ما حدث حتى الآن في سورية شيء كبير وخطير، يتجاوز بكثير ما حدث في الأقطار العربية الأخرى. ذلك أن النظام القائم في سورية يتميز أيضا عن النظم العربية الأخرى، في تونس ومصر واليمن والبحرين وغيرها، بغياب أي حياة سياسية في البلاد، مهما كان ضيق هامشها. فالبلاد لا تقاد سياسيا وإنما تديرها مجموعة من الأجهزة الأمنية، المستندة هي نفسها إلى توازن عام للنظام تضمن السيطرة العسكرية. ولا يمثل حزب البعث الحاكم سوى غلالة رقيقة هدفها التغطية على غياب السياسية والحقل السياسي تماما، وتبرير حكم الأجهزة وسيطرتها الشاملة، بما في ذلك داخل الحزب الحاكم وداخل الجيش وداخل الإدارة وداخل الحكومة نفسها. فلا يمكن القيام بأي أمر، قولا او عملا، من تعيين رئيس الجمهورية إلى إجراء معاملة مدنية بسيطة في الإدارة، مرورا برئاسة الوزارة وانتقاء نواب مجلس الشعب والمناصب الإدارية، بل حتى القبول في أي وظيفة عمومية مهما كانت محدودة الاهمية مثل حارس مبنى أو آذن مكتب، من دون أن يمر بالأجهزة الامنية وينال رضاها وموافقتها، احدها أو مجموعة منها. وبالإضافة إلى ذلك يخضع الشعب السوري منذ عام 1963 إلى حالة الطواريء التي تكرس هذا الاستباحة الكاملة لحقوق الشعب من قبل الأجهزة، وتشرع لمعاقبة أي قول أو سلوك أو نشاط لا ترضى عنه الأجهزة الامنية، ولا يصب في هدف تعزيز سلطتها وتاكيد سيادتها على الشعب والبلاد. هكذا تحول الحكم السوري القائم إلى كابوس حقيقي يربض على صدر شعب قيد بالسلاسل، وفرض عليه الصمت والطاعة خلال ما يقارب نصف قرن، لا يمكن للفرد أن يتكلم فيه ويعبر عن أي رأي مخالف، حتى داخل دوائر الحزب والسلطة، ولا يحق لأفراده التواصل وما بالك بالاجتماع والتنظيم والمشاركة السياسية أو غير السياسية. وهذا ما يشكل حكما بالاعدام السياسي على شعب كامل. وقد اعتاد رجال الأمن، وهم في الحقيقة رجال ترويع للشعب وظيفتهم إشعار كل فرد بأنه ليس آمنا ما لم يتعامل مع الأجهزة ويخضع لها ويقبل باقتسام تجارته أحيانا مع أفرادها، أن يهينوا المواطنين لسبب أو من دون سبب، من أجل إخضاعهم وإشعارهم بدونيتهم وعبوديتهم وترسيخ الشعور بالعجز والمهانة والمذلة لديهم. وكان الضرب والأذى الجسدي من الامور اليومية أما الشتائم المذلة فقد أصبحت عملة التداول اليومية داخل الدوائر الرسمية حتى من قبل أعضاء الإدارة من غير جهاز الأمن. وتحولت الإهانة المعممة في الواقع إلى تقنية سلطوية هدفها بناء العلاقة بين اصحاب السلطة وابناء الشعب كعلاقة سيد إلى عبد، وقادر إلى عاجز، ونبيل إلى صعلوك، مهما كان وضع الفرد ومكانته الاجتماعية والعلمية. كل فرد سوري هو مشروع قن أو عبد مأمور. والواقع أن جميع أبناء الشعب قد تحولوا إلى عبيد وأقنان، تطحنهم آلة واحدة ومنطق واحد هو التشكيك والتحقير والتكسير المعنوي المتبادل.
. ولم يكن من قبيل الصدفة أن ترتبط شرارة الانتفاضة بهذه المعاملة المهينة التي اعتاد عليها أبناء النظام. فكانت أول حادثة لفتت انتباه السوريين والمراقبين الأجانب تلك التظاهرة الصغيرة التي حصلت في سوق تجاري، سوق الحريقة، في دمشق، بسبب تعرض أحد التجار الشباب للضرب المبرح امام الملأ من قبل رجل شرطة، فتجمع تجار السوق، وانطلقت من حناجرهم أول صرخات الانتفاضة وشعاراتها من دون أن يدروا: الشعب السوري ما بينذل، أي لا يذل. ولم يتفرق المتظاهرون إلى أن اضطر وزير الداخلية أن يأتي بنفسه ليعتذر لهم، ويأمر بمعاقبة الشرطي ليرطب خواطرهم. لكن الحادثة الأهم للاهانة والتي سوف تطلق بالفعل شرارة الانتفاضة السورية، والثورة العارمة في منطقة حوران جنوب سوريا التي تعد اليوم منطقة محررة كليا من سلطة البعث ورموزه، تتلخص في اعتقال الأمن لخمسة عشر طفلا سوريا بين سن العاشرة والرابعة عشر، بسبب كتابة بعضهم شعارات تبشر بسقوط النظام. وقد تعرض الأطفال للتعذيب وقلعت أظافر أحدهم ومنعت أسرهم من زيارتهم. وعندما ذهبوا بوفد لمقابلة محافظ درعا، شتمهم جميعا وأخبرهم أن عليهم أن ينسوا أولادهم، وأن يرجعوا ليناموا مع نسائهم لإنجاب بديل لهم لأنهم لن يروهم أبدا.
كان خروج السوريين إلى الشوارع لتحدي سلطة من هذا النوع معجزة بالمعنى الحرفي للكلمة. ليس بسبب الخوف، بل الرعب الذي عشش في الصدور، ولا بسبب الحضور الأمني والعسكري الكثيف والدائم والشامل في كل شبر، خاصة في المدن الرئيسية فحسب، ولكن، أكثر من ذلك، بسبب الشعور العميق الذي ترسخ في قلب كل سوري بالعجز والغلبة على الأمر وعدم القدرة على فعل شيء تجاه نظام جبار، ورجال أمن وحكم عتاة لا يتورعون عن ارتكاب أي شيء في سبيل نزع ثقة الشعب بنفسه، وتشكيكه حتى بقدراته العقلية، ودفعه إلى الشك في ذاته وأهليته وإنسانيته.
علينا أن نعرف ونسجل للتاريخ أيضا أن هؤلاء الذين خرجوا في الأيام الاولى من الانتفاضة، وكانوا بالمئات فقط، خرجوا كشهداء، ولم يخرجوا كمتظاهرين. وبقي هذا الشعور قويا عند الشباب الذين أتيح لي التواصل معهم، حتى جمعة الصمود العظيمة التي تحولت فيها المظاهرات إلى مسيرات بعشرات الأولوف، والتي نقلت الانتفاضة من مرحلة الخطر، وصار من غير الممكن القضاء عليها من دون المغامرة بمجزرة كارثية لا يمكن لنظام تحمل نتائجها. وفي الساعات الأولى لجمعة الصمود هذه كتب لي شاب من الدير على الفيس بوك يقول سنخرج اليوم في مسيرة حاشدة وستكون أكبر من كل سابقاتها. وكانت السلطات قد أغلقت في الأيام الثلاثة السابقة مدينة بانياس الساحلية، وقطعت عنها الاتصالات والكهربا والماء، وارتكبت فيها مجازر، وشنت حملة تطهير سياسي بالمعنى الحرفي للكملة، ومارست كما تعودت، لكن على نطاق أوسع تقنيات الإذلال والإهانة، كما ظهرت في الصور التي تناقلتها التلفزة حيث يركل رجال ميليشيات "الشبيحة" الخاصة، التي استخدمتها السلطة لقهر المواطنين زاعمة أنها لا تملك السيطرة عليها، وكان هدفها ترويع اهلها وإعطاء مثال للسورييين عن مدى العنف الذي يمكن أن تصل إليه السلطة. فاردت طمأنة الشاب الذي بدا لي مصمما على الخروج، فكتبت: لا تخف انتهى درس الترويع. فرد علي في الحال: استاذي أنا أنقل لك الخبر فحسب، أنا لست خائفا أبدا. أنا لا أخرج من أجل أن أعود. أن خارج شهيدا.
ليس الخبز بالرغم من ندرته، ولا انتهاك حقوق الانسان، التي لم يبق إنسان ليتصف بها، ولا حتى تجبر الحاكمين وفسادهم المنقطع النظير، هو الذي كان الصاعق وراء تفجير بركان انتفاضة الكرامة والحرية في هذا البلد العربي الجميل. إنه الإفراط في الإهانة والإذلال والاحتقار، أي سحق الانسان الذي شكل جوهر السياسة، بل الفعل السياسي الأصيل الوحيد، لنظام حكم سورية خلال ما يقارب نصف قرن. لذلك لا أعتقد أن من الممكن لثورة الكرامة والحرية أن تتوقف في سورية قبل أن تقطع الذراع التي تسببت بهذا الكم الأسطوري من الإهانة والإذلال الذي تعرض له أبناء الشعب السوري النبيل والمسالم، أعنى أجهزة الرقابة والعقاب والتنكيل الثلاثة عشر، والميليشيات والسجون المرتبطة بها، والتي تسمى فروع الامن، ولا وظيفة لها سوى حرمان الأفراد من أي أمان، وتقديمهم عراة، خارج أي حماية قانونية او سياسية، لوحوش مافيات السلطة والمال الضارية.
----------------------
الاتحاد الظبيانية
. ولم يكن من قبيل الصدفة أن ترتبط شرارة الانتفاضة بهذه المعاملة المهينة التي اعتاد عليها أبناء النظام. فكانت أول حادثة لفتت انتباه السوريين والمراقبين الأجانب تلك التظاهرة الصغيرة التي حصلت في سوق تجاري، سوق الحريقة، في دمشق، بسبب تعرض أحد التجار الشباب للضرب المبرح امام الملأ من قبل رجل شرطة، فتجمع تجار السوق، وانطلقت من حناجرهم أول صرخات الانتفاضة وشعاراتها من دون أن يدروا: الشعب السوري ما بينذل، أي لا يذل. ولم يتفرق المتظاهرون إلى أن اضطر وزير الداخلية أن يأتي بنفسه ليعتذر لهم، ويأمر بمعاقبة الشرطي ليرطب خواطرهم. لكن الحادثة الأهم للاهانة والتي سوف تطلق بالفعل شرارة الانتفاضة السورية، والثورة العارمة في منطقة حوران جنوب سوريا التي تعد اليوم منطقة محررة كليا من سلطة البعث ورموزه، تتلخص في اعتقال الأمن لخمسة عشر طفلا سوريا بين سن العاشرة والرابعة عشر، بسبب كتابة بعضهم شعارات تبشر بسقوط النظام. وقد تعرض الأطفال للتعذيب وقلعت أظافر أحدهم ومنعت أسرهم من زيارتهم. وعندما ذهبوا بوفد لمقابلة محافظ درعا، شتمهم جميعا وأخبرهم أن عليهم أن ينسوا أولادهم، وأن يرجعوا ليناموا مع نسائهم لإنجاب بديل لهم لأنهم لن يروهم أبدا.
كان خروج السوريين إلى الشوارع لتحدي سلطة من هذا النوع معجزة بالمعنى الحرفي للكلمة. ليس بسبب الخوف، بل الرعب الذي عشش في الصدور، ولا بسبب الحضور الأمني والعسكري الكثيف والدائم والشامل في كل شبر، خاصة في المدن الرئيسية فحسب، ولكن، أكثر من ذلك، بسبب الشعور العميق الذي ترسخ في قلب كل سوري بالعجز والغلبة على الأمر وعدم القدرة على فعل شيء تجاه نظام جبار، ورجال أمن وحكم عتاة لا يتورعون عن ارتكاب أي شيء في سبيل نزع ثقة الشعب بنفسه، وتشكيكه حتى بقدراته العقلية، ودفعه إلى الشك في ذاته وأهليته وإنسانيته.
علينا أن نعرف ونسجل للتاريخ أيضا أن هؤلاء الذين خرجوا في الأيام الاولى من الانتفاضة، وكانوا بالمئات فقط، خرجوا كشهداء، ولم يخرجوا كمتظاهرين. وبقي هذا الشعور قويا عند الشباب الذين أتيح لي التواصل معهم، حتى جمعة الصمود العظيمة التي تحولت فيها المظاهرات إلى مسيرات بعشرات الأولوف، والتي نقلت الانتفاضة من مرحلة الخطر، وصار من غير الممكن القضاء عليها من دون المغامرة بمجزرة كارثية لا يمكن لنظام تحمل نتائجها. وفي الساعات الأولى لجمعة الصمود هذه كتب لي شاب من الدير على الفيس بوك يقول سنخرج اليوم في مسيرة حاشدة وستكون أكبر من كل سابقاتها. وكانت السلطات قد أغلقت في الأيام الثلاثة السابقة مدينة بانياس الساحلية، وقطعت عنها الاتصالات والكهربا والماء، وارتكبت فيها مجازر، وشنت حملة تطهير سياسي بالمعنى الحرفي للكملة، ومارست كما تعودت، لكن على نطاق أوسع تقنيات الإذلال والإهانة، كما ظهرت في الصور التي تناقلتها التلفزة حيث يركل رجال ميليشيات "الشبيحة" الخاصة، التي استخدمتها السلطة لقهر المواطنين زاعمة أنها لا تملك السيطرة عليها، وكان هدفها ترويع اهلها وإعطاء مثال للسورييين عن مدى العنف الذي يمكن أن تصل إليه السلطة. فاردت طمأنة الشاب الذي بدا لي مصمما على الخروج، فكتبت: لا تخف انتهى درس الترويع. فرد علي في الحال: استاذي أنا أنقل لك الخبر فحسب، أنا لست خائفا أبدا. أنا لا أخرج من أجل أن أعود. أن خارج شهيدا.
ليس الخبز بالرغم من ندرته، ولا انتهاك حقوق الانسان، التي لم يبق إنسان ليتصف بها، ولا حتى تجبر الحاكمين وفسادهم المنقطع النظير، هو الذي كان الصاعق وراء تفجير بركان انتفاضة الكرامة والحرية في هذا البلد العربي الجميل. إنه الإفراط في الإهانة والإذلال والاحتقار، أي سحق الانسان الذي شكل جوهر السياسة، بل الفعل السياسي الأصيل الوحيد، لنظام حكم سورية خلال ما يقارب نصف قرن. لذلك لا أعتقد أن من الممكن لثورة الكرامة والحرية أن تتوقف في سورية قبل أن تقطع الذراع التي تسببت بهذا الكم الأسطوري من الإهانة والإذلال الذي تعرض له أبناء الشعب السوري النبيل والمسالم، أعنى أجهزة الرقابة والعقاب والتنكيل الثلاثة عشر، والميليشيات والسجون المرتبطة بها، والتي تسمى فروع الامن، ولا وظيفة لها سوى حرمان الأفراد من أي أمان، وتقديمهم عراة، خارج أي حماية قانونية او سياسية، لوحوش مافيات السلطة والمال الضارية.
----------------------
الاتحاد الظبيانية