في أوروبا أزمة تتشكل منذ نهاية سبعينات القرن الماضي، ستكون الأزمة الاقتصادية العالمية، مجرد "نزهة" أمامها. أزمة لا تنفع معها عمليات التحفيز والإنقاذ، لأنها مرتبطة بالاقتصاد والنمو الديموغرافي، أي أنها لا تخضع للمعايير الاقتصادية الصرفة، لكي تُوضع لها الخطط والبرامج المحددة والواضحة. إنها مرتبطة بـ "ثقافة" النمو السكاني، التي بدورها تستند إلى مفهوم كل فرد لها، لا المفهوم الموحد للمجتمع. ففي مجتمعات مفتوحة تكفل الاختيار الفردي التام – ومعه الحرية الفردية بالطبع - لايمكن بأي حال من الأحوال، لأي حكومة أن تفرض نسبة نمو سكاني، ولا معدلات محددة لعدد المواليد. وعلى الرغم من أن هذه الأزمة بدأت بالتشكل منذ ثلاثين عاماً تقريباً، غير أنها لا تُطرح بصورة واقعية وتحليلية عميقة، إلا في زمن الأزمات الاقتصادية. ففي النهاية، يستحيل تجريد النمو السكاني من روابطه الاقتصادية والتنموية. ولأن الأمر كذلك، فقد بدأت أوروبا بشكل خاص، والعالم الغربي بشكل عام، في إرسال التحذيرات من خطورة ما يمكن تسميته بـ " النمو الديموغرافي للمسنين" فيها. ومع بدء الحكومات الأوروبية في تنفيذ خطط تقشف تاريخية، في سبيل الخروج من الأزمة الاقتصادية العالمية، طُرحت هذه القضية بصورة قوية، لأن إحدى بنود هذه الخطط، تفرض رفعاً لسن التقاعد، لسد الثغرات بين متطلبات العمل والعاملين. فعلى سبيل المثال، تخوض الحكومة الفرنسية صراعاً مع النقابات والمؤسسات التي تُعنى بحقوق العمال والإنسان، لأن خطة التقشف التي وضعتها، رفعت سن التقاعد في البلاد من 60 إلى 62 سنة. والأمر كذلك في بعض الدول الأوروبية الأخرى. فقد وجدت حكومة الرئيس نيكولا ساركوزي، أنه لا مناص من الإقدام على هذه الخطوة، لأن الأمة الفرنسية – كبقية الأمم الأوروبية – تشيخ، ولأن معدل عمر الفرد، يرتفع بصورة كبيرة للغاية.
في أعقاب الحرب العالمية الثانية، سادت أوروبا حالة يمكن تسميتها بـ "ازدهار الأطفال". كانت – ربما – بمنزلة تعويض ما، عن الضحايا الذين سقطوا في هذه الحرب، والذين يُقدر عددهم بحوالي 55 مليون إنسان ( بعض التقديرات تتجاوز هذا الرقم). لكن مع نهاية سبعينات القرن الماضي، بدأت هذه الحالة بالأفول، الأمر الذي أوجد موجة خطيرة من التغيرات السكانية في القارة كلها، سمتها مديرة معهد صندوق النقد الدولي ليزلي ليبتشيتس بـ " ظاهرة النمو الديموغرافي لدى فئة من المسنين"، واعتبرتها أخطر على الأوروبيين من الأزمة الاقتصادية العالمية نفسها!. فنسبة السكان العاملين، تتراجع مقارنة بنسبة المتقاعدين، وهذا يعني أن الإنفاق على المجتمعات العجوزة، تزداد بصورة كبيرة، في الوقت الذي تسعى فيه الحكومات الأوروبية (والغربية كلها)، لوقف نزيف الأزمة العالمية، من خلال مجموعة من الآليات، من بينها التشغيل الأمثل والأطول للعاملين. وطبقاً لصندوق النقد الدولي، فإن المجتمعات المسنة، ستُحدث آثاراً مخيفة، بحلول العام 2015، في أوج التحركات الحكومية الهادفة لإزالة آثار الأزمة. ولنا أن نعرف، أن عمر الأزمة العالمية، لن يقل عن عشر سنوات منذ انفجارها في العام 2008 !.
في دراسة استطلاعية مثيرة أجرتها المفوضية الأوروبية، أظهرت أن عدد البالغين من العمر 60 عاماً سيتضاعف بمعدل مليوني شخص كل عام في دول الاتحاد الأوروبي، خلال الـ 25 سنة المقبلة!. وطبقاً للدراسة نفسها، فإن أعمار الطبقة العمالة في أوروبا سيتباطأ بشدة، وستتوقف نمو هذه الطبقة بعد ست سنوات فقط، كما ستتناقص الطبقة العاملة بعد الست السنوات المقبلة، بمليون إلى مليون ونصف كل عام، وستتزايد شريحة الأعمار بين 65 و 79 بمعدل الضعف بحلول عام 2060، وسترتفع أعداد من ناهزوا الـ 80 عاماً وما فوق بثلاثة أضعاف!. إلى ماذا ستؤدي هذه التحولات؟.. ستؤدي إلى خروج الكثير من كبار السن من سوق العمل مما يضغط على موازنات دول الاتحاد الأوروبي، ويضيف عبئاً أكبر على كاهل الشباب أو الطبقة العاملة التي تواجه هي نفسها تناقصاً مستمراً!.
الجميع يعرف الحل لهذه الكارثة الاجتماعية – الاقتصادية، لكن أحداً لا يمكن أن يطرحه، كقرار أو كأمر أو كمرسوم. إنه ينحصر في زيادة الإنجاب في القارة الأوروبية، ورفع معدلات المواليد، لكي تتناسب في المستقبل مع عدد المسنين. وهذه قضية – مرة أخرى – شخصية، بينما لا تبدو في الأفق مؤشرات على رغبة الأوروبيين في الإنجاب "المطلوب". فقد سبق عزوف الأوروبيين عن الإنجاب " المُرضي" للحكومات، عزوف آخر عن الزواج. قبل عامين أصدر معهد "برلين" للسكان والتنمية، دراسة أظهرت أن عدد سكان الاتحاد الأوروبي سيقلون بواقع 52 مليون شخص إلى 447 مليونا بحلول العام 2050. وحددت الدراسة مناطق في بولندا وشرق ألمانيا وشمال اسبانيا وجنوب إيطاليا، وتوقعوا لها أن تصبح مهجورة تماماً!. وحسب التوقعات الإحصائية، فإن متوسط الإنجاب يبلغ 1.5 طفل لكل امرأة في الاتحاد الأوروبي، وهذا يعني أن كل جيل جديد سيكون أقل عدداً من سلفه بنسبة 25 في المائة. وبحلول عام 2050 فإن متوسط الأعمار في الاتحاد (المكون من 27 دولة) سيزيد 10 أعوام. فعلى سبيل المثال، تبلغ في إيطاليا نسبة كبار السن 19 في المائة من الحجم الكلي للسكان، وستصل – حسب الدراسات الإحصائية – إلى 28 في المائة بحلول العام 2030!. وفي سويسرا (خارج الاتحاد الأوروبي)، كان السكان هناك يعيشون في العام 1900 إلى سن 52 عاماً فقط، بينما تشير الدراسات إلى ارتفاع الفئة العمرية التي تتجاوز 81 عاماً بنسبة 25 في المائة في هذا البلد ما بين 2000 و2020. وقد يكون الوضع أسوأ في اليابان من أوروبا نفسها. فمع حلول العام 2015 سيكون ربع السكان من المسنين!.
مع هذا الواقع الخطير، لا مجال لـ " القومية أو الوطنية الاقتصادية"، وبالتأكيد لا مكان لـ "العنصرية الاقتصادية". أوروبا ( والغرب معها)، تحتاج إلى بشر عاملين، لا متقاعدين فقط. إلى من يُحرك، وليس مَنْ لا يتحرك. وفي عز الأزمة، طالبت مؤسسات كبرى في بريطانيا حكومة بلادها، بضرورة تخفيف قوانين جلب العمالة، لسد العجز الناجم في بعض القطاعات، بسبب نقص الكوادر الوطنية، وبفعل ازدياد عدد المتقاعدين في هذه القطاعات. وفي ألمانيا تلقت الحكومة فيها نفس المطالب. والخبراء الأوروبيون المستقلون، لا يجدون حلاً للتحولات الديموغرافية الخطيرة، إلا بالهجرة إلى أوروبا. فقد بات من الصعب الآن – ومن المستحيل في المستقبل – أن يكون هناك حراكاً اجتماعياً – اقتصادياً متكاملاً، في مجتمعات سيكون فيها ابن الخمسين "شاباً"، قياساً ببقية الشرائح العمرية بين 60 و85 سنة، وفي بعض المناطق بين 60 و90 سنة!. ولذلك فإن القوانين التي تسنها الحكومات الأوروبية للحد من الهجرة، ستنقلب عليها في المستقبل.
ليس مطلوباً من الحكومات أن تفتح أبواب أوروبا على مصراعيها للمهاجرين، على الأقل في هذا الوقت بالذات. المطلوب، أن تقوم بموازنة الهجرة مع متطلبات سوق العمل أولاً،و وخصوصاً تقاعد الكوادر، وأن يزيد من حجم جهودها في تكريس "إشراك" المهاجرين، لأن هؤلاء يفضلون عادة الانطواء على ذاتهم وعلى جالياتهم. وإذا استطاعت الحكومات الأوروبية أن تأتي بالعمالة الماهرة المطلوبة – ولنسمها عمالة الإحلال - فإنها ستختصر الطريق نحو "الإشراك". فالأعداد المطلوبة من المهاجرين الشرعيين - لكي تحقق شيئاً من التوازن الديموغرافي - يجب أن تحظى بتسامح شعبي – قبل الحكومي – وهو أمر غائب عن الساحة، خصوصاً وأن الأزمة الاقتصادية العالمية، نشرت – من ضمن ما نشرت – موجات من الشكوك، ليس حيال المهاجرين فحسب، بل بين الأوروبيين أنفسهم. لقد ضربت التسامح في مقتل!.
----------------------------------
m@karkouti.net
في أعقاب الحرب العالمية الثانية، سادت أوروبا حالة يمكن تسميتها بـ "ازدهار الأطفال". كانت – ربما – بمنزلة تعويض ما، عن الضحايا الذين سقطوا في هذه الحرب، والذين يُقدر عددهم بحوالي 55 مليون إنسان ( بعض التقديرات تتجاوز هذا الرقم). لكن مع نهاية سبعينات القرن الماضي، بدأت هذه الحالة بالأفول، الأمر الذي أوجد موجة خطيرة من التغيرات السكانية في القارة كلها، سمتها مديرة معهد صندوق النقد الدولي ليزلي ليبتشيتس بـ " ظاهرة النمو الديموغرافي لدى فئة من المسنين"، واعتبرتها أخطر على الأوروبيين من الأزمة الاقتصادية العالمية نفسها!. فنسبة السكان العاملين، تتراجع مقارنة بنسبة المتقاعدين، وهذا يعني أن الإنفاق على المجتمعات العجوزة، تزداد بصورة كبيرة، في الوقت الذي تسعى فيه الحكومات الأوروبية (والغربية كلها)، لوقف نزيف الأزمة العالمية، من خلال مجموعة من الآليات، من بينها التشغيل الأمثل والأطول للعاملين. وطبقاً لصندوق النقد الدولي، فإن المجتمعات المسنة، ستُحدث آثاراً مخيفة، بحلول العام 2015، في أوج التحركات الحكومية الهادفة لإزالة آثار الأزمة. ولنا أن نعرف، أن عمر الأزمة العالمية، لن يقل عن عشر سنوات منذ انفجارها في العام 2008 !.
في دراسة استطلاعية مثيرة أجرتها المفوضية الأوروبية، أظهرت أن عدد البالغين من العمر 60 عاماً سيتضاعف بمعدل مليوني شخص كل عام في دول الاتحاد الأوروبي، خلال الـ 25 سنة المقبلة!. وطبقاً للدراسة نفسها، فإن أعمار الطبقة العمالة في أوروبا سيتباطأ بشدة، وستتوقف نمو هذه الطبقة بعد ست سنوات فقط، كما ستتناقص الطبقة العاملة بعد الست السنوات المقبلة، بمليون إلى مليون ونصف كل عام، وستتزايد شريحة الأعمار بين 65 و 79 بمعدل الضعف بحلول عام 2060، وسترتفع أعداد من ناهزوا الـ 80 عاماً وما فوق بثلاثة أضعاف!. إلى ماذا ستؤدي هذه التحولات؟.. ستؤدي إلى خروج الكثير من كبار السن من سوق العمل مما يضغط على موازنات دول الاتحاد الأوروبي، ويضيف عبئاً أكبر على كاهل الشباب أو الطبقة العاملة التي تواجه هي نفسها تناقصاً مستمراً!.
الجميع يعرف الحل لهذه الكارثة الاجتماعية – الاقتصادية، لكن أحداً لا يمكن أن يطرحه، كقرار أو كأمر أو كمرسوم. إنه ينحصر في زيادة الإنجاب في القارة الأوروبية، ورفع معدلات المواليد، لكي تتناسب في المستقبل مع عدد المسنين. وهذه قضية – مرة أخرى – شخصية، بينما لا تبدو في الأفق مؤشرات على رغبة الأوروبيين في الإنجاب "المطلوب". فقد سبق عزوف الأوروبيين عن الإنجاب " المُرضي" للحكومات، عزوف آخر عن الزواج. قبل عامين أصدر معهد "برلين" للسكان والتنمية، دراسة أظهرت أن عدد سكان الاتحاد الأوروبي سيقلون بواقع 52 مليون شخص إلى 447 مليونا بحلول العام 2050. وحددت الدراسة مناطق في بولندا وشرق ألمانيا وشمال اسبانيا وجنوب إيطاليا، وتوقعوا لها أن تصبح مهجورة تماماً!. وحسب التوقعات الإحصائية، فإن متوسط الإنجاب يبلغ 1.5 طفل لكل امرأة في الاتحاد الأوروبي، وهذا يعني أن كل جيل جديد سيكون أقل عدداً من سلفه بنسبة 25 في المائة. وبحلول عام 2050 فإن متوسط الأعمار في الاتحاد (المكون من 27 دولة) سيزيد 10 أعوام. فعلى سبيل المثال، تبلغ في إيطاليا نسبة كبار السن 19 في المائة من الحجم الكلي للسكان، وستصل – حسب الدراسات الإحصائية – إلى 28 في المائة بحلول العام 2030!. وفي سويسرا (خارج الاتحاد الأوروبي)، كان السكان هناك يعيشون في العام 1900 إلى سن 52 عاماً فقط، بينما تشير الدراسات إلى ارتفاع الفئة العمرية التي تتجاوز 81 عاماً بنسبة 25 في المائة في هذا البلد ما بين 2000 و2020. وقد يكون الوضع أسوأ في اليابان من أوروبا نفسها. فمع حلول العام 2015 سيكون ربع السكان من المسنين!.
مع هذا الواقع الخطير، لا مجال لـ " القومية أو الوطنية الاقتصادية"، وبالتأكيد لا مكان لـ "العنصرية الاقتصادية". أوروبا ( والغرب معها)، تحتاج إلى بشر عاملين، لا متقاعدين فقط. إلى من يُحرك، وليس مَنْ لا يتحرك. وفي عز الأزمة، طالبت مؤسسات كبرى في بريطانيا حكومة بلادها، بضرورة تخفيف قوانين جلب العمالة، لسد العجز الناجم في بعض القطاعات، بسبب نقص الكوادر الوطنية، وبفعل ازدياد عدد المتقاعدين في هذه القطاعات. وفي ألمانيا تلقت الحكومة فيها نفس المطالب. والخبراء الأوروبيون المستقلون، لا يجدون حلاً للتحولات الديموغرافية الخطيرة، إلا بالهجرة إلى أوروبا. فقد بات من الصعب الآن – ومن المستحيل في المستقبل – أن يكون هناك حراكاً اجتماعياً – اقتصادياً متكاملاً، في مجتمعات سيكون فيها ابن الخمسين "شاباً"، قياساً ببقية الشرائح العمرية بين 60 و85 سنة، وفي بعض المناطق بين 60 و90 سنة!. ولذلك فإن القوانين التي تسنها الحكومات الأوروبية للحد من الهجرة، ستنقلب عليها في المستقبل.
ليس مطلوباً من الحكومات أن تفتح أبواب أوروبا على مصراعيها للمهاجرين، على الأقل في هذا الوقت بالذات. المطلوب، أن تقوم بموازنة الهجرة مع متطلبات سوق العمل أولاً،و وخصوصاً تقاعد الكوادر، وأن يزيد من حجم جهودها في تكريس "إشراك" المهاجرين، لأن هؤلاء يفضلون عادة الانطواء على ذاتهم وعلى جالياتهم. وإذا استطاعت الحكومات الأوروبية أن تأتي بالعمالة الماهرة المطلوبة – ولنسمها عمالة الإحلال - فإنها ستختصر الطريق نحو "الإشراك". فالأعداد المطلوبة من المهاجرين الشرعيين - لكي تحقق شيئاً من التوازن الديموغرافي - يجب أن تحظى بتسامح شعبي – قبل الحكومي – وهو أمر غائب عن الساحة، خصوصاً وأن الأزمة الاقتصادية العالمية، نشرت – من ضمن ما نشرت – موجات من الشكوك، ليس حيال المهاجرين فحسب، بل بين الأوروبيين أنفسهم. لقد ضربت التسامح في مقتل!.
----------------------------------
m@karkouti.net