نظرا للصعوبات الاقتصادية التي رافقت الجائحة وأعقبتها اضطررنا لإيقاف أقسام اللغات الأجنبية على أمل ان تعود لاحقا بعد ان تتغير الظروف

الهدهد: صحيفة اليكترونية عربية بخمس لغات عالمية
الهدهد: صحيفة اليكترونية عربية بأربع لغات عالمية
Rss
Facebook
Twitter
App Store
Mobile



عيون المقالات

الفرصة التي صنعناها في بروكسل

26/11/2024 - موفق نيربية

المهمة الفاشلة لهوكستين

23/11/2024 - حازم الأمين

العالم والشرق الأوسط بعد فوز ترامب

17/11/2024 - العميد الركن مصطفى الشيخ

إنّه سلام ما بعده سلام!

17/11/2024 - سمير التقي

( ألم يحنِ الوقتُ لنفهم الدرس؟ )

13/11/2024 - عبد الباسط سيدا*

طرابلس "المضطهدة" بين زمنين

13/11/2024 - د.محيي الدين اللاذقاني


المثقف الأردني وطاحونة الأسد الدامية




على نار خفيفة، متباطئة عن سابق قصد لكي توحي بأن خلاصاتها سوف تكون متأنية متبصرة، يطبخ مثقف أردني أوّل زيارة السفيرين الأمريكي والفرنسي الى مدينة حماة مؤخراً؛ فيستعرض الأسباب البعيدة والقريبة، وما خفي منها وما انجلى، في ناظره ومنظاره بالطبع، وينتهي الى طبخة الحصى التالية: ينبغي أن نعدّ الى العشرة قبل أن نرى في الزيارة خطوة لدعم الحرية والديمقراطية وحقوق الإنسان!


والحال أنّ صديقنا لم يكن بحاجة للعدّ، حتى إلى الرقم واحد، لكي يبلغ هذه النتيجة البسيطة، التي يحفظها السوريون عن ظهر قلب، وصارت بديهية عندهم منذ عقود. وهذا إدراك لا يقتصر على موقف الولايات المتحدة من الشؤون السورية وحدها، بل ينسحب على القضايا العربية جمعاء، من أغلاها على نفس العربي (القضية الفلسطينة)، إلى أشدها التصاقاً بمعيشه اليومي (حقوق الإنسان، ومباذل أنظمة الإستبداد).

وكان خيراً لطابخ الحصى أن يتذكر حقيقتين: الأولى تفيد بأن أهل حماة لم يوجهوا الدعوة الى السفير الأمريكي، ولا إلى زميله الفرنسي. وبالتالي لا وجه لملامتهم في أيّ حال، ومن غير المنطقي أن نطالبهم برجم السفيرين بالحجارة أو البندورة أو البيض (كما سيفعل "شبيحة" النظام بعدئذ في دمشق، أمام مبنى السفارتين)، أو طردهما من المدينة شر طردة. الحقيقة الثانية، وكان الطابخ سيكتشفها دون كبير عناء لو أنه توخى بعض الدقة، أو أجرى المزيد من البحث، هي أنّ السفيرين، الأمريكي روبرت فورد والفرنسي إريك شوفالييه، أرسلا إلى واشنطن وباريس تقارير متعاطفة مع رواية النظام حول "المؤامرة الخارجية" و"المندسين" و"الإمارات السلفية". الأمريكي صرّح مطلع الإنتفاضة بأنّ "بعض الأيدي الخارجية" تتدخّل في "الأحداث"، فاستحقّ تعليقات لاذعة من الديمقراطيين والجمهوريين على حدّ سواء؛ والثاني استدعته الخارجية الفرنسية بعد أن أشبعته الصحافة الفرنسية قدحاً ونقداً لأنه يتبني وجهة نظر النظام حول وجود "أجندات خارجية"، ولأنه أقام وليمة مشهودة على شرف رامي مخلوف، ابن خال الرئاسة وتمساح الفساد المافيوزي الأشرس والأحطّ مستوى، داخل حرم السفارة!

مثقف أردني ثانٍ يطرح هذا السؤال: هل هناك مثقف عربي محترم لا يريد لسورية ولشعبها الحرية والديقراطية والعدالة وزوال القمع (وهنا يشير صديقنا، بعد أن يضع بين قوسين، إلى القمع "الفردي" أو "الحزبي")، والقضاء على كل أشكال النهب والفساد؟ أغلب الظنّ أنه لن يجد أيّ مثقف عربي محترم، أو حتى وضيع حقير زنيم، يمكن أن يعلن العكس.

بعد هذا السؤال التبسيطي، الذي يصعب تصنيفه حتى في خانة تحصيل الحاصل، حول تفسير الماء بعد الجهد بالماء مثلاً، يفلسف صديقنا الأمر على نحو مختلف، فيسأل: بعد هذا الاتفاق، هل يستوي نظام يحاصر غزّة، مع نظام يدعم المقاومة اللبنانية؟ المرء، للوهلة الأولى، لا يدرك طبيعة الإستواء أو الإعوجاج هنا، وما علاقتهما بالنوايا الطيبة تجاه الشعب السوري، إلى أن يفسّر السائل محتوى تفلسفه ذاك: هل من المنطقي أن يكون موقفنا من نظام حسني مبارك، هو نفس موقفنا من نظام بشار الأسد؟

تلك، غنيّ عن القول، مساجلة فاسدة تفترض أنّ الدعاء بالخير والحرّية والديمقراطية والعدالة والقضاء على كلّ أشكال النهب والفساد، إلخ... إلخ...، مقترن وجوباً بموقف هذا النظام أو ذاك من حصار غزّة و/أو مساندة المقاومة اللبنانية. فإذا حاصرتَ، فعليك تدور الدوائر، ولشعبك الحقّ كلّ الحقّ في مستقبل أفضل؛ أمّا إذا ساندتَ، حتى باللفظ وحده، وفي لبنان فقط، وليس البتة في الجولان المحتلّ، فإنّ على شعبك أن ينتظر ويصبر ويسكت ويتحمّل العسف والرصاص الحيّ والمدفعية الثقيلة والحوّامات وقرابة 1600 شهيد... كرمى لعين المقاومة، اللبنانية دائماً، وحصرياً!

يتناسى صديقنا أنّ هذا النظام، الذي يراه سنداً للمقاومة، قد خاض حرباً شعواء ضدّ الحركة الوطنية في لبنان دون سواه، وحاصر مخيّمات الفلسطينيين وجوّعهم وعطّشهم، وكان مراقباً صامتاً إزاء اجتياح لبنان سنة 1982، وساكتاً متفرجاً على مجازر تل الزعتر، وأرسل جيشه للإلتحاق بتحالف "حفر الباطن" تحت إمرة جنرالات أمريكا. كما يتناسى أنّ هذا النظام هو الأوّل الوراثي على نطاق جمهوريات الإستبداد والفساد العربية، وأنّ الحدّ الأدنى من أخلاقيات المثقف التقدّمي اليساري المساند للمقاومة، أن ينكر ويستنكر أنظمة التوريث. أي تفلسف مجاني، كسيح وركيك واختزالي، أن يستسهل المثقف تجزئة الحقّ في الحرّية والكرامة بين شعب وآخر، بذريعة (كاذبة أصلاً، ومنافقة) عنوانها الحرص على المقاومة؟ وأيّ تواطؤ مقنّع هذا، حين يتناسى صديقنا أنّ مقاومته تلك إنما تقف في نهاية المطاف مع الطغيان والفساد، ضدّ انتفاضة شعب باسل شجاع، يناضل بالصدور العارية وحدها!

مثقف أردني ثالث يتابع نهجاً مماثلاً في افتعال ثنائيات ليست قائمة على الأرض أصلاً، تهرّباً من الوقوف بصراحة تامة، دونما تأتأة وغمغمة ولفّ ودوران، مع حقّ الشعب السوري في الحرية والكرامة والديمقراطية. وهذا الحقّ لم يعد حلماً قابلاً للأخذ والردّ الآن، بعد انطلاقة الإنتفاضة واتساع نطاقها الجغرافي واشتداد زخمها الشعبي واتضاح برنامجها السياسي الوطني، بل بات مشروع مستقبل لا يساجل أحد ضدّه إلا إذا قرّر السير في ركب النظام. معادلة صاحبنا، المثقف الثالث، هي التالية: لا للإستبداد والفساد، ولا للتدخّل الخارجي، في آن معاً بطبيعة الحال. جميل، فمَنْ أعلمه أنّ الإنتفاضة السورية ترى تناقضاً بين طرفَيْ المعادلة، لكي ترتفع عقيرته محذّرة من عواقبها؟ وإذا لم يكن خياراً صحيحاً، كما يقول بنفسه، أن يكون المرء إمّا مع الغزاة الإمبرياليين ضدّ الإستبداد والفساد، وإمّا مع هذا الإستبداد ضدّ أولئك الغزاة، فأين المشكلة؟ ولماذا افتعال المعادلة أصلاً، إلا إذا كانت عتبة تخفي القول اللاحق، الضمني أو المستتر، بأنّ أخطار التدخّل الخارجي تبرّر تأجيل الإنتفاضة الآن (أي: تأجيلها إلى أبد الآبدين!)، بهدف "قطع الطريق على المؤامرة الخارجية"، والقبول فقط بما يلقيه النظام للشعب من فتات "إصلاح" كاذب، افتُضح على مدى 41 سنة؟

ما يتجاهله هذا المثقف (عن سابق عمد وتصميم، إذْ من غير المعقول أنه يجهله) هو الحقيقة الأولى والأهمّ خلف حكاية التدخّل الخارجي هذه: أنّ أنظمة الإستبداد، وليس الشعوب الثائرة، هي التي تستدرج التدخّل الخارجي، سواء تقصدت ذلك لتسبغ صفة التدويل على صراعها مع الشعب، فتوحي بأنها ضحية قوى خارجية؛ أو قادت أفعالها النكراء، مثل ارتكاب المجازر وجرائم الحرب، إلى تأليب الرأي العام العالمي بما يسيل لعاب التدخّل الخارجي. وحتى في المثال الليبي، وهو الوحيد راهناً ضمن مشهدية "الربيع العربي"، هل كانت الجماهير الليبية هي التي استنجدت بأمثال باراك أوباما أو نيكولا ساركوزي أو الحلف الأطلسي؟

أصدقاؤنا المثقفون الثلاثة هؤلاء ليسوا سوى نماذج في طرائق تفكير بصدد الإنتفاضة السورية، تنبثق من منابع خارجة عن جوهر الصراع بين الحقّ والطغيان (مثل الممانعة، الحرص على المقاومة، التوجس من التدخل الأجنبي، والخوف على مستقبل سورية من حرب أهلية...)؛ وتذرف الدموع السخية، الصادقة أو الكاذبة، على البلد وأهله؛ وتمسك العصا من الوسط، فتتأرجح مواقفها على الميمنة مثل الميسرة، وتتذبذب في كثير أو قليل... لتنتهي عند قاسم مشترك واحد، مؤسف ومحزن بقدر ما هو فاضح ومخجل: صبّ المياه في طاحونة العنف الدامية التي يديرها نظام بشار الأسد منذ خمسة أشهر، ضدّ انتفاضة شعبية مشروعة، لن يوقفها إلا انبلاج فجر سورية الحرّة، الديمقراطية، الكريمة، و... المقاوِمة الممانِعة بحقّ، دون بهتان!

صبحي حديدي
الاربعاء 3 غشت 2011