لماذا ينجح فيلم خيال علمي إلى هذا الحد؟ ما الذي يجد فيه المشاهدون بحيث بلغت إيراداته 1،6 مليار دولار حتى تاريخ 23 يناير (كانون الثاني) الحالي؟ وهو بذلك سوف يسبق فيلم «تايتانيك»، الذي حصل على أعلى نسبة إيرادات في التاريخ مع 1،8 مليار دولار؛ والفيلمان للمخرج نفسه، جايمس كاميرون، الذي أخرج بعض أنجح أفلام الخيال العلمي من «آلْينْ» الى «ترميناتور».
وقصة الفيلم تبدأ باختيار جاك سولي، الجندي القديم المصاب بالشلل إثر حرب على الأرض -في إشارة إلى الإعاقات الناتجة عن الحروب- لكي يشارك في برنامج أفاتار، الذي سيسمح له بالمشي مجدداً. يذهب جاك الى باندورا، قمر خارج الأرض مغطى بالأدغال باذخة الخضرة، والمأهول بمخلوقات مدهشة، بعضها فائق الجمال وبعضها الآخر مرعب. باندورا هي أيضاً موطن النافي، عرق قريب من الإنسان الذي يعتبرهم بدائيين -كما هي العادة لكل مختلف- يبلغ طولهم 3 أمتار، ولهم ذنَب، وجلدهم أزرق لامع. يعيش النافي في تكافل وانسجام تامين مع البيئة المحيطة.
وعند محاولة البشر تدمير عالمهم للحصول على معادن ثمينة، يهيّج النافي كل القوى المتوافرة في دفاع مستميت عن عالمهم. جُنّد جاك لكي يشارك في عملية التدمير هذه. وبما أن البشر لا يستطيعون تنفّس الغاز السام الموجود على بندورا، يتم التخليق الجيني لأجساد هجينة لها مظهر النافي سميت أفاتار. وهؤلاء هم أجساد حية تتنفس، ويمكن التحكم فيها من قبل إنسان، بواسطة تقنية تصل دماغ هذا البشري مع جسد الأفاتار، بما يذكّر بالتقمص، أي انتقال الروح الى جسد بيولوجي مختلف. يرسل جاك في مهمة استطلاع بواسطة جسم الأفاتار الى باندورا، يعلق ويقابل «نَيِيتري» التي تتعادل فتنتها وقوتها. ويستطيع أن يتغلغل في القبيلة، ويقع عندها في عملية تجاذب ما بين القوى الصناعية العسكرية البشرية التي استخدمته، وما بين النافي المسالمين، ويكون عليه الاختيار ما بين أحد المعسكرين.
إنها قصة تقليدية عن الخير والشر حول غزو بعض المجموعات الصناعية المتنفذة والمتعددة الجنسيات التي تريد استغلال مناجم مادة نادرة وثمينة جدا، تدعى إينوبتينيوم، موجودة على باندورا، ويمكن لهذه المادة أن تحل أزمة الطاقة على الأرض. وهذه المناجم موجودة في المنطقة التي يعيش فيها شعب النافي حول شجرة أم عملاقة. الابتكار المبدع هو أحد ركائز الفيلم الأساسية الذي تعدّ تكلفته الأغلى في العالم حتى الآن؛ فلقد اعتكف كاميرون 10 سنوات للعمل عليه علمياً وتقنياً، ما استحق الثناء، خاصة للمناظر الخلابة والمذهلة التي تقطع الأنفاس لجمالها وتناسقها، وهي خليط من الغابة والدغل والجبال الصخرية المعلّقة والنباتات الباذخة وغيرها الفوسفورية التي تذكّر بكنوز البحر الجمالية.
كذلك الحيوانات المحلية في باندورا مدهشة، فهي تخلط ما بين التنين مع أنواع من الطيور، وما بين الديناصورات والأسماك البحرية، فضلا عن القناديل المنمنمة (الميدوزا)، وهي نوع من الحيوانات البحرية الهلامية المضيئة في الليل، الى جانب الحباحب الطائرة، وهي تعبّر في الفيلم عن منتهى النقاء.
إضافة الى تطوير مهم للأفكار حول تمجيد الطبيعة والبيئة، وفكرة علاقة الانسجام التام والتواصل بين سائر مكونات المنظومة الحية، بجميع أنواعها من بشر وحيوانات ونباتات.. وهي إحدى تيمات الفيلم المبتكرة، حيث يتم التواصل عبر قنوات استشعار، وبواسطة ذبذبات كهرومغناطيسية بين سائر الكائنات التي عندما تتفاهم تقبل بالتعاون المتبادل فيما بينها، بما يحفظ التوازن والانسجام بشكل متواصل.
تلعب إذن التجربة الجمالية المدهشة والمؤثرات التقنية المبهرة للحكاية/ الأسطورة الإيكولوجية المسالمة والروحانية التي تقوم بنقد عنيف ومبهج لعالمنا على الأرض عموماً، وببعض التوجه نحو المجتمع الأميركي خصوصا، دورا في تفسير النجاح الهائل الذي يحصده هذا الفيلم. دون ان ننسى بالطبع دور استخدام تقنية D3 او البعد الثالث في إضفاء المزيد من المتعة.
وبهذا يكون أفاتار جايمس كاميرون إضافة لكونه رحلة مغامرة، هو حركة لاكتشاف الذات في سياق بيولوجي متنوع وإمبريالي، الإمبريالية هنا بالمعنى الذي طالما عملت بموجبه في سياق التاريخ الإنساني، أي عندما يميل الشعب الذي يملك قوة عسكرية وتكنولوجية أكبر الى استتباع، او تدمير الشعوب الأكثر ضعفا، من أجل السيطرة على مواردها عامة. ما يذكّر بحروب البترول، ويحمل ضمناً نقدا لاذعاً للبوشية، وللحرب على العراق لاستغلال بتروله.
ونجد أن النقد في الفيلم مباشر نوعا ما. فالمخرج أراد إيصال رسالته بأكبر وضوح ممكن، وجعل المجموعة الكريهة التي تقود عملية استغلال الكوكب تقول بوضوح «إن حياة النافي لا تهمنا، إذ على الشركة أن توزع قسائم أرباح الأسهم في نهاية العام».
وعلى الرغم من مشاهد المعارك الصاخبة، يظل فيلم كاميرون فيلما عن السلم.. يفضح عدوانية البشر وطمعهم.. ويفضح بخاصة الكليشيه المستخدمة في تبرير الحرب على الإرهاب، فكل عمل عسكري، ومهما كان سببه، يصبح «مقاومة الإرهاب بالإرهاب». في وقت لم يمارس فيه النافي أي عنف إلا في نهاية المطاف، وكدفاع مشروع عن النفس تجاه الهجوم المدمر الذي قامت به آلات في منتهى الضخامة والتجهيز.
البطل المعاق بسبب الحرب، والذي يعاني من شلل نصفي يضفي أيضاً لمسة خاصة على الفيلم. إنها باختصار خلطة دقيقة فيها مقادير مناسبة من مكونات عدة تلبي حاجة البشر إلى الحفاظ على بيئتهم في وقت تعاني الكرة من ازدياد المخاطر من ثقب الأوزون الى ظاهرة الدفيئة والزلزال المدمر والأزمة الاقتصادية العالمية وحوادث الطيران والطوفان.. ما يذكّي حاجة البشر الى السلم والأمان والبساطة التي يعبّر عنها جاك في قوله إن النافي ليسوا بحاجة إلى أي من سلعنا الأرضية -بيرة أو جينز- لكي يتبادلوا بها معنا أرضهم.
هناك إذن حاجة بديهية الى العدالة، وبعض التواضع، وإلى الحس السليم، أو الحس العام المعافى، وعدم الانغرار بالعلم وبقدرته وتقنياته الفائقة عندما يكون أداة ظلم في مواجهة الحق الذي ينتصر بأدواته البسيطة التي تعتمد على تعاون وتنسيق جميع عناصر الكوكب، من أجل الدفاع الذاتي عنه.
إذن، في أوقات الأزمات يظل الخيال والحلم اللذان يسمحان للبشر بالهروب من واقعهم وتخطيه الى عالم من الجمال والانسجام، وفي العودة الى فكرة «العيش غضّ والزمان غلام»، وفق أبي تمام.
----------------
كاتبة من لبنان
وقصة الفيلم تبدأ باختيار جاك سولي، الجندي القديم المصاب بالشلل إثر حرب على الأرض -في إشارة إلى الإعاقات الناتجة عن الحروب- لكي يشارك في برنامج أفاتار، الذي سيسمح له بالمشي مجدداً. يذهب جاك الى باندورا، قمر خارج الأرض مغطى بالأدغال باذخة الخضرة، والمأهول بمخلوقات مدهشة، بعضها فائق الجمال وبعضها الآخر مرعب. باندورا هي أيضاً موطن النافي، عرق قريب من الإنسان الذي يعتبرهم بدائيين -كما هي العادة لكل مختلف- يبلغ طولهم 3 أمتار، ولهم ذنَب، وجلدهم أزرق لامع. يعيش النافي في تكافل وانسجام تامين مع البيئة المحيطة.
وعند محاولة البشر تدمير عالمهم للحصول على معادن ثمينة، يهيّج النافي كل القوى المتوافرة في دفاع مستميت عن عالمهم. جُنّد جاك لكي يشارك في عملية التدمير هذه. وبما أن البشر لا يستطيعون تنفّس الغاز السام الموجود على بندورا، يتم التخليق الجيني لأجساد هجينة لها مظهر النافي سميت أفاتار. وهؤلاء هم أجساد حية تتنفس، ويمكن التحكم فيها من قبل إنسان، بواسطة تقنية تصل دماغ هذا البشري مع جسد الأفاتار، بما يذكّر بالتقمص، أي انتقال الروح الى جسد بيولوجي مختلف. يرسل جاك في مهمة استطلاع بواسطة جسم الأفاتار الى باندورا، يعلق ويقابل «نَيِيتري» التي تتعادل فتنتها وقوتها. ويستطيع أن يتغلغل في القبيلة، ويقع عندها في عملية تجاذب ما بين القوى الصناعية العسكرية البشرية التي استخدمته، وما بين النافي المسالمين، ويكون عليه الاختيار ما بين أحد المعسكرين.
إنها قصة تقليدية عن الخير والشر حول غزو بعض المجموعات الصناعية المتنفذة والمتعددة الجنسيات التي تريد استغلال مناجم مادة نادرة وثمينة جدا، تدعى إينوبتينيوم، موجودة على باندورا، ويمكن لهذه المادة أن تحل أزمة الطاقة على الأرض. وهذه المناجم موجودة في المنطقة التي يعيش فيها شعب النافي حول شجرة أم عملاقة. الابتكار المبدع هو أحد ركائز الفيلم الأساسية الذي تعدّ تكلفته الأغلى في العالم حتى الآن؛ فلقد اعتكف كاميرون 10 سنوات للعمل عليه علمياً وتقنياً، ما استحق الثناء، خاصة للمناظر الخلابة والمذهلة التي تقطع الأنفاس لجمالها وتناسقها، وهي خليط من الغابة والدغل والجبال الصخرية المعلّقة والنباتات الباذخة وغيرها الفوسفورية التي تذكّر بكنوز البحر الجمالية.
كذلك الحيوانات المحلية في باندورا مدهشة، فهي تخلط ما بين التنين مع أنواع من الطيور، وما بين الديناصورات والأسماك البحرية، فضلا عن القناديل المنمنمة (الميدوزا)، وهي نوع من الحيوانات البحرية الهلامية المضيئة في الليل، الى جانب الحباحب الطائرة، وهي تعبّر في الفيلم عن منتهى النقاء.
إضافة الى تطوير مهم للأفكار حول تمجيد الطبيعة والبيئة، وفكرة علاقة الانسجام التام والتواصل بين سائر مكونات المنظومة الحية، بجميع أنواعها من بشر وحيوانات ونباتات.. وهي إحدى تيمات الفيلم المبتكرة، حيث يتم التواصل عبر قنوات استشعار، وبواسطة ذبذبات كهرومغناطيسية بين سائر الكائنات التي عندما تتفاهم تقبل بالتعاون المتبادل فيما بينها، بما يحفظ التوازن والانسجام بشكل متواصل.
تلعب إذن التجربة الجمالية المدهشة والمؤثرات التقنية المبهرة للحكاية/ الأسطورة الإيكولوجية المسالمة والروحانية التي تقوم بنقد عنيف ومبهج لعالمنا على الأرض عموماً، وببعض التوجه نحو المجتمع الأميركي خصوصا، دورا في تفسير النجاح الهائل الذي يحصده هذا الفيلم. دون ان ننسى بالطبع دور استخدام تقنية D3 او البعد الثالث في إضفاء المزيد من المتعة.
وبهذا يكون أفاتار جايمس كاميرون إضافة لكونه رحلة مغامرة، هو حركة لاكتشاف الذات في سياق بيولوجي متنوع وإمبريالي، الإمبريالية هنا بالمعنى الذي طالما عملت بموجبه في سياق التاريخ الإنساني، أي عندما يميل الشعب الذي يملك قوة عسكرية وتكنولوجية أكبر الى استتباع، او تدمير الشعوب الأكثر ضعفا، من أجل السيطرة على مواردها عامة. ما يذكّر بحروب البترول، ويحمل ضمناً نقدا لاذعاً للبوشية، وللحرب على العراق لاستغلال بتروله.
ونجد أن النقد في الفيلم مباشر نوعا ما. فالمخرج أراد إيصال رسالته بأكبر وضوح ممكن، وجعل المجموعة الكريهة التي تقود عملية استغلال الكوكب تقول بوضوح «إن حياة النافي لا تهمنا، إذ على الشركة أن توزع قسائم أرباح الأسهم في نهاية العام».
وعلى الرغم من مشاهد المعارك الصاخبة، يظل فيلم كاميرون فيلما عن السلم.. يفضح عدوانية البشر وطمعهم.. ويفضح بخاصة الكليشيه المستخدمة في تبرير الحرب على الإرهاب، فكل عمل عسكري، ومهما كان سببه، يصبح «مقاومة الإرهاب بالإرهاب». في وقت لم يمارس فيه النافي أي عنف إلا في نهاية المطاف، وكدفاع مشروع عن النفس تجاه الهجوم المدمر الذي قامت به آلات في منتهى الضخامة والتجهيز.
البطل المعاق بسبب الحرب، والذي يعاني من شلل نصفي يضفي أيضاً لمسة خاصة على الفيلم. إنها باختصار خلطة دقيقة فيها مقادير مناسبة من مكونات عدة تلبي حاجة البشر إلى الحفاظ على بيئتهم في وقت تعاني الكرة من ازدياد المخاطر من ثقب الأوزون الى ظاهرة الدفيئة والزلزال المدمر والأزمة الاقتصادية العالمية وحوادث الطيران والطوفان.. ما يذكّي حاجة البشر الى السلم والأمان والبساطة التي يعبّر عنها جاك في قوله إن النافي ليسوا بحاجة إلى أي من سلعنا الأرضية -بيرة أو جينز- لكي يتبادلوا بها معنا أرضهم.
هناك إذن حاجة بديهية الى العدالة، وبعض التواضع، وإلى الحس السليم، أو الحس العام المعافى، وعدم الانغرار بالعلم وبقدرته وتقنياته الفائقة عندما يكون أداة ظلم في مواجهة الحق الذي ينتصر بأدواته البسيطة التي تعتمد على تعاون وتنسيق جميع عناصر الكوكب، من أجل الدفاع الذاتي عنه.
إذن، في أوقات الأزمات يظل الخيال والحلم اللذان يسمحان للبشر بالهروب من واقعهم وتخطيه الى عالم من الجمال والانسجام، وفي العودة الى فكرة «العيش غضّ والزمان غلام»، وفق أبي تمام.
----------------
كاتبة من لبنان