لكن، في منتصف ولاية دونالد ترامب، أطلقت الولايات المتحدة سلسلة تدابير حمائية وعقوبات اتخذت طابعاً تراكمياً ضد الصين، بهدف إيقاف ما اعتبرته أميركا اختراقاً صينياً خطيراً لأنظمتها المعلوماتية والأمنية والعلمية، وكذلك لبنية الاقتصاد الأميركي. وعلى عكس الأوهام التبسيطية التي روجت لنظرية تبدل الاستراتيجيات الأميركية مع تبدل الرؤساء وأحزابهم، فقد نفذ الرئيس جو بايدن عملياً ضد الصين ما كان يصرح به ترامب قولاً. بل مضى بايدن بالأفعال لا بالأقوال أبعد بأشواط كبيرة جداً مما يحلم به أكثر المتشددين ضد الصين في الحزب الجمهوري.
فعل بايدن ذلك في عملية متصاعدة للقطيعة مع الصين، على صعيد وحدة السوق، وباستخدام سلسلة معقدة من التدابير الحمائية ضد منتجاتها خصوصاً في مجال التقنيات العالمية بدءاً من الـ5G إلى سحب كتلة متكاملة من الصناعات الأميركية المتقدمة من الصين وسحب الكثير من رؤوس الأموال. إضافة إلى سحب تصدير الشرائح المتقدمة إلى الصين وسحب مصانعها من تايوان.
ثم دخلت الولايات المتحدة في مواجهة مباشرة لمنع الصين من الاستفراد بالهيمنة العسكرية على بحر الصين وما تبع ذلك من تشكيل منظومات تحالف باسيفيكية متعددة ومعقدة، من الهند وصولاً إلى اليابان. بل خيرت الإدارة، الأميركيين العاملين في مؤسسات المعلومات الصينية بين البقاء في الصين وخسارة جنسيتهم الأميركية أو مغادرة الصين.
كانت تلك نذر قوية لا تخطئها العين، لنهاية منظومة العولمة الواحدة التي أسستها الولايات المتحدة عام 1945 في برايتون وودز.
ثم جاء الإعلان عن الصداقة التي لا حدود لها بين روسيا والصين عشية الغزو الروسي لأوكرانيا، وتلا الحرب استجابة 53 من الدول الغربية "استراتيجياً" ضد الغزو بإطلاق سلة متكاملة من العقوبات تخرج روسيا من السوق العالمية. بل ودعمت ذلك جملة من التدابير الأوروبية الحمائية وتقطيع الأسواق ضد الصين وروسيا على مختلف الأصعدة. وإذ استمر البعض في تحليلاتهم في أن هذه العوارض ليست سوى سحابات صيف لا تلبث أن تنقشع، دلت كل المؤشرات على أن منظومة عولمة واحدة لم تعد فعالة، ولا تحكم حركة الأسواق، ولا الجيوش، بل أصبح لدينا منظومتان للتجارة تتبلور حولهما وتحميهما تدريجياً، تحالفات استراتيجية عسكرية متقابلة.
كان هذا حال العالم طوال التاريخ البشري وحتى الحرب العالمية الثانية، فإن احتجت للمطاط أو القطن أو الشاي تبني أساطيل وتخوض حروباً لتحمي تجارتك وتفرض هيمنتك لضمان استقرار سلاسل الانتاج والتجارة.
شكل البيان المشترك الصيني - السعودي - الإيراني نقلة تاريخية في العلاقات الدولية والإقليمية المحيطة بالشرق الأوسط. بل نقلة نوعية في محاولة الصين لبناء منظومتها البديلة. وحجتي في ذلك، أنه بعد أن جابهت المملكة العربية السعودية مختلف التعديات والتهديدات الإيرانية في المحيط الاستراتيجي الحيوي للمملكة، بل وباتجاهها بالذات، بالكثير من الصبر والحكمة، وبعد أن استمرت المملكة في مد يد أخوة الجيرة والإسلام لإيران، وبعد أن غرقت الولايات المتحدة في سياسات من التجاهل وإدارة الضهر لحلفائها الخليجيين، تدخل الصين لتملأ الفراغ كوسيط في الخليج.
لكن خبرة خمسة آلاف عام من السياسة الصينية تقول إن ليس ثمة وسيط من دون نفوذ، ولا يمكن أن يستند النفوذ على الاقتصاد وحده. إذ لا يمكن تصور نجاح هذا الاختراق الصيني في المستقبل، من دون أن تكون الصين وسيط قوة بمعنى وسيط استراتيجي ذي نفوذ حاكم في الإقليم.
لم تكن الخطوة مفاجئة من حيث شكلها، فقد تجلت بوادرها بوضوح معلن، في القمة الصينية - الخليجية الأخيرة. لكن المفاجئ هو مستوى التبني والتمركز الصيني على الاتفاق. فقد تم احتضان الاتفاق على أعلى المستويات، ليبدو التزاماً صينياً استراتيجياً في الإقليم بقدر ما هو التزام للطرفين.
شكل الإعلان إنجازاً هاماً للدبلوماسية السعودية في ترجيح منطق الحوار والتفاوض على منطق المجابهة والصراع الذي طالما حرصت عليه مقابل تعنت إيران وإمعانها في زعزعة الاستقرار في الخليج وفي الإقليم.
ولا شك في أن الاتفاق سيضع لبنة على طريق حلحلة بعض أزمات المنطقة، وتبريد عدد من ساحاتها، لكننا لا يمكن أن ننظر لهذا الاتفاق إلا على أنه تجربة وفرصة أخرى لإيران.
فقد ركز البيان المشترك مرات عدة في فقراته على قضية عدم التدخل في الشؤون الداخلية للدول، واحترام سيادتها كأساس للعلاقات الدولية. وفي حين تروج بعض الصحف الصفراء عن صفقة لتقاسم النفوذ، نستطيع أن نؤكد أن هذا أمر غير صحيح أبداً، بل وغير ممكن أصلاً. فالمملكة تدرك تماماً مصالحها، وحيزها الإستراتيجي، وأبعادها الإقليمية، والعربية، والإسلامية.
لكن، بالنسبة لإيران، يشكل الاتفاق اختباراً تاريخياً. فهل قررت إيران أن تبدأ بالتحول إلى دولة طبيعية، وأن تكف عن محاولة تصدير الثورة؟ وتقطع علاقاتها بأذرعها الطائفية؟ وأن تكف عن تفكيك الدولة الوطنية لتدعيم نفوذ وكلائها في الإقليم؟ وأن تلتفت لرفاه وتنمية شعبها ومواطنيها لتشكل قيمة مضافة للتنمية في الإقليم؟
والاتفاق في الوقت ذاته تجربة هامة للصين. ذلك أنه يشكل الخروج الاستراتيجي المنفرد الأول للصين من حيزها الإقليمي في شرق آسيا نحو منطقة الخليج العربي والشرق الأوسط. ولا شك في أنها تأخذه بجدية كبيرة. وهي ما كانت لتدخل في وساطة من هذا المستوى وفي هذا الإقليم بوزنها وسمعة قيادتها، من دون أن تضمن أن تكون لها دالة اقتصادية ومالية واستراتيجية عسكرية في الإقليم.
وإذ تعرض الصين قدرتها في تعويض جزء كبير من أضرار العقوبات الغربية لإيران، بأشكال مختلفة من صفقات التبادل بالمقايضة وباليوان، فإن المملكة العربية السعودية تعزز علاقتها بالصين كشريك اقتصادي استراتيجي في مجال النفط والطاقة والمشاريع الاقتصادية، بل شرعت بدورها في الابتعاد من منظومة الدولار حيث أنها تبيع أصلاً، قسماً من المشتقات النفطية المنتجة في السوق الصينية بعيداً من الدولار، وليشكل هذا الاتفاق، إعلان انتقال الصين ومنطقة الخليج عملياً لسوق خاصة خارج المنظومة الغربية. إذاً الكثير من الأمور يتعلق بعزم الصين على صيانة هذه المنظومة الاقتصادية الجديدة التي تتبلور كبديل ومنافس ومخاصم للمنظومة الغربية.
--------
النهار العربي
--------
النهار العربي