ويكفي أن نتذكر اختياره اسم «لهب» لابنه البكر، واضطر إلى تحويله لاسم «صافي» في دائرة الشؤون المدنية، بعد أن رفضوا هناك تسجيله بالاسم الذي اختاره، غير أن الذين عرفوا القصة وعاشروه جيداً ظلوا ينادونه «أبو لهب» وهو يبتسم ساخراً حتى من نفسه أحياناً..
لاحظت هذه الفرادة فيه مذ كنا زميلين في الجامعة، عندما كنا نتقابل في الحديقة أوفي الممرات، فتتحول الوقفة العابرة إلى محطة استراحة، يأسرني فيها زميلي بأسلوبه الخاص جداً في ارتداء الملابس كما في النقاش أو التعليق على ما كنا نراه من بشر وأشياء، ففي لباسه كان أكثرنا أناقة واحتفاء بالألوان الصارخة، وفي النقاش أقدرنا على حسمه بنكتة ثاقبة، وفي التعليق أمهرنا في اقتناص العيوب أو المحاسن، فتكاد لا تمر بنا طالبة أو طالب إلا دمغهما بماركة مسجلة.
أذكر مما أذكره عن هذه الخصوصية الفريدة فيه أننا كنا معاً ذات مرة في أحد الممرات حين توقفت فجأة على منظر منديل نسائي هفهاف متروك على حافة نافذة فقال لي على الفور: «إذا كنت شاعراً بحق فاصنع من هذا المنديل قصيدة»، ثم أضاف ضاحكاً: «لا تجعلها عمودية.. أرجوك». فمنذ ذلك العهد كان علي الجندي يضيق ذرعاً بالقصائد العمودية، ويسخر من شعرائها، وكنت منهم آنذاك.. وقد نظمتُ بعدها تلك القصيدة المنديلية. وإذا كنت لا أذكر منها شيئاً الآن، فأنا أذكر جيداً أنها لم تكن عمودية – كما أراد علي الجندي تماماً -!
وحين تزوج علي استغربنا جميعاً تبكيره بدخول القفص، وهو المحسوب دوماً على جماعة «الأحرار» أكثر منا جميعاً، ولم يقنعنا بأصالته إلا حين طلّق، وتزوج الثانية، والثالثة أو الأخيرة التي كانت تصغره بربع قرن.
لا أتحدث هنا عن شعره بالطبع، بل عن الشخص المدهش في فرادته وعنفوانه وجاذبيته الملفتة. لقد اختلفنا في كثير من موضوعات السياسة والمجتمع والثقافة، ولكنني لا أذكر مرة أننا تحولنا إلى خصمين. لقد كان علي الجندي قادراً دوماً على إكساب الخصومة الفكرية طابعاً مرحاً أشبه بلعبة «الطاولة»؛ فمرة «دوشيش» ومرة «إيكي بير»، فالمسألة إذن أشبه بالمصادفة أو الحظ السيء أو السعيد، فلماذا نكبّرها ونقلبها عداوة؟!
كان علي الجندي شاعراً بكل ما تعنيه كلمة شاعر، ومع ذلك فلم يكن يعبأ كثيراً بأن يسمى شاعراً. وحين واتاه الزمان ذات عهد وصار مديراً لمؤسسة الدعاية والأنباء – التي كانت تشبه وزارة الإعلام في هذه الأيام – وصار له في السلطة الحاكمة مركز ونفوذ ووساطات وشفاعات، لم يتصرف يوماً بأسلوب السلطويين الذين كان يسخر منهم أصلاً، حتى شقيقه الضابط المعروف لم يسلم منه تماماً، وهكذا كانت الأمور تبدو مع علي الجندي أشبه بمفارقات المزاح اللطيف الذي لا يجرح أو باللعبة الطارئة التي لا تدوم طويلاً!
تقاربنا أخيراً كما يجدر بنا أن نتقارب، ونحن الأواخر، ففهمته وفهمني أعمق فأعمق، ولكن بعد فوات الأوان، وها أنذا ونحن متماثلان تقريباً في تاريخ الميلاد، أخالفه على عاداتنا أيام زمان، فأبقى على قيد الحياة وهو يرحل.
ها أنذا أستعيده الآن بكثير من الحنان والحنين، كأنني أعوّض عن عمر مهدور أعرف أنه لا يعوّض..
لكم كنت جميلاً يا عليّ!.. وكم كنا بشعين حين كنا لا نفهمك!..
والآن ما رأيك في هذا المطلع من قصيدة لي في رثائك:
قد كنتُ أوثر أن تكون مكاني
ماذا عساك تقول في فقداني؟
هل كنتُ خصمك أم صديقك عندما
أوجعتني، ثم استعرت بياني؟
فمسحتَ فاستسمحتَ ثم تركتنا
كي نستريح على غصون البانِ
لن يعجبك المطلع بالتأكيد.. لا لشيء إلا لأنه على البحر الكامل.. أي عمودي.. وأنت تكره العموديات.. هل تعرف لماذا تعمدت ذلك يا عليّ؟ لا لشيء إلا لكي أغيظك يا صديقي بعد فوات الأوان!
لاحظت هذه الفرادة فيه مذ كنا زميلين في الجامعة، عندما كنا نتقابل في الحديقة أوفي الممرات، فتتحول الوقفة العابرة إلى محطة استراحة، يأسرني فيها زميلي بأسلوبه الخاص جداً في ارتداء الملابس كما في النقاش أو التعليق على ما كنا نراه من بشر وأشياء، ففي لباسه كان أكثرنا أناقة واحتفاء بالألوان الصارخة، وفي النقاش أقدرنا على حسمه بنكتة ثاقبة، وفي التعليق أمهرنا في اقتناص العيوب أو المحاسن، فتكاد لا تمر بنا طالبة أو طالب إلا دمغهما بماركة مسجلة.
أذكر مما أذكره عن هذه الخصوصية الفريدة فيه أننا كنا معاً ذات مرة في أحد الممرات حين توقفت فجأة على منظر منديل نسائي هفهاف متروك على حافة نافذة فقال لي على الفور: «إذا كنت شاعراً بحق فاصنع من هذا المنديل قصيدة»، ثم أضاف ضاحكاً: «لا تجعلها عمودية.. أرجوك». فمنذ ذلك العهد كان علي الجندي يضيق ذرعاً بالقصائد العمودية، ويسخر من شعرائها، وكنت منهم آنذاك.. وقد نظمتُ بعدها تلك القصيدة المنديلية. وإذا كنت لا أذكر منها شيئاً الآن، فأنا أذكر جيداً أنها لم تكن عمودية – كما أراد علي الجندي تماماً -!
وحين تزوج علي استغربنا جميعاً تبكيره بدخول القفص، وهو المحسوب دوماً على جماعة «الأحرار» أكثر منا جميعاً، ولم يقنعنا بأصالته إلا حين طلّق، وتزوج الثانية، والثالثة أو الأخيرة التي كانت تصغره بربع قرن.
لا أتحدث هنا عن شعره بالطبع، بل عن الشخص المدهش في فرادته وعنفوانه وجاذبيته الملفتة. لقد اختلفنا في كثير من موضوعات السياسة والمجتمع والثقافة، ولكنني لا أذكر مرة أننا تحولنا إلى خصمين. لقد كان علي الجندي قادراً دوماً على إكساب الخصومة الفكرية طابعاً مرحاً أشبه بلعبة «الطاولة»؛ فمرة «دوشيش» ومرة «إيكي بير»، فالمسألة إذن أشبه بالمصادفة أو الحظ السيء أو السعيد، فلماذا نكبّرها ونقلبها عداوة؟!
كان علي الجندي شاعراً بكل ما تعنيه كلمة شاعر، ومع ذلك فلم يكن يعبأ كثيراً بأن يسمى شاعراً. وحين واتاه الزمان ذات عهد وصار مديراً لمؤسسة الدعاية والأنباء – التي كانت تشبه وزارة الإعلام في هذه الأيام – وصار له في السلطة الحاكمة مركز ونفوذ ووساطات وشفاعات، لم يتصرف يوماً بأسلوب السلطويين الذين كان يسخر منهم أصلاً، حتى شقيقه الضابط المعروف لم يسلم منه تماماً، وهكذا كانت الأمور تبدو مع علي الجندي أشبه بمفارقات المزاح اللطيف الذي لا يجرح أو باللعبة الطارئة التي لا تدوم طويلاً!
تقاربنا أخيراً كما يجدر بنا أن نتقارب، ونحن الأواخر، ففهمته وفهمني أعمق فأعمق، ولكن بعد فوات الأوان، وها أنذا ونحن متماثلان تقريباً في تاريخ الميلاد، أخالفه على عاداتنا أيام زمان، فأبقى على قيد الحياة وهو يرحل.
ها أنذا أستعيده الآن بكثير من الحنان والحنين، كأنني أعوّض عن عمر مهدور أعرف أنه لا يعوّض..
لكم كنت جميلاً يا عليّ!.. وكم كنا بشعين حين كنا لا نفهمك!..
والآن ما رأيك في هذا المطلع من قصيدة لي في رثائك:
قد كنتُ أوثر أن تكون مكاني
ماذا عساك تقول في فقداني؟
هل كنتُ خصمك أم صديقك عندما
أوجعتني، ثم استعرت بياني؟
فمسحتَ فاستسمحتَ ثم تركتنا
كي نستريح على غصون البانِ
لن يعجبك المطلع بالتأكيد.. لا لشيء إلا لأنه على البحر الكامل.. أي عمودي.. وأنت تكره العموديات.. هل تعرف لماذا تعمدت ذلك يا عليّ؟ لا لشيء إلا لكي أغيظك يا صديقي بعد فوات الأوان!