتى للأحياء، هو أنّ النرجسية العالية (التي يردّد العارفون بشخصية الأسد الابن أنها العنصر الطاغي على تفكيره اليوميّ)، قد لا تكتفي بتحويل ماضي "الحركة التصحيحية" إلى مرجعية دائمة للحاضر وللمستقبل، فحسب؛ إذْ قد تنتقل، في طور لاحق أخذ يتجلى أكثر فأكثر، إلى نزوع طبيعي نحو قتل الأب، ليس كرهاً له بالطبع، وليس حرصاً على محو ذكراه أيضاً، بل رغبة في التفوّق على صورته القوية المهيمنة. وبذلك فإنّ العبارة يمكن أن تحمل المدلولَيْن، معاً، وبصفة متكاملة: أنّ الأب حاكم لأنّ تراثه مقيم، ثابت، مقدّس؛ وأنّ قتله خطوة واجبة لكي يدخل تراثه ذاك في صيرورة تحوّل، باسم الابن هذه المرّة!
أجدني، كذلك، أستعيد هذه الفقرة الدالة، من حديث الأسد الابن مع صحيفة "نيويورك تايمز" الأمريكية، أواخر العام 2003 (وهي فقرة حذفتها وكالة الأنباء السورية، ولم تُنشر في أيّ من الصحف السورية الرسمية)، جواباً على السؤال التالي: "تدور في مصر نقاشات حول مَن سيعقب مبارك، ويقول البعض هناك: نحن لسنا سورية. أترى في هذا إهانة لكم"؟ أجاب الأسد: "كلا، لأنّ الرئيس الأسد ليس هو الذي جاء بي إلى السلطة. حين توفي لم أكن أتولى أيّ منصب. ولهذا يجب أن تتوجه بالسؤال إلى الشعب السوري. إذا ذهبت إلى الـ CNN وغيرها من المحطات التي أجرت مقابلات مع السوريين، ستجد أنني جئت من خلال السوريين، وليس من خلال الرئيس الأسد"!
وهكذا، لم يتوقف الابن عند تذكير الناس بكلّ ما انطوت عليه عقود "الحركة التصحيحية" من قمع وفساد ونهب وتخريب، للسياسة والاقتصاد والاجتماع والثقافة والنسيج الوطني والسلم الأهلي، بل ذهب أبعد وأسوأ، واختار من ألوان الإستبداد ما هو أشدّ فظاظة تجاه كرامة المواطن، من جهة أولى؛ وأكثر خفّة، واستهتاراً، بحاضر سورية العربي والإقليمي والدولي، من جهة ثانية. أعود، هنا، إلى مثال أوّل يتيح المقارنة بين سياسات الأب والابن، وأعني قرار رئيس مجلس الوزراء الذي قضى بصرف العشرات من الخدمة في الدولة، بسبب توقيعهم على بيانات سياسية معارضة، أو داعية إلى الإصلاح.
هنا وجه المقارنة: خلال سبعينيات القرن الماضي، في السنوات الأولى من عهد "الحركة التصحيحية"، أصدرت وزارتا التربية والتعليم العالي (بتوجيهات مباشرة من القيادة القطرية لحزب البعث) سلسلة قرارات قضت بإبعاد أعداد كبيرة من المدرّسين الشيوعيين، وكذلك المدرّسين ذوي الخلفيات الإسلامية، من قطاع التعليم إلى وزارات أخرى لا صلة لها البتة بالتعليم. وبناء على تلك القرارات، توفّر مدرّس لغة إنكليزية يعمل مراقباً للتموين، أو مدرّس رياضيات يعمل في وزارة الأوقاف، أو مدرّس تاريخ يعمل في وزارة الكهرباء!
وبهذا المعنى فإنّ السلطة كانت تسعى إلى درء الأخطار السياسية والتربوية والفكرية التي يمكن أن تنجم عن بقائهم في قاعة التدريس، وليس إلى عقابهم على انتماءاتهم السياسية أو أفكارهم، وإلا لما اعتورها أيّ حياء في إلقاء القبض عليهم. لكنّ الطرد من الوظيفة، بسبب التوقيع على بيان وليس الإنتماء إلى حزب معارض بالضرورة، أثبت قناعة الأسد الابن بأنّ العقاب على الأفكار ينبغي أن لا يقتصر على كمّ الأفواه والمنع من السفر والإعتقال والإحالة إلى محاكمات كاريكاتورية قرقوشية؛ بل يجب أن يشمل قطع الأرزاق أيضاً، وربما أوّلاً. نحن البلد، ونحن الدولة، ومَن لا ينضوي في صفّنا، سياسياً وعقائدياً وأمنياً أيضاً، فلا يهتف "الله! سورية! بشار وبسّ!" (لاحظوا أنّ الهتاف هذا يستبدل بشار بالحرية، مقابل الهتاف الشعبي الشائع اليوم: "الله! سورية! حرّية وبسّ!")... فليس له مكان في دولة(نا)، ولا رزق له في "وزارات(نا) ومؤسسات(نا)!
لكنّ الأسد الابن، حين أعطى أوامره لأجهزة الأمن باستخدام الرصاص الحيّ ضدّ المتظاهرين في درعا، واختار وحدات خاصة في الجيش لاقتحام مسجد المدينة العريق وسفك المزيد من الدماء في باحته وداخل جدرانه، كان قد عبر نهر الروبيكون، الدامي تماماً كما يتوجب القول، ليصبح الدم هو الفاصل بينه وبين الشعب، وهو الفيصل الصريح والأقصى. ولقد دقّ، بنفسه، بمطارق الإستبداد والفساد إياها، ثلاثة مسامير كبرى في نعش نظامه الآيل إلى سقوط، بَعُدت اللحظة أم دنت، وتعددت طرائق الخداع والتضليل والكذب أم اقتصرت دفاعات السلطة على إراقة الدماء هنا وهناك.
المسمار الأوّل هو الإطمئنان، الناجم بالضرورة عن اختلاطات الطيش والغطرسة والنرجسية، إلى أنّ هذا الحراك الشعبي، في دمشق وبانياس ودير الزور وحمص والقنيطرة، قبل درعا، لا يمثّل إلا فئة من "المندسين" و"العملاء"، لأنّ الشعب بأسره يحبّ الرئيس، بدلالة هذا الشعار الذي تغصّ به شوارع سورية: "منحبّك"! وكان أمراً تلقائياً، أو بالأحرى غريزياً، أن يفضي ذلك الإطمئنان إلى يقين الدكتاتور، وناصحيه من شركاء النهب والحكم العائلي، بأنّ علاج هذه الفرقة الضالة يحتاج إلى خيار الأرض المحروقة، والبتر المبكر، على الفور، دون أي ترجيح حتى لاحتمال العلاج بالكيّ. ولقد كان مذهلاً، حتى لأصدقاء النظام الإقليميين (رئيس الوزراء التركي رجب طيب أردوغان، على سبيل المثال)، أن يلجأ النظام إلى الذخيرة الحية في مواجهة أوّل تظاهرة سلمية نوعية، وأن يسقط أربعة شهداء في ساعات قليلة.
المسمار الثاني هو الإستهانة بالمغزى الرمزي، قبل ذاك الديني، لاقتحام مسجد أوى إليه جرحى ومواطنون لا يحملون حتى الحجارة، وليس لهم أن يتسببوا بأي أذى للمفارز الأمنية والوحدات العسكرية التي تطوّق المسجد. ولكي تًضاف الإهانة إلى الجرح، وتُخلي المأساةُ مشهدها الدامي لصالح مهزلة ركيكة سخيفة مكرورة مستهلكة، دخلت عدسات إعلام السلطة إلى المسجد لكي "تضبط" الأموال والأسلحة المخزّنة هناك، والتي وصلت إلى "المندسين" من جهات خارجية. كأنّ الأسد لم يتعلّم أبسط الدروس من اتهامات مماثلة، ساقتها سلطات الإستبداد العربية في تونس ومصر واليمن وليبيا، ولم تعد أضحوكة المواطن العربي، والبشر في مشارق الأرض ومغاربها، فحسب؛ بل صارت مبعث اشمئزاز وقرف.
أو، في مقارنة أخرى، كأنّ الابن نسي حرص أبيه ـ وكان أشدّ بطشاً واستشراساً في قمع الاحتجاج، أياً كانت طبيعته أو نطاقاته ـ على تفادي اقتحام المساجد، حتى حين أعطى الأوامر بقصفها، خالية كانت أم على رؤوس اللاجئين إليها من بني البشر. صحيح أنّ رهط المنافقين من المشائخ، المطبّلين المزمّرين للنظام، التزموا الصمت المطبق؛ ومثلهم فعل رجال دين عرب ذوو حظوة ومكانة، مثل الشيخ القرضاوي والسيد حسن نصر الله؛ إلا أنّ اقتحام مسجد آمن مسالم يتجاوز بكثير حرق الأصابع جرّاء لعب الهواة بالنار. هذا، أغلب الظنّ، ما أدركه الأب الأريب، وفات على الابن "الممانِع" و"المقاوِم" أن يتحسب له.
المسمار الثالث هو احتقار الذاكرة الشعبية السورية، عن طريق اقتراح حلول تنطلق من افتراض الدرجة صفر في الذكاء الأخلاقي للمواطن السوري، أو الدرجة صفر في كرامته الوطنية، كما حين اختار الأسد أن يكون وسيطه في الحوار مع أهل درعا هو اللواء رستم غزالي، أحد كبار أدوات الفساد والإستبداد، دون سواه! الأرجح أنّ منطق اعتماد غزالي انطلق من اعتبارات مناطقية صرفة، كأن يكون اللواء من أبناء المحافظة، وأن تكون له بالتالي "موانة" على أهلها وشهدائها، أياً كانت موبقات غزالي في قمع أبناء محافظته أنفسهم، لكي لا يتحدّث المرء عن "أمجاد" اللواء في عنجر وسائر لبنان.
وفي كلّ حال، بينما كان "الوسيط" يسعى إلى ممارسة مهاراته في التفاوض، كما اكتسبها من سيّده السابق اللواء غازي كنعان، أو من مراقبة ألاعيب أصدقائه الساسة اللبنانيين الأفاقين، كانت وحدات عسكرية خاصة قد تلقّت لتوّها الأوامر بحصار المدينة، وقطع الكهرباء عنها، وكذلك اتصالات الهاتف الجوّال والإنترنت، تمهيداً لارتكاب المجزرة في المسجد العمري، بعد ساعات قلائل. في السياق ذاته، بدا الأسد مستعداً لتقديم كبش فداء إلى مواطني درعا، تمثّل في مرسوم إقالة المحافظ فيصل كلثوم، متناسياً أنّ أهالي المحافظة يدركون جيداً أنّ الأخير لم يكن سوى بيدق صغير في شطرنج بيت السلطة، ومسنّن أصغر في آلة الفساد الجهنمية، ومن الإهانة اعتبار إقالته بلسماً لجراح المحافظة ولأمهات الشهداء الثكالى.
هذه، غنيّ عن القول، مسامير أولى سبقت سواها، ولسوف تعقبها أخرى، ما دامت مطارق النظام تشتغل دون كلل لإدامة حال عالقة، مستعصية في الفساد وعصية على الإصلاح، فصار دوامها من المحال، وأخذت ملامح انقلابها ترتسم أوضح، حتى إذا بدت أبطأ، ولاحت تباشير أثمانها أبهظ وأغلى. ومجزرة الجامع العمري، بين علائم نبيلة كثيرة أخرى، دشّنت اقتراب الساعة، وانتصار الشعب، وبزوغ فجر سورية الحرّة الديمقراطية الكريمة.
-----------------------
القدس العربي
وذات يوم نُسب إلى الأسد الابن قوله، في اجتماع مشترك للقيادة القطرية لحزب البعث وقادة الأجهزة الأمنية، إنّ "حافظ الأسد يحكم سورية من قبره"، ولم تكن العبارة مزيجاً من الوعيد والتهديد والتمنّي، فحسب؛ بل انطوت على مقدار كبير من الصحة، عملياً، لجهة إدامة الإستبداد والفساد، والحفاظ على بنية النظام وتوازناته الداخلية الأساسية، ومحاصصة القوّة وأنساق النفوذ وحُسن توزيعها على الأطراف. وهذه السطور ستكتفي بالشأن الداخلي السوري في استقراء انعكاس صيغة الحكم من القبر، مع إشارة ضرورية إلى انعكاساتها في السياسة الخارجية أيضاً، ولكن ضمن مواصفات القصور ذاتها التي اتصف بها الابن بالمقارنة مع الأب.
وأجد ضرورة في التأكيد، اليوم أيضاً، على جانب خاصّ في حكاية حكم الموتى للأحياء، هو أنّ النرجسية العالية (التي يردّد العارفون بشخصية الأسد الابن أنها العنصر الطاغي على تفكيره اليوميّ)، قد لا تكتفي بتحويل ماضي "الحركة التصحيحية" إلى مرجعية دائمة للحاضر وللمستقبل، فحسب؛ إذْ قد تنتقل، في طور لاحق أخذ يتجلى أكثر فأكثر، إلى نزوع طبيعي نحو قتل الأب، ليس كرهاً له بالطبع، وليس حرصاً على محو ذكراه أيضاً، بل رغبة في التفوّق على صورته القوية المهيمنة. وبذلك فإنّ العبارة يمكن أن تحمل المدلولَيْن، معاً، وبصفة متكاملة: أنّ الأب حاكم لأنّ تراثه مقيم، ثابت، مقدّس؛ وأنّ قتله خطوة واجبة لكي يدخل تراثه ذاك في صيرورة تحوّل، باسم الابن هذه المرّة!
أجدني، كذلك، أستعيد هذه الفقرة الدالة، من حديث الأسد الابن مع صحيفة "نيويورك تايمز" الأمريكية، أواخر العام 2003 (وهي فقرة حذفتها وكالة الأنباء السورية، ولم تُنشر في أيّ من الصحف السورية الرسمية)، جواباً على السؤال التالي: "تدور في مصر نقاشات حول مَن سيعقب مبارك، ويقول البعض هناك: نحن لسنا سورية. أترى في هذا إهانة لكم"؟ أجاب الأسد: "كلا، لأنّ الرئيس الأسد ليس هو الذي جاء بي إلى السلطة. حين توفي لم أكن أتولى أيّ منصب. ولهذا يجب أن تتوجه بالسؤال إلى الشعب السوري. إذا ذهبت إلى الـ CNN وغيرها من المحطات التي أجرت مقابلات مع السوريين، ستجد أنني جئت من خلال السوريين، وليس من خلال الرئيس الأسد"!
وهكذا، لم يتوقف الابن عند تذكير الناس بكلّ ما انطوت عليه عقود "الحركة التصحيحية" من قمع وفساد ونهب وتخريب، للسياسة والاقتصاد والاجتماع والثقافة والنسيج الوطني والسلم الأهلي، بل ذهب أبعد وأسوأ، واختار من ألوان الإستبداد ما هو أشدّ فظاظة تجاه كرامة المواطن، من جهة أولى؛ وأكثر خفّة، واستهتاراً، بحاضر سورية العربي والإقليمي والدولي، من جهة ثانية. أعود، هنا، إلى مثال أوّل يتيح المقارنة بين سياسات الأب والابن، وأعني قرار رئيس مجلس الوزراء الذي قضى بصرف العشرات من الخدمة في الدولة، بسبب توقيعهم على بيانات سياسية معارضة، أو داعية إلى الإصلاح.
هنا وجه المقارنة: خلال سبعينيات القرن الماضي، في السنوات الأولى من عهد "الحركة التصحيحية"، أصدرت وزارتا التربية والتعليم العالي (بتوجيهات مباشرة من القيادة القطرية لحزب البعث) سلسلة قرارات قضت بإبعاد أعداد كبيرة من المدرّسين الشيوعيين، وكذلك المدرّسين ذوي الخلفيات الإسلامية، من قطاع التعليم إلى وزارات أخرى لا صلة لها البتة بالتعليم. وبناء على تلك القرارات، توفّر مدرّس لغة إنكليزية يعمل مراقباً للتموين، أو مدرّس رياضيات يعمل في وزارة الأوقاف، أو مدرّس تاريخ يعمل في وزارة الكهرباء!
وبهذا المعنى فإنّ السلطة كانت تسعى إلى درء الأخطار السياسية والتربوية والفكرية التي يمكن أن تنجم عن بقائهم في قاعة التدريس، وليس إلى عقابهم على انتماءاتهم السياسية أو أفكارهم، وإلا لما اعتورها أيّ حياء في إلقاء القبض عليهم. لكنّ الطرد من الوظيفة، بسبب التوقيع على بيان وليس الإنتماء إلى حزب معارض بالضرورة، أثبت قناعة الأسد الابن بأنّ العقاب على الأفكار ينبغي أن لا يقتصر على كمّ الأفواه والمنع من السفر والإعتقال والإحالة إلى محاكمات كاريكاتورية قرقوشية؛ بل يجب أن يشمل قطع الأرزاق أيضاً، وربما أوّلاً. نحن البلد، ونحن الدولة، ومَن لا ينضوي في صفّنا، سياسياً وعقائدياً وأمنياً أيضاً، فلا يهتف "الله! سورية! بشار وبسّ!" (لاحظوا أنّ الهتاف هذا يستبدل بشار بالحرية، مقابل الهتاف الشعبي الشائع اليوم: "الله! سورية! حرّية وبسّ!")... فليس له مكان في دولة(نا)، ولا رزق له في "وزارات(نا) ومؤسسات(نا)!
لكنّ الأسد الابن، حين أعطى أوامره لأجهزة الأمن باستخدام الرصاص الحيّ ضدّ المتظاهرين في درعا، واختار وحدات خاصة في الجيش لاقتحام مسجد المدينة العريق وسفك المزيد من الدماء في باحته وداخل جدرانه، كان قد عبر نهر الروبيكون، الدامي تماماً كما يتوجب القول، ليصبح الدم هو الفاصل بينه وبين الشعب، وهو الفيصل الصريح والأقصى. ولقد دقّ، بنفسه، بمطارق الإستبداد والفساد إياها، ثلاثة مسامير كبرى في نعش نظامه الآيل إلى سقوط، بَعُدت اللحظة أم دنت، وتعددت طرائق الخداع والتضليل والكذب أم اقتصرت دفاعات السلطة على إراقة الدماء هنا وهناك.
المسمار الأوّل هو الإطمئنان، الناجم بالضرورة عن اختلاطات الطيش والغطرسة والنرجسية، إلى أنّ هذا الحراك الشعبي، في دمشق وبانياس ودير الزور وحمص والقنيطرة، قبل درعا، لا يمثّل إلا فئة من "المندسين" و"العملاء"، لأنّ الشعب بأسره يحبّ الرئيس، بدلالة هذا الشعار الذي تغصّ به شوارع سورية: "منحبّك"! وكان أمراً تلقائياً، أو بالأحرى غريزياً، أن يفضي ذلك الإطمئنان إلى يقين الدكتاتور، وناصحيه من شركاء النهب والحكم العائلي، بأنّ علاج هذه الفرقة الضالة يحتاج إلى خيار الأرض المحروقة، والبتر المبكر، على الفور، دون أي ترجيح حتى لاحتمال العلاج بالكيّ. ولقد كان مذهلاً، حتى لأصدقاء النظام الإقليميين (رئيس الوزراء التركي رجب طيب أردوغان، على سبيل المثال)، أن يلجأ النظام إلى الذخيرة الحية في مواجهة أوّل تظاهرة سلمية نوعية، وأن يسقط أربعة شهداء في ساعات قليلة.
المسمار الثاني هو الإستهانة بالمغزى الرمزي، قبل ذاك الديني، لاقتحام مسجد أوى إليه جرحى ومواطنون لا يحملون حتى الحجارة، وليس لهم أن يتسببوا بأي أذى للمفارز الأمنية والوحدات العسكرية التي تطوّق المسجد. ولكي تًضاف الإهانة إلى الجرح، وتُخلي المأساةُ مشهدها الدامي لصالح مهزلة ركيكة سخيفة مكرورة مستهلكة، دخلت عدسات إعلام السلطة إلى المسجد لكي "تضبط" الأموال والأسلحة المخزّنة هناك، والتي وصلت إلى "المندسين" من جهات خارجية. كأنّ الأسد لم يتعلّم أبسط الدروس من اتهامات مماثلة، ساقتها سلطات الإستبداد العربية في تونس ومصر واليمن وليبيا، ولم تعد أضحوكة المواطن العربي، والبشر في مشارق الأرض ومغاربها، فحسب؛ بل صارت مبعث اشمئزاز وقرف.
أو، في مقارنة أخرى، كأنّ الابن نسي حرص أبيه ـ وكان أشدّ بطشاً واستشراساً في قمع الاحتجاج، أياً كانت طبيعته أو نطاقاته ـ على تفادي اقتحام المساجد، حتى حين أعطى الأوامر بقصفها، خالية كانت أم على رؤوس اللاجئين إليها من بني البشر. صحيح أنّ رهط المنافقين من المشائخ، المطبّلين المزمّرين للنظام، التزموا الصمت المطبق؛ ومثلهم فعل رجال دين عرب ذوو حظوة ومكانة، مثل الشيخ القرضاوي والسيد حسن نصر الله؛ إلا أنّ اقتحام مسجد آمن مسالم يتجاوز بكثير حرق الأصابع جرّاء لعب الهواة بالنار. هذا، أغلب الظنّ، ما أدركه الأب الأريب، وفات على الابن "الممانِع" و"المقاوِم" أن يتحسب له.
المسمار الثالث هو احتقار الذاكرة الشعبية السورية، عن طريق اقتراح حلول تنطلق من افتراض الدرجة صفر في الذكاء الأخلاقي للمواطن السوري، أو الدرجة صفر في كرامته الوطنية، كما حين اختار الأسد أن يكون وسيطه في الحوار مع أهل درعا هو اللواء رستم غزالي، أحد كبار أدوات الفساد والإستبداد، دون سواه! الأرجح أنّ منطق اعتماد غزالي انطلق من اعتبارات مناطقية صرفة، كأن يكون اللواء من أبناء المحافظة، وأن تكون له بالتالي "موانة" على أهلها وشهدائها، أياً كانت موبقات غزالي في قمع أبناء محافظته أنفسهم، لكي لا يتحدّث المرء عن "أمجاد" اللواء في عنجر وسائر لبنان.
وفي كلّ حال، بينما كان "الوسيط" يسعى إلى ممارسة مهاراته في التفاوض، كما اكتسبها من سيّده السابق اللواء غازي كنعان، أو من مراقبة ألاعيب أصدقائه الساسة اللبنانيين الأفاقين، كانت وحدات عسكرية خاصة قد تلقّت لتوّها الأوامر بحصار المدينة، وقطع الكهرباء عنها، وكذلك اتصالات الهاتف الجوّال والإنترنت، تمهيداً لارتكاب المجزرة في المسجد العمري، بعد ساعات قلائل. في السياق ذاته، بدا الأسد مستعداً لتقديم كبش فداء إلى مواطني درعا، تمثّل في مرسوم إقالة المحافظ فيصل كلثوم، متناسياً أنّ أهالي المحافظة يدركون جيداً أنّ الأخير لم يكن سوى بيدق صغير في شطرنج بيت السلطة، ومسنّن أصغر في آلة الفساد الجهنمية، ومن الإهانة اعتبار إقالته بلسماً لجراح المحافظة ولأمهات الشهداء الثكالى.
هذه، غنيّ عن القول، مسامير أولى سبقت سواها، ولسوف تعقبها أخرى، ما دامت مطارق النظام تشتغل دون كلل لإدامة حال عالقة، مستعصية في الفساد وعصية على الإصلاح، فصار دوامها من المحال، وأخذت ملامح انقلابها ترتسم أوضح، حتى إذا بدت أبطأ، ولاحت تباشير أثمانها أبهظ وأغلى. ومجزرة الجامع العمري، بين علائم نبيلة كثيرة أخرى، دشّنت اقتراب الساعة، وانتصار الشعب، وبزوغ فجر سورية الحرّة الديمقراطية الكريمة.
-----------------------
القدس العربي