لو كان هناك خلفاء لمجرمي سوق "وول ستريت" الأميركية، أو لـ " المُلهَمين" الاقتصاديين في هذه السوق، لفاز أركان الحزب الجمهوري الأميركي بـ "الخلافة"، عن جدارة لا وراثة، وعن أحقية لا سرقة، وعن قدرة لا واسطة. فقد أثبت كل ركن من هذه الأركان، بأنه "ولي عهد" لكل "مُلهَم" في "وول ستريت"، مسرح الجريمة الاقتصادية العالمية التاريخية الكبرى. كيف لا؟ والجمهوريون الأميركيون سابقاً وحالياً (وبالتأكيد لاحقاًً)، هم مَن حضر الجريمة ليرتكبها "المُلهَمون"، في سوق لم تجف الدماء فيها، وما زال أنين " الجرحى" يرجع الصدى حول العالم. لقد ابتكروا اقتصاداً – منذ مرحلة الرئيس الأسبق رونالد ريجان – احتقر القيم الإنسانية والأخلاقية، وعبَد المال بشقيه الوهمي والحقيقي. تركوا – منذ مطلع ثمانيات القرن الماضي – السوق تلتهم المجتمع بلا رحمة وبلا توقف. تركوا لها صنع القرار، ومنحوها صلاحيات وضع القوانين، وعندما كان أحد النواب أو المستفسرين، يسأل عن الحكمة وراء صدور هذا القرار ووضع هذا القانون، لم يكن يلقى إلا جواباً واحداً هو : أنت مُخرب، وفي أحسن الأحوال: أنت مُعطل!. لماذا؟ لأنه يريد الوقوف في وجه الازدهار والنمو، بصرف النظر إذا ما كان هذا الازدهار "فُقاعي" أو وهمي أو ورقي أو احتالي. فلم يسمع الجمهوريون – حتى صنيعتهم – المحتال التاريخي العالمي برنارد مادوف الذي قال: "إن وول ستريت هي مضمار حرب. فبمجرد استفادة شخص فيها، يُحرم فرد آخر من الاستفادة". ولمن نسي، فقد سرق مادوف قرابة 65 مليار دولار أميركي، من أموال عشرات الآلاف من المودعين في شركاته الوهمية.
رغم كل ما حصل ( ويحصل) على الساحة الاقتصادية الأميركية (والعالمية)، من جريمة "وول ستريت" الكبرى، وقف الجمهوريون ضد خطة الرئيس الأميركي باراك أوباما الهادفة للإصلاح المالي، أو إصلاح ما يمكن إصلاحه في السوق المالية الأميركية "وول ستريت". حاولوا تدمير الخطة قبل أن تُطرح للحصول على موافقة مجلس الشيوخ الأميركي عليها، وحاربوها وهي داخل هذا المجلس. كيف لا يقاومونها؟ وهذه الخطة هي الأكبر على الإطلاق منذ ثلاثينات القرن الماضي، أي منذ الكساد العظيم، وهي ستساعد على التخلص من أدران اقتصاد قدَس المال، بصرف النظر عن طبيعته ومصدره وطرق جلبه. إنه اقتصاد أولئك الذين هاجموا ( بل وحاربوا) حتى الرئيس الأميركي الأسبق فرانكلين روزفلت، الذي انتشل بلاده ومعها العالم من براثن الكساد العظيم، في أواخر عشرينات وكل ثلاثينات القرن العشرين.
لنرى ماذا يعارض الجمهوريون؟. إنهم يعارضون تعزيز متابعة القطاعات التي لا تحظى برقابة صارمة في "وول ستريت"، من بينها صناديق التحوط والمشتقات، كما أنهم يعارضون تقييد القطاع المصرفي، وخفض أرباحه على مدى سنوات. ويعارضون أيضاً، إنشاء وكالة لحماية المستهلك مادياً تابعة لمجلس الاحتياط الفيدرالي الأميركي (البنك المركزي). إنهم ببساطة يقفون ضد مصلحة الفرد الأميركي أولاً، وبقية سكان الكرة الأرضية، الذين يدفعون الثمن، في كل مرة يقع فيها "المُلهَمون" الاقتصاديون الأميركيون، وما أكثرها!. ولم تنفع تطمينات أوباما، وعدد كبير من الخبراء المستقلين، بأن الخطة التي ستشمل محاسبة المؤسسات المالية، لن تحد – بأي شكل من الأشكال – من حرية الأسواق.
الكوميدي الأميركي الشهير ويل روجرز يقدم – بسخريته المعروفة - أبلغ تعليق على المصيبة التي تصنعها السوق الأميركية دائماً، فيقول: " دع وول ستريت تصاب بكابوس.. فالبلاد كلها ستسعى إلى تهدئتها وإعادتها إلى السرير". والحقيقة أن خطة الإصلاح المالي، هي بمثابة انطلاق عملية علاجية لـ "سرطان وول ستريت"، الذي أصاب "الجسد" العالمي، بعد أن دمر "الجسد" الأميركي. فقد وجد فيها أوباما كما قال: "خطوة هامة ستعزز من اقتصادنا، وتمنع وقوع أزمة أخرى في المستقبل". لكنها عند الجمهوريين هي خطوة مدمرة. خطوة ستقتل أدبيات اقتصادهم، وستنزع من أيادي " المُلهَمين" الأسلحة التي يَقتلون بها، من غير أن يُدان واحد منهم!. ورغم مرور خطة الإصلاح المالي، بعد أشهر من المحادثات المضنية، تبقى الأسئلة الكبيرة كما هي. هل يلاءم هذا العلاج.. هذا "السرطان"؟ أم أن الأمر يتطلب استئصالاً كاملاً للكتل السرطانية؟ أم أنه لا أمل في العلاج أصلاً، وينبغي الانتظار إلى أن يفارق المُصاب الحياة ويدفن إلى الأبد؟. وهناك السؤال الأكبر، هل تكفي هذه الخطة، للقضاء على من تبقى من مجرمي السوق، لاسيما وأنهم لا يزالوا موجودين في الأرجاء، سواء بصورة مباشرة، أو عن طريق "تلاميذهم" الذين حملوا الراية من بعدهم؟.
حين كان الرئيس الأميركي يلقي كلمة أمام أكثر من 700 شخص تجمعوا في حديقة الورود في البيت الأبيض حول خطة الإصلاح، مر فأر متوسط الحجم أما الرئيس، لكن هذا الأخير واصل خطابه. وقد تبين أن الفأر الذي التقطته كل الكاميرات الموجودة، استطاع على مدى أسابيع أن ينجوا من محاولات قتلته من قبل موظفي البيت الأبيض. وعلى الفور طرحت وسائل الإعلام الأميركية سؤالاً خبيثاً، جاء على الشكل التالي : إذا كان البيت الأبيض ليس قادراً حتى الآن على مكافحة فأر، فكيف يستطيع الرئيس وموظفيه مكافحة "بارونات" ورجال "وول ستريت" الجشعين؟!. لقد سعى القطاع المالي ( ولا يزال) بكل ما تبقى لديه من قوة، إلى قتل خطة الإصلاح، من خلال حشد جماعات الضغط الجشعة، بل إن هذا القطاع ضخ ملايين الدولارات الأميركية، في إعلانات مناوئة لها، بغية نشر الرعب. لكن في النهاية ضاعت هذه الملايين - كما ضاعت المليارات قبل ذلك – وتم إقرار الخطة.
إنها خطوة هامة جداً إلى الأمام، ولو لا الأزمة الاقتصادية العالمية، لما شهد العالم مثل هذا التحرك، ولما طُرحت أصلاً مسألة بناء نظام اقتصادي عالمي جديد. فخطة الإصلاح الأميركية، لا يمكن أن تخرج عن خطة البناء العالمية. وأقول: بناء، لأن الدمار العالمي الذي تسبب به "المُلهَمون" الاقتصاديون عصي على الإصلاح. فما كان ينفع قبل الأزمة، لا يُفيد بعدها. إن المشكلة الأكبر التي ستواجه الإصلاحيين الأميركيين، هي إخراج "مجرمي" السوق منها. فهؤلاء يملكون آلاف الحيل للالتفاف حول أي خطة تنال من جشعهم وطمعهم، وأي قانون يهدف إلى إعادة الأخلاقيات إلى السوق. وإذا ما أراد باراك أوباما، إقناع العالم بجدوى خطته، عليه أن يُصفي مسرح الجريمة من المجرمين، الذين سيحاولون بكل الوسائل حماية ما تبقى من "أيديولوجية وول ستريت"، التي كان من المفترض أن تسقط في أعقاب اندلاع الأزمة الاقتصادية، ولو لم يكن هناك "مُلهَمون اقتصاديون حكوميون"، لسقطت هذه الأيديولوجية قبل وقوع الأزمة نفسها.
المسألة برمتها.. هي مسألة استئصال أكثر من كونها عملية إصلاح، وهي قضية أخلاق أكثر من كونها عمليات مالية. و"سرطان وول ستريت"، هو من النوع الخبيث، ما أن يتم القضاء على خلية منه، حتى تظهر خلية أخرى أعنف وأقوى، وأشد دناءة. إنه سرطان لا يقبل العلاج حتى بالكيماوي. لقد استخدمت الولايات المتحدة في الحرب العالمية الثانية النووي. لتستخدم "النووي الاقتصادي" ضد هذا السرطان!.
-------------------------------
m@karkouti.net
رغم كل ما حصل ( ويحصل) على الساحة الاقتصادية الأميركية (والعالمية)، من جريمة "وول ستريت" الكبرى، وقف الجمهوريون ضد خطة الرئيس الأميركي باراك أوباما الهادفة للإصلاح المالي، أو إصلاح ما يمكن إصلاحه في السوق المالية الأميركية "وول ستريت". حاولوا تدمير الخطة قبل أن تُطرح للحصول على موافقة مجلس الشيوخ الأميركي عليها، وحاربوها وهي داخل هذا المجلس. كيف لا يقاومونها؟ وهذه الخطة هي الأكبر على الإطلاق منذ ثلاثينات القرن الماضي، أي منذ الكساد العظيم، وهي ستساعد على التخلص من أدران اقتصاد قدَس المال، بصرف النظر عن طبيعته ومصدره وطرق جلبه. إنه اقتصاد أولئك الذين هاجموا ( بل وحاربوا) حتى الرئيس الأميركي الأسبق فرانكلين روزفلت، الذي انتشل بلاده ومعها العالم من براثن الكساد العظيم، في أواخر عشرينات وكل ثلاثينات القرن العشرين.
لنرى ماذا يعارض الجمهوريون؟. إنهم يعارضون تعزيز متابعة القطاعات التي لا تحظى برقابة صارمة في "وول ستريت"، من بينها صناديق التحوط والمشتقات، كما أنهم يعارضون تقييد القطاع المصرفي، وخفض أرباحه على مدى سنوات. ويعارضون أيضاً، إنشاء وكالة لحماية المستهلك مادياً تابعة لمجلس الاحتياط الفيدرالي الأميركي (البنك المركزي). إنهم ببساطة يقفون ضد مصلحة الفرد الأميركي أولاً، وبقية سكان الكرة الأرضية، الذين يدفعون الثمن، في كل مرة يقع فيها "المُلهَمون" الاقتصاديون الأميركيون، وما أكثرها!. ولم تنفع تطمينات أوباما، وعدد كبير من الخبراء المستقلين، بأن الخطة التي ستشمل محاسبة المؤسسات المالية، لن تحد – بأي شكل من الأشكال – من حرية الأسواق.
الكوميدي الأميركي الشهير ويل روجرز يقدم – بسخريته المعروفة - أبلغ تعليق على المصيبة التي تصنعها السوق الأميركية دائماً، فيقول: " دع وول ستريت تصاب بكابوس.. فالبلاد كلها ستسعى إلى تهدئتها وإعادتها إلى السرير". والحقيقة أن خطة الإصلاح المالي، هي بمثابة انطلاق عملية علاجية لـ "سرطان وول ستريت"، الذي أصاب "الجسد" العالمي، بعد أن دمر "الجسد" الأميركي. فقد وجد فيها أوباما كما قال: "خطوة هامة ستعزز من اقتصادنا، وتمنع وقوع أزمة أخرى في المستقبل". لكنها عند الجمهوريين هي خطوة مدمرة. خطوة ستقتل أدبيات اقتصادهم، وستنزع من أيادي " المُلهَمين" الأسلحة التي يَقتلون بها، من غير أن يُدان واحد منهم!. ورغم مرور خطة الإصلاح المالي، بعد أشهر من المحادثات المضنية، تبقى الأسئلة الكبيرة كما هي. هل يلاءم هذا العلاج.. هذا "السرطان"؟ أم أن الأمر يتطلب استئصالاً كاملاً للكتل السرطانية؟ أم أنه لا أمل في العلاج أصلاً، وينبغي الانتظار إلى أن يفارق المُصاب الحياة ويدفن إلى الأبد؟. وهناك السؤال الأكبر، هل تكفي هذه الخطة، للقضاء على من تبقى من مجرمي السوق، لاسيما وأنهم لا يزالوا موجودين في الأرجاء، سواء بصورة مباشرة، أو عن طريق "تلاميذهم" الذين حملوا الراية من بعدهم؟.
حين كان الرئيس الأميركي يلقي كلمة أمام أكثر من 700 شخص تجمعوا في حديقة الورود في البيت الأبيض حول خطة الإصلاح، مر فأر متوسط الحجم أما الرئيس، لكن هذا الأخير واصل خطابه. وقد تبين أن الفأر الذي التقطته كل الكاميرات الموجودة، استطاع على مدى أسابيع أن ينجوا من محاولات قتلته من قبل موظفي البيت الأبيض. وعلى الفور طرحت وسائل الإعلام الأميركية سؤالاً خبيثاً، جاء على الشكل التالي : إذا كان البيت الأبيض ليس قادراً حتى الآن على مكافحة فأر، فكيف يستطيع الرئيس وموظفيه مكافحة "بارونات" ورجال "وول ستريت" الجشعين؟!. لقد سعى القطاع المالي ( ولا يزال) بكل ما تبقى لديه من قوة، إلى قتل خطة الإصلاح، من خلال حشد جماعات الضغط الجشعة، بل إن هذا القطاع ضخ ملايين الدولارات الأميركية، في إعلانات مناوئة لها، بغية نشر الرعب. لكن في النهاية ضاعت هذه الملايين - كما ضاعت المليارات قبل ذلك – وتم إقرار الخطة.
إنها خطوة هامة جداً إلى الأمام، ولو لا الأزمة الاقتصادية العالمية، لما شهد العالم مثل هذا التحرك، ولما طُرحت أصلاً مسألة بناء نظام اقتصادي عالمي جديد. فخطة الإصلاح الأميركية، لا يمكن أن تخرج عن خطة البناء العالمية. وأقول: بناء، لأن الدمار العالمي الذي تسبب به "المُلهَمون" الاقتصاديون عصي على الإصلاح. فما كان ينفع قبل الأزمة، لا يُفيد بعدها. إن المشكلة الأكبر التي ستواجه الإصلاحيين الأميركيين، هي إخراج "مجرمي" السوق منها. فهؤلاء يملكون آلاف الحيل للالتفاف حول أي خطة تنال من جشعهم وطمعهم، وأي قانون يهدف إلى إعادة الأخلاقيات إلى السوق. وإذا ما أراد باراك أوباما، إقناع العالم بجدوى خطته، عليه أن يُصفي مسرح الجريمة من المجرمين، الذين سيحاولون بكل الوسائل حماية ما تبقى من "أيديولوجية وول ستريت"، التي كان من المفترض أن تسقط في أعقاب اندلاع الأزمة الاقتصادية، ولو لم يكن هناك "مُلهَمون اقتصاديون حكوميون"، لسقطت هذه الأيديولوجية قبل وقوع الأزمة نفسها.
المسألة برمتها.. هي مسألة استئصال أكثر من كونها عملية إصلاح، وهي قضية أخلاق أكثر من كونها عمليات مالية. و"سرطان وول ستريت"، هو من النوع الخبيث، ما أن يتم القضاء على خلية منه، حتى تظهر خلية أخرى أعنف وأقوى، وأشد دناءة. إنه سرطان لا يقبل العلاج حتى بالكيماوي. لقد استخدمت الولايات المتحدة في الحرب العالمية الثانية النووي. لتستخدم "النووي الاقتصادي" ضد هذا السرطان!.
-------------------------------
m@karkouti.net