حالة فردية. هذا ما حاولت تلك الأقلام والأصوات قوله، مع إرفاق هذا التهوين من الأمر بعبارات تشير إلى عدم الرغبة في فتح ملفات جرائم العمالة الإندونيسية على الأرض السعودية. وأشارت هذه الأقلام إلى «العهر، والشعوذة، والسحر»، بما هي نمط لشخصية الخادمة الإندونيسية. وشدّدت على «الأيادي البيضاء» التي تعضها الخادمات، والكرم الذي يصل إلى حد عدم معايرة الإندونيسيين بإجرامهم، فيما يضخّمون هم حادثة فردية. طبعاً لا يخلو هذا الخطاب من حديث عن استهداف السعودي من «حاسديه على النعمة».
من الضروري تذكير هؤلاء بوقائع يعمدون إلى تجاهلها. الحادثة ليست فردية ولا معزولة، بل هي ترجمة لنمط من التعاطي مع العمالة الأجنبية على يد شريحة واسعة من السعوديين قائم على احتقار العامل الأجنبي وإهانته بل استعباده. هذا يجعل الاعتداء الجسدي نتيجة طبيعية لنمط التفكير الفوقي وغير الإنساني.
لا يجوز التعميم بالطبع، لكن لا يجوز تجاهل ظاهرة منتشرة ودفن الرؤوس في الرمال. ولا يجوز أيضاً إغفال وقائع من قبيل أنّ الخادمة الآسيوية في كثير من البيوت السعودية تعمل ليل نهار من دون إجازة أسبوعية أو سنوية، وأنّها تعامل في بعض الأحيان بطريقة غير إنسانية. كما هي في نظر البعض ملك يمين وجارية، وللذكور المراهقين من الصغار والكبار الحق في التحرش بها ومعاشرتها ثم إلقاء اللوم عليها.
قدّمت تلك الأصوات خطاباً يختلط فيه ادعاء المثالية وتنزيه النفس عن الأخطاء بالعنصرية الفوقية. عنصرية ترى العمال الأجانب أدنى مرتبةً من البشر، إلى درجة استنكار الاحتجاج على معاناتهم ورفض الاعتراف بها ترجمة لرفض آدميتهم، وهو ما يعكس تجلّي العنصرية في الثقافة والسلوك.
أسس لهذه العنصرية نظام الكفيل أولاً، وهو نظام العبودية الأبرز في في القرن الحادي والعشرين. غابت الشركات والمؤسسات الراعية للعمالة الأجنبية وصار مصير العامل بيد الكفيل الذي يظهر وفق النظام كأنه إله مسيطر. وفُتح ذلك الباب أمام تجارة الفيزا التي تماثل تجارة الرقيق، فأعطى هذا النظام الإحساس للبعض بالتفوق والسيطرة والحق لهم في الانتقاص من آدمية العامل.
ومع نظام الكفيل، تساهم العوامل الثقافية في تحقيق هذه الشوفينية. فقد تكوّنت عقدة التفوّق المزعومة لدى العديد من السعوديين على أساس العصبية القبلية الجاهلية. وجاءت الطفرة المالية في منتصف السبعينيات لتُعزز مفهوم التفوق «العِرْقِي» على أساس مادي يرى البشر سلعة قابلة للبيع والشراء، وتُساهم في احتقار مهن معينة وازدراء العاملين فيها (يندر وجود سعوديين يعملون خبّازين أو عمّال بناء أو عمّال نظافة). وصار من حق السعودي أن «يرفع رأسه» بوضع رؤوس الآخرين تحت قدمه.
كذلك ساهمت الثقافة الدينية السائدة في تعزيز عقدة التفوّق هذه، فبدلاً من أن يكون الدين محارباً للعنصرية والاستعلاء على البشر صار جزءاً من الخطاب العنصري الفوقي. يقوم الدين السائد في السعودية على نظرة فوقية ترى في الآخرين (المسلمين وغير المسلمين) مجموعة من ناقصي الإيمان في أحسن الأحوال، وفي العقيدة الوهابية سرّ التفوق على باقي البشر بما يجعل المؤمنين بها أقرب إلى الله وأخلص في توحيده من غيرهم. ساهم هذا الواقع في إيجاد رافد مهمّ لعنصرية بغيضة.
تجلّت الثقافة العنصرية هذه حتى بين السعوديين، مؤسِّسَةً لعداء ذي أبعاد قبلية ومناطقية وطائفية. وفي المحصّلة، أنتجت هذه الثقافة خطاباً يزدري الآخر ويتوجس منه ويبرر الاعتداء عليه. مثلاً، مثّل فيلم «أوباما... أطلق حميدان»، الذي شاركت فيه شخصيات مثلت طيفاً واسعاً من المجتمع السعودي وطالب عبر محاولة استعطاف ساذجة للعقلية الأميركية بإطلاق السجين حميدان التركي (المدان من المحكمة العليا الأميركية باغتصاب خادمته الإندونيسية) نموذجاً للتَّطَهُّر الممتزج باللامبالاة حيال مأساة الآخرين. ركز الفيلم على معاناة السجين وعائلته من دون أن يذكر شيئاً عن الخادمة الإندونيسية أو يناقش فعلياً صحة الاتهام الموجه للرجل.
إنّ فيلماً يحاول أن يُظهر معاناةً إنسانيةً للسعودي على حساب إنسانية الآخرين لا يمكن أن يلامس مشاعر المتلقي ولا أن ينجح في تحقيق غايته. وأي فيلم مضحك جديد عن حسن معاملة السعوديين للخادمات لن يحل المشكلة بل سيزيدها تعقيداً.
يبدأ الحل بمواجهة هذه الظاهرة العنصرية والاعتراف بوجودها ومحاربة أسبابها. أما ادعاء البراءة وعدّ الجريمة سلوك أقلية غير ذي أهمية وإلقاء اللوم على الآخرين، فيدفع باتجاه المزيد من الممارسات والسلوكيات العنصرية وتالياً المزيد من المشاكل التي ستظهر على السطح تباعاً.
كما أن إلغاء نظام الكفيل وسن قوانين تحترم العمّال وتحفظ كرامتهم وحقوقهم، خطوة مهمة في محاربة الثقافة العنصرية. ويقع على هيئتي حقوق الإنسان في السعودية (الأهلية والحكومية) دور التصدي للمطالبة الفاعلة والجادة بإلغاء نظام الرق المعاصر هذا ومعالجة أضراره الإنسانية والاقتصادية والاجتماعية.
الإعلام الذي يطلق على البلاد لقب «مملكة الإنسانية» يعكس، بحملته على العمالة الإندونيسية واتهاماته للإندونيسيين بالجشع والطمع بزيادة رواتب الخادمات، غياب الحس الإنساني وحتى الوطني. إنسانية البلد يترجمها شعور كلّ إنسان فيه بكرامته وحصوله على حقوقه، وإلا فلا إنسانية ولا من يُؤَنْسِنُون.
* كاتب سعودي
من الضروري تذكير هؤلاء بوقائع يعمدون إلى تجاهلها. الحادثة ليست فردية ولا معزولة، بل هي ترجمة لنمط من التعاطي مع العمالة الأجنبية على يد شريحة واسعة من السعوديين قائم على احتقار العامل الأجنبي وإهانته بل استعباده. هذا يجعل الاعتداء الجسدي نتيجة طبيعية لنمط التفكير الفوقي وغير الإنساني.
لا يجوز التعميم بالطبع، لكن لا يجوز تجاهل ظاهرة منتشرة ودفن الرؤوس في الرمال. ولا يجوز أيضاً إغفال وقائع من قبيل أنّ الخادمة الآسيوية في كثير من البيوت السعودية تعمل ليل نهار من دون إجازة أسبوعية أو سنوية، وأنّها تعامل في بعض الأحيان بطريقة غير إنسانية. كما هي في نظر البعض ملك يمين وجارية، وللذكور المراهقين من الصغار والكبار الحق في التحرش بها ومعاشرتها ثم إلقاء اللوم عليها.
قدّمت تلك الأصوات خطاباً يختلط فيه ادعاء المثالية وتنزيه النفس عن الأخطاء بالعنصرية الفوقية. عنصرية ترى العمال الأجانب أدنى مرتبةً من البشر، إلى درجة استنكار الاحتجاج على معاناتهم ورفض الاعتراف بها ترجمة لرفض آدميتهم، وهو ما يعكس تجلّي العنصرية في الثقافة والسلوك.
أسس لهذه العنصرية نظام الكفيل أولاً، وهو نظام العبودية الأبرز في في القرن الحادي والعشرين. غابت الشركات والمؤسسات الراعية للعمالة الأجنبية وصار مصير العامل بيد الكفيل الذي يظهر وفق النظام كأنه إله مسيطر. وفُتح ذلك الباب أمام تجارة الفيزا التي تماثل تجارة الرقيق، فأعطى هذا النظام الإحساس للبعض بالتفوق والسيطرة والحق لهم في الانتقاص من آدمية العامل.
ومع نظام الكفيل، تساهم العوامل الثقافية في تحقيق هذه الشوفينية. فقد تكوّنت عقدة التفوّق المزعومة لدى العديد من السعوديين على أساس العصبية القبلية الجاهلية. وجاءت الطفرة المالية في منتصف السبعينيات لتُعزز مفهوم التفوق «العِرْقِي» على أساس مادي يرى البشر سلعة قابلة للبيع والشراء، وتُساهم في احتقار مهن معينة وازدراء العاملين فيها (يندر وجود سعوديين يعملون خبّازين أو عمّال بناء أو عمّال نظافة). وصار من حق السعودي أن «يرفع رأسه» بوضع رؤوس الآخرين تحت قدمه.
كذلك ساهمت الثقافة الدينية السائدة في تعزيز عقدة التفوّق هذه، فبدلاً من أن يكون الدين محارباً للعنصرية والاستعلاء على البشر صار جزءاً من الخطاب العنصري الفوقي. يقوم الدين السائد في السعودية على نظرة فوقية ترى في الآخرين (المسلمين وغير المسلمين) مجموعة من ناقصي الإيمان في أحسن الأحوال، وفي العقيدة الوهابية سرّ التفوق على باقي البشر بما يجعل المؤمنين بها أقرب إلى الله وأخلص في توحيده من غيرهم. ساهم هذا الواقع في إيجاد رافد مهمّ لعنصرية بغيضة.
تجلّت الثقافة العنصرية هذه حتى بين السعوديين، مؤسِّسَةً لعداء ذي أبعاد قبلية ومناطقية وطائفية. وفي المحصّلة، أنتجت هذه الثقافة خطاباً يزدري الآخر ويتوجس منه ويبرر الاعتداء عليه. مثلاً، مثّل فيلم «أوباما... أطلق حميدان»، الذي شاركت فيه شخصيات مثلت طيفاً واسعاً من المجتمع السعودي وطالب عبر محاولة استعطاف ساذجة للعقلية الأميركية بإطلاق السجين حميدان التركي (المدان من المحكمة العليا الأميركية باغتصاب خادمته الإندونيسية) نموذجاً للتَّطَهُّر الممتزج باللامبالاة حيال مأساة الآخرين. ركز الفيلم على معاناة السجين وعائلته من دون أن يذكر شيئاً عن الخادمة الإندونيسية أو يناقش فعلياً صحة الاتهام الموجه للرجل.
إنّ فيلماً يحاول أن يُظهر معاناةً إنسانيةً للسعودي على حساب إنسانية الآخرين لا يمكن أن يلامس مشاعر المتلقي ولا أن ينجح في تحقيق غايته. وأي فيلم مضحك جديد عن حسن معاملة السعوديين للخادمات لن يحل المشكلة بل سيزيدها تعقيداً.
يبدأ الحل بمواجهة هذه الظاهرة العنصرية والاعتراف بوجودها ومحاربة أسبابها. أما ادعاء البراءة وعدّ الجريمة سلوك أقلية غير ذي أهمية وإلقاء اللوم على الآخرين، فيدفع باتجاه المزيد من الممارسات والسلوكيات العنصرية وتالياً المزيد من المشاكل التي ستظهر على السطح تباعاً.
كما أن إلغاء نظام الكفيل وسن قوانين تحترم العمّال وتحفظ كرامتهم وحقوقهم، خطوة مهمة في محاربة الثقافة العنصرية. ويقع على هيئتي حقوق الإنسان في السعودية (الأهلية والحكومية) دور التصدي للمطالبة الفاعلة والجادة بإلغاء نظام الرق المعاصر هذا ومعالجة أضراره الإنسانية والاقتصادية والاجتماعية.
الإعلام الذي يطلق على البلاد لقب «مملكة الإنسانية» يعكس، بحملته على العمالة الإندونيسية واتهاماته للإندونيسيين بالجشع والطمع بزيادة رواتب الخادمات، غياب الحس الإنساني وحتى الوطني. إنسانية البلد يترجمها شعور كلّ إنسان فيه بكرامته وحصوله على حقوقه، وإلا فلا إنسانية ولا من يُؤَنْسِنُون.
* كاتب سعودي