في وقت يتجه العالم نحو الاختلاط والتعايش، يفاجأ العراقيون بحملة شعواء «للتطهير» الديني من متطرفين «إسلاميين» عراقيين وأجانب، يهددون ويقتلون ويختطفون بينما تعجز حكومة العراق بملياراتها وأحزابها وعلاقاتها الدولية ومحاصصاتها وبرلمانييها وسياسييها، العظام منهم والمتواضعين، أن توقف هذا المد الهمجي الذي لم يشهد له العراق مثيلاً. ولكن، أليس غريباً أن تتزامن حملة تنظيم القاعدة ضد المسيحيين مع إجراءات حكومة بغداد المحلية بإغلاق محالهم وأعمالهم ومداهمة منتدياتهم وجمعياتهم الثقافية؟ أليس عيباً أن يشعر المسيحيون بالأمان والاطمئنان في عراق صدام حسين بينما يشعرون بالقلق والخوف الآن في ظل حكومة «ديموقراطية» تحظى بمساندة أميركية وإيرانية على حد سواء؟
المسيحيون في العراق والعالم العربي هم من جعله متنوعاً وفسيحاً، وهم من ربطه بالعالم المتقدم، والهجمة عليهم هي في الحقيقة هجمة على الحرية والتنوع والتطور، هي هجمة على الاختلاف والرأي الآخر. هذه الهجمة الشرسة لا تستهدف المسيحيين بأنفسهم، بل تستهدف المسلمين غير المنتمين للأحزاب الإسلامية وغير المؤمنين بأهدافها. إنها تهدف إلى إحكام سيطرة المتشددين الإسلاميين على السلطة. وكما يقدم العلمانيون والمتنورون التنوع الديني حجة لإبقاء مجتمعاتنا منفتحة على العالم وعدم فرض القوانين الدينية المتشددة عليها، يسعى المتشددون إلى إبطال هذه الحجة عبر إزالة هذا التنوع الذي يقف المسيحيون «حجر عثرة» في طريق إزالته. نعم، المستهدفون في المقام الأول ليسوا المسيحيين بل المسلمون، والهدف هو إزالة أي عقبة أمام قيام حكومة دينية متشددة.
إن كانت الحكومة العراقية جادة في حماية الوجود المسيحي في العراق، ولا أحسب أنها كذلك، بل أعتقد أن هناك بين الإسلاميين من يتمنى ألا يرى مسيحياً في العراق كي تخلو له الأجواء، وقد عبر إسلاميو السودان عن ذلك صراحة مؤخراً مع استفتاء تقرير المصير لجنوبه، فإن عليها أن تسعى، ليس فقط لحماية المسيحيين الصامدين، بل لتقديم حوافز مغرية لمن غادروا كي يعودوا، وللباقين منهم كي يعززوا وجودهم وأن تستقطب رجال الأعمال المسيحيين للاستثمار في العراق. ليس صعباً أن تُنشأ أحياء آمنة في العراق، على الأقل موقتاً، كما هي الحال في حي المنطقة الخضراء الذي يقطنه أعضاء الحكومة، كي يسكنها المسيحيون ويقيموا فيها أعمالهم ونشاطاتهم الثقافية والدينية، وليس صعباً أن تعيِّن الحكومة قادة أمنيين من المسيحيين كي يضطلعوا فعلاً بحماية أنفسهم وغيرهم من الإرهاب، لكن ذلك لم يحصل ولن يحصل والأسباب معروفة. لقد غادر اليهود العراق، أو أجبروا على المغادرة، أواسط القرن الماضي ولم يسعَ أحد من السابقين واللاحقين لإعادتهم أو تشجيعهم على العودة، بل لم يتحدث عنهم أحد ولم يُشملوا بقوانين استعادة الجنسية أو الأملاك المصادرة وكأنهم هم المسؤولون عن الجرائم التي ارتكبت في فلسطين، بينما كانوا هم ضحايا الإرهاب والتهجير. لقد ظل اليهود العراقيون مخلصين للعراق متمسكين بثقافته وفنه ولغته، رغم ابتعادهم عنه ورغم الظلم الكبير الذي وقع عليهم. وها هم المسيحيون يلحقون بهم أو يُحفَزون على اللحاق. أليس عيباً أن يقترن اضطهاد الأقليات الدينية بمن يسمون أنفسهم اليوم «إسلاميين»؟
الديموقراطية التي بدأ الإسلاميون يتغنون بها أخيراً أصبحت فارغة من أي معنى مع سعيهم لتجريد العراق من أي معلم من معالم الانفتاح والحرية التي ينعم بها العالم الحر. إجراءات الحكومة الأخيرة بإغلاق النوادي الاجتماعية والمحال والمطاعم والفنادق المرخصة ببيع المشروبات وحظر العروض الفنية والغناء وإغلاق أقسام التمثيل والموسيقى في المعاهد الفنية وفرض الحجاب في بعض المؤسسات، ليست إلا دليل صارخ على وجود حملة منظمة تقوم بها أحزاب الإسلام السياسي لتجريد العراق من أي مظهر مدني لا يتفق مع متبنياتها الدينية الضيقة. هذه الحملة متبناة من قبل قيادات هذه الأحزاب التي اختارت طريقاً «مبتكرة» لتطبيقها، فبدلاً من أن تُعلِن عنها رسمياً ضمن برامجها الانتخابية، أوكلت أمر تنفيذها إلى صغار أعضائها في المجالس المحلية، بينما تنفي تلك القيادات علاقتها بها. لم يعد الأمر خافياً على أحد، لكن السؤال المحير هو لماذا صمتت الأحزاب العلمانية المشاركة في الحكومة على هذه التجاوزات؟ ولماذا يبرر رئيس البرلمان العلماني، أسامة النجيفي، تلك الإجراءات بأنها «جاءت نتيجة لشكاوى أهالي بغداد» وأنها حصلت بسبب «تجاوزات مخالفة للتقاليد والأعراف»؟ ولماذا تُلبى شكاوى بعض الأهالي وتهمل شكاوى الآخرين كالأدباء والمثقفين مثلاً؟ لماذا يسكت رئيس الجمهورية العلماني اليساري، حامي الدستور ورمز وحدة البلاد، على هذه التجاوزات ولم يستنكرها أو يسعى لإلغائها؟ ؟ هل لأنها تتوقف عند حدود كردستان؟ أليست هذه الإجراءات التعسفية وغير القانونية مقدمة لتحويل العراق إلى دولة دينية تبتعد عن العالم الحر وكل ما فيه من معالم المدنية والحرية؟ ألا تتعارض هذه الإجراءات مع المبادئ الديموقراطية والحريات التي نص عليها الدستور؟ ألا تضر هذه الإجراءات بالاقتصاد وعلاقات العراق مع دول العالم ومؤسساته وشركاته؟ كيف يمكن أن تنسجم وعود الحكومة بحماية المسيحيين و»عزمها» على إبقائهم في العراق والحؤول دون «سفرهم»، مع إجراءات مجالس المحافظات التي استهدفت أعمالهم ومصادر رزقهم؟ إن كانت الأحزاب الدينية تشعر بالقوة لأنها تمتلك السلطة والسلاح، فلتعلم أن بإمكان الآخرين أيضاً أن يفعلوا الشيء نفسه ليدافعوا عن أنفسهم، وسيكون ذلك عندئذ من حقهم. ولكن إلى أين سيقودنا هذا التخندق ومن المستفيد منه؟
المسيحيون لم يأتوا إلى العراق في نزهة كي يغادروا. إنهم أهل العراق الأكثر انسجاماً مع كل مكوناته. حمايتهم واجب ملِّح على الحكومة والقوى السياسية الأخرى. لكن على المسيحيين أيضاً، وكل أبناء الفئات المجتمعية المهددة، أن ينظِّموا شؤونهم ويتصدوا لحماية أنفسهم ويطالبوا بقوة بحقوقهم ويتوقفوا عن المجاملة والشعور بالضعف اللذين يبديهما قادتهم السياسيون والدينيون باستمرار. عليهم أن يعلموا أن هناك حملة منظمة شرسة لتهجيرهم، فبهذا التهجير سيتمكن المتشددون، أو هكذا يتصورون، من فرض قيمهم البالية على باقي أفراد المجتمع باعتبارهم منسجمين دينياً. وفي الوقت نفسه فإن من واجب القوى المدنية والعلمانية جميعاً أن تصطف معاً لحماية الحقوق المدنية والحريات العامة ومبادئ الديموقراطية، وإلا سيشعر الجميع قريباً أنهم «أُكلوا يوم أُكل الخروف الأبيض»!
------------------
الحياة اللندنية - كاتب عراقي
المسيحيون في العراق والعالم العربي هم من جعله متنوعاً وفسيحاً، وهم من ربطه بالعالم المتقدم، والهجمة عليهم هي في الحقيقة هجمة على الحرية والتنوع والتطور، هي هجمة على الاختلاف والرأي الآخر. هذه الهجمة الشرسة لا تستهدف المسيحيين بأنفسهم، بل تستهدف المسلمين غير المنتمين للأحزاب الإسلامية وغير المؤمنين بأهدافها. إنها تهدف إلى إحكام سيطرة المتشددين الإسلاميين على السلطة. وكما يقدم العلمانيون والمتنورون التنوع الديني حجة لإبقاء مجتمعاتنا منفتحة على العالم وعدم فرض القوانين الدينية المتشددة عليها، يسعى المتشددون إلى إبطال هذه الحجة عبر إزالة هذا التنوع الذي يقف المسيحيون «حجر عثرة» في طريق إزالته. نعم، المستهدفون في المقام الأول ليسوا المسيحيين بل المسلمون، والهدف هو إزالة أي عقبة أمام قيام حكومة دينية متشددة.
إن كانت الحكومة العراقية جادة في حماية الوجود المسيحي في العراق، ولا أحسب أنها كذلك، بل أعتقد أن هناك بين الإسلاميين من يتمنى ألا يرى مسيحياً في العراق كي تخلو له الأجواء، وقد عبر إسلاميو السودان عن ذلك صراحة مؤخراً مع استفتاء تقرير المصير لجنوبه، فإن عليها أن تسعى، ليس فقط لحماية المسيحيين الصامدين، بل لتقديم حوافز مغرية لمن غادروا كي يعودوا، وللباقين منهم كي يعززوا وجودهم وأن تستقطب رجال الأعمال المسيحيين للاستثمار في العراق. ليس صعباً أن تُنشأ أحياء آمنة في العراق، على الأقل موقتاً، كما هي الحال في حي المنطقة الخضراء الذي يقطنه أعضاء الحكومة، كي يسكنها المسيحيون ويقيموا فيها أعمالهم ونشاطاتهم الثقافية والدينية، وليس صعباً أن تعيِّن الحكومة قادة أمنيين من المسيحيين كي يضطلعوا فعلاً بحماية أنفسهم وغيرهم من الإرهاب، لكن ذلك لم يحصل ولن يحصل والأسباب معروفة. لقد غادر اليهود العراق، أو أجبروا على المغادرة، أواسط القرن الماضي ولم يسعَ أحد من السابقين واللاحقين لإعادتهم أو تشجيعهم على العودة، بل لم يتحدث عنهم أحد ولم يُشملوا بقوانين استعادة الجنسية أو الأملاك المصادرة وكأنهم هم المسؤولون عن الجرائم التي ارتكبت في فلسطين، بينما كانوا هم ضحايا الإرهاب والتهجير. لقد ظل اليهود العراقيون مخلصين للعراق متمسكين بثقافته وفنه ولغته، رغم ابتعادهم عنه ورغم الظلم الكبير الذي وقع عليهم. وها هم المسيحيون يلحقون بهم أو يُحفَزون على اللحاق. أليس عيباً أن يقترن اضطهاد الأقليات الدينية بمن يسمون أنفسهم اليوم «إسلاميين»؟
الديموقراطية التي بدأ الإسلاميون يتغنون بها أخيراً أصبحت فارغة من أي معنى مع سعيهم لتجريد العراق من أي معلم من معالم الانفتاح والحرية التي ينعم بها العالم الحر. إجراءات الحكومة الأخيرة بإغلاق النوادي الاجتماعية والمحال والمطاعم والفنادق المرخصة ببيع المشروبات وحظر العروض الفنية والغناء وإغلاق أقسام التمثيل والموسيقى في المعاهد الفنية وفرض الحجاب في بعض المؤسسات، ليست إلا دليل صارخ على وجود حملة منظمة تقوم بها أحزاب الإسلام السياسي لتجريد العراق من أي مظهر مدني لا يتفق مع متبنياتها الدينية الضيقة. هذه الحملة متبناة من قبل قيادات هذه الأحزاب التي اختارت طريقاً «مبتكرة» لتطبيقها، فبدلاً من أن تُعلِن عنها رسمياً ضمن برامجها الانتخابية، أوكلت أمر تنفيذها إلى صغار أعضائها في المجالس المحلية، بينما تنفي تلك القيادات علاقتها بها. لم يعد الأمر خافياً على أحد، لكن السؤال المحير هو لماذا صمتت الأحزاب العلمانية المشاركة في الحكومة على هذه التجاوزات؟ ولماذا يبرر رئيس البرلمان العلماني، أسامة النجيفي، تلك الإجراءات بأنها «جاءت نتيجة لشكاوى أهالي بغداد» وأنها حصلت بسبب «تجاوزات مخالفة للتقاليد والأعراف»؟ ولماذا تُلبى شكاوى بعض الأهالي وتهمل شكاوى الآخرين كالأدباء والمثقفين مثلاً؟ لماذا يسكت رئيس الجمهورية العلماني اليساري، حامي الدستور ورمز وحدة البلاد، على هذه التجاوزات ولم يستنكرها أو يسعى لإلغائها؟ ؟ هل لأنها تتوقف عند حدود كردستان؟ أليست هذه الإجراءات التعسفية وغير القانونية مقدمة لتحويل العراق إلى دولة دينية تبتعد عن العالم الحر وكل ما فيه من معالم المدنية والحرية؟ ألا تتعارض هذه الإجراءات مع المبادئ الديموقراطية والحريات التي نص عليها الدستور؟ ألا تضر هذه الإجراءات بالاقتصاد وعلاقات العراق مع دول العالم ومؤسساته وشركاته؟ كيف يمكن أن تنسجم وعود الحكومة بحماية المسيحيين و»عزمها» على إبقائهم في العراق والحؤول دون «سفرهم»، مع إجراءات مجالس المحافظات التي استهدفت أعمالهم ومصادر رزقهم؟ إن كانت الأحزاب الدينية تشعر بالقوة لأنها تمتلك السلطة والسلاح، فلتعلم أن بإمكان الآخرين أيضاً أن يفعلوا الشيء نفسه ليدافعوا عن أنفسهم، وسيكون ذلك عندئذ من حقهم. ولكن إلى أين سيقودنا هذا التخندق ومن المستفيد منه؟
المسيحيون لم يأتوا إلى العراق في نزهة كي يغادروا. إنهم أهل العراق الأكثر انسجاماً مع كل مكوناته. حمايتهم واجب ملِّح على الحكومة والقوى السياسية الأخرى. لكن على المسيحيين أيضاً، وكل أبناء الفئات المجتمعية المهددة، أن ينظِّموا شؤونهم ويتصدوا لحماية أنفسهم ويطالبوا بقوة بحقوقهم ويتوقفوا عن المجاملة والشعور بالضعف اللذين يبديهما قادتهم السياسيون والدينيون باستمرار. عليهم أن يعلموا أن هناك حملة منظمة شرسة لتهجيرهم، فبهذا التهجير سيتمكن المتشددون، أو هكذا يتصورون، من فرض قيمهم البالية على باقي أفراد المجتمع باعتبارهم منسجمين دينياً. وفي الوقت نفسه فإن من واجب القوى المدنية والعلمانية جميعاً أن تصطف معاً لحماية الحقوق المدنية والحريات العامة ومبادئ الديموقراطية، وإلا سيشعر الجميع قريباً أنهم «أُكلوا يوم أُكل الخروف الأبيض»!
------------------
الحياة اللندنية - كاتب عراقي