المعايير المزدوجة، وما يبدو دعمًا بهدف إنساني، ليست وحدها فقط العناصر المشتركة لهذه الصراعات فحسب؛ بل في كلتا الحالتين، هناك رفض مستمر للاعتراف بأسباب العنف. في حالة إسرائيل، يبدو هذا واضحًا بشكل خاص. على مدار 75 عامًا، طردت إسرائيل وسجنت وعذّبت الفلسطينيين إلى أجل غير مسمى، الذين كان استقلال إسرائيل كارثة لهم. “سنطلق النار على الأبرياء، ونقتلع العيون، ونحطم الوجوه، ونرحل، ونصادر الممتلكات، ونسرق ونسحب الناس من أسرّتهم، وننفذ سياسات التطهير العرقي، ونواصل الحصار غير المسبوق على قطاع غزة. وبالطبع، كل شيء سيكون على ما يرام”.. بهذه الكلمات علق الصحفي الإسرائيلي جدعون ليفي مؤخرًا، في معرض سخريته من السياسة الإسرائيلية، وتخيلها عدم وجود رد فعل عليها.
الحقيقة أن كثيرًا من الإسرائيليين معتادون العيش في جهل متعمد، ويواصلون عيش حياة سلمية عندما يضرم المستوطنون الصهاينة المسلحون النار في القرى الفلسطينية، ويهاجمون مزارعي الزيتون، ويضربون أي شخص، ولو كان يهوديًّا إسرائيليًّا، يجرؤ على الدفاع عن الفلسطينيين. لقد تحولت هذه اللامبالاة والجهل إلى مأساة للمشاركين في مهرجان الموسيقى. نُظِمَّ هذا الحدث على حدود قطاع غزة، حيث يعيش ملايين الفلسطينيين منذ سنوات كثيرة تحت الحصار الوحشي الذي تفرضه إسرائيل. في هذا اليوم، قُتل المئات من المشاركين الذين تجمعوا للمهرجان في هجوم وقع من غزة. وفجأة، وجد الإسرائيليون العاديون أنفسهم في الجحيم الذي أُجبر الفلسطينيون على العيش فيه مدة طويلة.
في ظل الظروف غير الإنسانية التي يعيش فيها الفلسطينيون، ليس من المستغرب أن يتجهوا إلى المقاومة والنضال، وفي كثير من الأحيان بشكل يائس، وهو ما يجعل من كل يهودي في إسرائيل ضحية محتملة. بالإضافة إلى ذلك، فإن الخلط الذي ترعاه إسرائيل بين الصهيونية واليهودية، والإسرائيليين واليهود، يهدد أمن اليهود في جميع أنحاء العالم.
لكي نفهم الصورة فهمًا أعمق، يكفي أن تعرف أنَّ في غزة وحدها، يعيش أكثر من مليوني فلسطيني، معظمهم طردوا في عامي 1948 و1967، من مئات البلدات والقرى التي أعيدت تسميتها، مثل تلك القريبة من غزة، المعروفة اليوم باسم “سديروت”. لقد أسقطت الترسانة العسكرية الإسرائيلية على هؤلاء الناس وأحفادهم اليوم قنابلها وذخيرتها باستمرار. ويقول السياسيون والجنرالات الإسرائيليون إنهم يقاتلون “الحيوانات” و”النازيين”. لقد منعت إسرائيل وصول موارد الغذاء والطاقة، وتقصف البنية التحتية المدنية. أولئك الذين نجوا من القصف قد يموتون من الجوع أو المرض؛ بسبب نقص المياه والكهرباء. وهكذا تتكشف كارثة إنسانية أخرى من صنع الإنسان.
كل هذا كان من الممكن منعه. منذ عام 1948، دعت قرارات لا تعد ولا تحصى للأمم المتحدة إسرائيل إلى السماح للاجئين بالعودة. وفي المجتمع الإسرائيلي، هناك وعي باليأس من القمع العسكري البوليسي للفلسطينيين. ولكن، بدافع من الشعور بالتفوق الاستعماري، يتجاهل القادة الإسرائيليون احتمالات التوصل إلى تسوية سياسية؛ ومن ثم لم تستجب إسرائيل- حتى الآن- لمبادرة السلام الشامل وإنهاء الصراع العربي الإسرائيلي، التي طرحتها جامعة الدول العربية عام 2002.
إسرائيل حليف للولايات المتحدة، وهي مستودع أسلحة للولايات المتحدة، و”حاملة طائرات غير قابلة للغرق” في وسط العالم العربي، مما يسمح للولايات المتحدة بالسيطرة على أجزاء كبيرة من غرب آسيا.
على نحو مماثل، تسعى الولايات المتحدة إلى تطويق روسيا وإضعافها من خلال أوكرانيا، التي تحاول جعلها “إسرائيل أوروبا الشرقية”. ومن هذا المنطلق، يمكن فهم الاهتمام الأمريكي المكثف بأوكرانيا منذ منح يلتسين الجمهورية استقلالها قبل أكثر من ثلاثة عقود، وتقديم الدعم المفتوح للانقلابات التي جلبت إلى السلطة أشخاصًا يهدفون إلى تقويض العلاقات الاقتصادية والثقافية والسياسية التي دامت قرونًا مع روسيا. عندما اقترحت روسيا مناقشة نظام أمني أوروبي جديد في ديسمبر (كانون الأول) 2021، تجاهلت واشنطن مقترحاتها بشكل أساسي، وأدى ذلك إلى صراع عسكري في أوكرانيا.
رغم كل ذلك، هناك طريق للسلام، وبوابته الاعتراف بشرعية مصالح الطرف الآخر. لتحقيق هذه الغاية، يتعين على إسرائيل والغرب الجماعي أن ينحيا جانبًا غطرستهما، وقناعتهما باستثنائيتهما.
السؤال هنا: هل ستبدأ إسرائيل برؤية النور، وبعد أن قبلت المسؤولية عن طرد الفلسطينيين، ستعترف بهم كشعب متساوٍ، وتبدأ معهم بالبحث عن تسوية معقولة في إطار دولة أو دولتين، أو باستخدام تفوقها الساحق ستواصل عملياتها العسكرية “حتى النهاية المريرة”؟ وهل سيُطرَد الفلسطينيون الباقون على قيد الحياة إلى مكان بعيد عن حدود أرضهم، وهو الأمر الذي لطالما حلم به المتطرفون من متبني العقيدة الصهيونية؟