على دول العالم الثالث أن تفرح، وعليها أن تَسعد بتقدمها صفا أمامياً واحداً. عليها أن تعترف للأزمة الاقتصادية العالمية، ببعض "الجميل" في تحركها الطبقي نحو الأعلى. عليها أن تتخلص من مشاعر "الدونية" ولو قليلاً. عليها أن ترفع من صوتها بكل ما تمتلك من قوة، في وجوه "كاتمي الصوت". عليها أن تردد تلك الأغنية الشهيرة للشاعر والمغني الأميركي بوب ديلان " الأوقات تتغير" The Times They Are a-Changin . عليها أن تُذكِر العالم – لاسيما الذين كانوا أقوياء في المُطلق – بما قاله يوماً رئيس الوزراء البريطاني الأسبق ونستون تشرتشل : " إن الأمم القوية ليست عادلة، وعندما ترغب في أن تكون عادلة، تكون قد فقدت قوتها". على دول العالم الثالث، أن تغتنم التحول التاريخي الذي أحدثه الاقتصاد لا السياسة، والذي جعل من الكبير أقل شأنا، وأكثر اضطراباً، ومن الصغير رقماً، لم يكن محسوباً في السابق. عليها أن تتخذ سياسات توازي التحولات، وأن تعمل على " إنضاج" نفسها وفقاً للمستجدات التاريخية. لقد ظلت هذه الدول عقوداً من الزمن، تسلك طريقاً بلا مسارب، ودرباً بلا نقطة علاَم واحدة!. ارتضت برقمها الثالث الذي حدده الآخرون لها. ربما اعترضت مرة أو مرتين.. لكن لم تجدد اعتراضاتها بعد ذلك. قبلت بالتصنيف، دون أن تسأل عن واقعية ومعايير المُصنِف!.
إذا كانت السياسة والنظم غير الديمقراطية كرست تصنيف العالم الثالث، على اعتبار أن العالم الأول – مثلاً- يمارس السلوك الديمقراطي في حياته، فإن الاقتصاد هو الذي بدأ بدفع التوجهات إلى إلغاء "الرقم الثالث" في عالمه. وهو بالتحديد ما دفع رئيس البنك الدولي روبرت زوليك إلى الإعلان عن أن " مفهوم العالم الثالث القديم، لم يعد قائماً، وأن الدول الغنية ( الصناعية) لا يمكنها فرض إرادتها على الدول النامية التي أصبحت الآن محركات رئيسية للنمو العالمي". كيف توصل حاكم بنك " الأثرياء والفقراء" إلى هذه النتيجة التاريخية بكل معنى الكلمة؟. قام باستعراض بسيط للحراك الاقتصادي في بعض الدول النامية على مدى السنوات الماضية، "واكتشف" أن التقدم الاقتصادي في هذه الدول، كان له آثار عميقة على التعاون الدولي والتعددية وعمل مؤسسات مثل البنك الدولي. "واكتشف" أيضا، أن الاقتصادات الناشئة ستلعب دوراً أكبر، من العودة مجدداً للتركيز على مصالح ذاتية. ولمن نسي – ومن بينهم زوليك – فإن الدول المَعنية في العالم الثالث هذه، بدأت بلعب دور كبير على الساحة العالمية منذ سنوات. أي أنها تجاوزت حالة أو توصيف "ستلعب". لا يرغب مكتشفو "الحقيقة" الجديدة، أن ينظروا لعالم جديد من منظور قديم. والواقع أن الحائط الأخير في "صرح" المنظور القديم، دُمر عملياً وواقعياً مع أول تفجير جاءت به الأزمة الاقتصادية العالمية، "المصنوعة" من جهة الغرب لا الشرق، والمتُشكلة من مفاهيم المنتصرين في الحرب العالمية الثانية، التي لا دخل لـ " العالم الثالث" في نشوبها، لكنه احترق بنارها، من جملة حرائق العالم.
هل سيفهم الغرب (المُصنِف) خطأ تصنيفه؟ أم أن بقاياه من المنتصرين السابقين، سيحاولون الاحتفاظ بالمنظور القديم بأطول مدة ممكنة ؟ هل سيقتنع الغرب، بأن سياسة الإشراك، لم تعد مطلباً، بل أضحت حقيقة واقعة ماثلة أمام الجميع؟. هل سيستفيد العالم من الفترة المتبقية للرئيس الأميركي باراك أوباما في البيت الأبيض، لتكريس هذه الحقيقة، لاسيما وأنه بدا من دعاتها؟. الواضح أن عدداً متنامياً من "المنتصرين القدماء" الذي ملكوا زمام كل مبادرة دولية، باتوا يعرفون أن التغييرات العالمية ليست مرحلية أو عابرة، بل حدثت ( وتحدث) لتبقى، ولتؤسس لمفهوم جديد فيما يرتبط بصنع القرار الدولي. ومع تزايد تأثير الدول الناشئة في الحراك الاقتصادي العالمي، واشتراكها في صياغة الحلول ( لا تزال بعيدة عن الاشتراك الذين تستحقه في صنع القرار)، لن يكون سهلاً على أي من الدول ذات المفهوم القديم، أن تقاوم وجود اللاعبين الجدد على الساحة. فهؤلاء لم يكن مسموحاً لهم، حتى بالجلوس على مقاعد "الاحتياط". لقد كانوا مثل أولئك الذين يحضرون مباراة لكرة القدم، لا يقومون بأي شيء سوى التشجيع!.
عندما ابتكر المؤرخ الفرنسي الفريد سوفيه مصطلح "العالم الثالث" في العام 1952، لم يشر إلى أن مصطلحه هذا سيصلح في كل زمان، وإن كان يعرف المكان. فقد أطلقه في وقته، على اعتبار أن دول العالم الثالث لم تستفد من الثورة الصناعية في القرن التاسع عشر. ولأنها كذلك، فهي دول نامية، أو دول متخلفة. ولكن السؤال الذي كان ينبغي أن يُوجه إلى سوفيه : لماذا لم تقم الدول الصناعية أو تلك المنخرطة في التصنيع آنذاك، في نشر "الاستفادة" من هذه الثورة؟! علماً بأن الغالبية العظمى من الدول التي "حملت" الرقم ثلاثة، كانت مجرد مستعمرات للدول الصناعية. إن هذا المصطلح كان ظالماً، لأن "النفحات" الصناعية وقتها، كانت محجوبة عن هذا العالم، الذي لم يكن يملك حتى صنع القرار الاجتماعي في بعض دوله، فكيف الحال بصنع القرار الاقتصادي أو التنموي أو الصناعي؟!.
الآن.. يتحدثون عن أن أفريقيا جنوب الصحراء الكبرى ، ستحقق متوسط نمو يتجاوز الستة في المئة بحلول العام 2015 بينما ستشهد منطقة جنوب آسيا - حيث يعيش نصف فقراء العالم - نمواً بنسبة تصل إلى سبعة في المئة سنوياً خلال الفترة نفسها. وأن التغييرات العالمية الهائلة لا تحدث فقط في دولة مثل الصين والهند. وهذا يعني أن أي مبادرة (أو تحرك) ، ستكون بلا قيمة، إذا ما استبعدت هذه الدول عن ماكينة صنع القرار العالمي. كيف يمكن تجاهل دوراً للصين والهند والمكسيك والبرازيل وماليزيا والفلبين وتايلاند وجنوب أفريقيا في هذا المجال؟. كيف يمكن تجاهل دور المملكة العربية السعودية التي تشهد نمواً متوازناً، وتستأثر بأكبر احتياطي نفطي في العالم، وتساهم مالياً بصورة كبيرة في المؤسسات الدولية، بما في ذلك البنك الدولي؟!.
لقد أظهرت مجموعة العشرين – على سبيل المثال – قدرة فائقة على مجابهة الأزمات، وقوة متعاظمة في صياغة ووضع الحلول. وأثبتت أن القرارات التي فُرضت على مدى عقود من قِبل الدول التقليدية الكبرى، لم تؤد إلا إلى مجموعة من الكوارث، وجملة من المصائب، إلى جانب مشاعر الأسى عند الدول المُتلقية لهذه القرارات. في هذا الزمن سوف يؤدي أي تجاهل لدول "العالم الثالث" الناشئة والمؤثرة في الاقتصاد العالمي، إلى دفعها للسعي وراء مصالحها الوطنية الأضيق. وهذا ما يخشى منه رئيس البنك الدولي، لأن ذلك سيترك " الفريق" تحت رحمة "لاعبين كهول"، لن يسجلوا أهدافاً، وإن فعلوا فسوف يسجلونها في مرماهم!.
إن مفهوم " العالم الثالث"، ينبغي أن ينتهي ليس إعلامياً ولا إنسانياً فحسب، بل سلوكياً أيضاً. المجال الآن مناسب لـ " تغيير الأرقام"، تمهيداً لإلغاء "الطبقية الاقتصادية العالمية". في هذا العالم لم يعد هناك مكان للنخبة، ولا مساحة لمُتسيد، ولا فسحة لكبير. هناك ساحة للجميع.
------------------------------
m@karkouti.net
إذا كانت السياسة والنظم غير الديمقراطية كرست تصنيف العالم الثالث، على اعتبار أن العالم الأول – مثلاً- يمارس السلوك الديمقراطي في حياته، فإن الاقتصاد هو الذي بدأ بدفع التوجهات إلى إلغاء "الرقم الثالث" في عالمه. وهو بالتحديد ما دفع رئيس البنك الدولي روبرت زوليك إلى الإعلان عن أن " مفهوم العالم الثالث القديم، لم يعد قائماً، وأن الدول الغنية ( الصناعية) لا يمكنها فرض إرادتها على الدول النامية التي أصبحت الآن محركات رئيسية للنمو العالمي". كيف توصل حاكم بنك " الأثرياء والفقراء" إلى هذه النتيجة التاريخية بكل معنى الكلمة؟. قام باستعراض بسيط للحراك الاقتصادي في بعض الدول النامية على مدى السنوات الماضية، "واكتشف" أن التقدم الاقتصادي في هذه الدول، كان له آثار عميقة على التعاون الدولي والتعددية وعمل مؤسسات مثل البنك الدولي. "واكتشف" أيضا، أن الاقتصادات الناشئة ستلعب دوراً أكبر، من العودة مجدداً للتركيز على مصالح ذاتية. ولمن نسي – ومن بينهم زوليك – فإن الدول المَعنية في العالم الثالث هذه، بدأت بلعب دور كبير على الساحة العالمية منذ سنوات. أي أنها تجاوزت حالة أو توصيف "ستلعب". لا يرغب مكتشفو "الحقيقة" الجديدة، أن ينظروا لعالم جديد من منظور قديم. والواقع أن الحائط الأخير في "صرح" المنظور القديم، دُمر عملياً وواقعياً مع أول تفجير جاءت به الأزمة الاقتصادية العالمية، "المصنوعة" من جهة الغرب لا الشرق، والمتُشكلة من مفاهيم المنتصرين في الحرب العالمية الثانية، التي لا دخل لـ " العالم الثالث" في نشوبها، لكنه احترق بنارها، من جملة حرائق العالم.
هل سيفهم الغرب (المُصنِف) خطأ تصنيفه؟ أم أن بقاياه من المنتصرين السابقين، سيحاولون الاحتفاظ بالمنظور القديم بأطول مدة ممكنة ؟ هل سيقتنع الغرب، بأن سياسة الإشراك، لم تعد مطلباً، بل أضحت حقيقة واقعة ماثلة أمام الجميع؟. هل سيستفيد العالم من الفترة المتبقية للرئيس الأميركي باراك أوباما في البيت الأبيض، لتكريس هذه الحقيقة، لاسيما وأنه بدا من دعاتها؟. الواضح أن عدداً متنامياً من "المنتصرين القدماء" الذي ملكوا زمام كل مبادرة دولية، باتوا يعرفون أن التغييرات العالمية ليست مرحلية أو عابرة، بل حدثت ( وتحدث) لتبقى، ولتؤسس لمفهوم جديد فيما يرتبط بصنع القرار الدولي. ومع تزايد تأثير الدول الناشئة في الحراك الاقتصادي العالمي، واشتراكها في صياغة الحلول ( لا تزال بعيدة عن الاشتراك الذين تستحقه في صنع القرار)، لن يكون سهلاً على أي من الدول ذات المفهوم القديم، أن تقاوم وجود اللاعبين الجدد على الساحة. فهؤلاء لم يكن مسموحاً لهم، حتى بالجلوس على مقاعد "الاحتياط". لقد كانوا مثل أولئك الذين يحضرون مباراة لكرة القدم، لا يقومون بأي شيء سوى التشجيع!.
عندما ابتكر المؤرخ الفرنسي الفريد سوفيه مصطلح "العالم الثالث" في العام 1952، لم يشر إلى أن مصطلحه هذا سيصلح في كل زمان، وإن كان يعرف المكان. فقد أطلقه في وقته، على اعتبار أن دول العالم الثالث لم تستفد من الثورة الصناعية في القرن التاسع عشر. ولأنها كذلك، فهي دول نامية، أو دول متخلفة. ولكن السؤال الذي كان ينبغي أن يُوجه إلى سوفيه : لماذا لم تقم الدول الصناعية أو تلك المنخرطة في التصنيع آنذاك، في نشر "الاستفادة" من هذه الثورة؟! علماً بأن الغالبية العظمى من الدول التي "حملت" الرقم ثلاثة، كانت مجرد مستعمرات للدول الصناعية. إن هذا المصطلح كان ظالماً، لأن "النفحات" الصناعية وقتها، كانت محجوبة عن هذا العالم، الذي لم يكن يملك حتى صنع القرار الاجتماعي في بعض دوله، فكيف الحال بصنع القرار الاقتصادي أو التنموي أو الصناعي؟!.
الآن.. يتحدثون عن أن أفريقيا جنوب الصحراء الكبرى ، ستحقق متوسط نمو يتجاوز الستة في المئة بحلول العام 2015 بينما ستشهد منطقة جنوب آسيا - حيث يعيش نصف فقراء العالم - نمواً بنسبة تصل إلى سبعة في المئة سنوياً خلال الفترة نفسها. وأن التغييرات العالمية الهائلة لا تحدث فقط في دولة مثل الصين والهند. وهذا يعني أن أي مبادرة (أو تحرك) ، ستكون بلا قيمة، إذا ما استبعدت هذه الدول عن ماكينة صنع القرار العالمي. كيف يمكن تجاهل دوراً للصين والهند والمكسيك والبرازيل وماليزيا والفلبين وتايلاند وجنوب أفريقيا في هذا المجال؟. كيف يمكن تجاهل دور المملكة العربية السعودية التي تشهد نمواً متوازناً، وتستأثر بأكبر احتياطي نفطي في العالم، وتساهم مالياً بصورة كبيرة في المؤسسات الدولية، بما في ذلك البنك الدولي؟!.
لقد أظهرت مجموعة العشرين – على سبيل المثال – قدرة فائقة على مجابهة الأزمات، وقوة متعاظمة في صياغة ووضع الحلول. وأثبتت أن القرارات التي فُرضت على مدى عقود من قِبل الدول التقليدية الكبرى، لم تؤد إلا إلى مجموعة من الكوارث، وجملة من المصائب، إلى جانب مشاعر الأسى عند الدول المُتلقية لهذه القرارات. في هذا الزمن سوف يؤدي أي تجاهل لدول "العالم الثالث" الناشئة والمؤثرة في الاقتصاد العالمي، إلى دفعها للسعي وراء مصالحها الوطنية الأضيق. وهذا ما يخشى منه رئيس البنك الدولي، لأن ذلك سيترك " الفريق" تحت رحمة "لاعبين كهول"، لن يسجلوا أهدافاً، وإن فعلوا فسوف يسجلونها في مرماهم!.
إن مفهوم " العالم الثالث"، ينبغي أن ينتهي ليس إعلامياً ولا إنسانياً فحسب، بل سلوكياً أيضاً. المجال الآن مناسب لـ " تغيير الأرقام"، تمهيداً لإلغاء "الطبقية الاقتصادية العالمية". في هذا العالم لم يعد هناك مكان للنخبة، ولا مساحة لمُتسيد، ولا فسحة لكبير. هناك ساحة للجميع.
------------------------------
m@karkouti.net