على بعد ميلين من الساحل السوري، وفي الطريق الممتدة بحرا شمالي طرابلس، تقع جزيرة تتراءى بيوتها البيضاء الناصعة، كما لو كانت تبرز من غمرة مياه البحر الأبيض المتوسط الزرقاء. وفي الجهة الشمالية من هذه الجزيرة، يمتد صف طويل من الزوارق والمراكب ذات الشراع الواحد والشارعين، تداعب نسمات البحر قلاعها فتجعلها تهفو وترفرف في الفضاء.
تلك هي جزيرة أرواد، أشهر مرافئ الزوارق والقوارب في شرق البحر الأبيض المتوسط، والتي كانت يوماً مقر مملكة فينيقية، فاقتصرت اليوم على أن تكون وحدة سياسية صغيرة لا يمثلها أي عضو في البرلمان، لصغر مساحتها التي لا تتجاوز 900 متر طولا و500 متر عرضا. وقد لعبت هذه الجزيرة دورا كبيرا في التاريخ، وذكرت في سفري يونس وحزقيال من أسفار الإنجيل؛ إذ ورد أن مملكة أرواد كانت مقراً للبحارة والجنود الذين دافعوا عن صور ضد نبوخذ نصر، كما أنجبت أرواد أولئك المحاربين الذين اشتركوا مع الفرس في محاربة الإغريق في موقعة (سلاميس) البحرية التاريخية، فضلا عن أنهم كشعب من أوائل الشعوب التي اعتادت أن تجوب مياه شرقي البحر الأبيض المتوسط وترتادها. ساهموا في الحروب التي قامت على مر القرون، وعانت البلاد الواقعة في شرق البحر الأبيض المتوسط مراراتها وويلاتها.
وقد خلف الفينيقيون وراءهم جداراً ضخماً مهدماً، تداعت أجزاؤه وكستها الأعشاب والطحالب، وهذا الجدار هو الطلل الباقي من سور كان يحوط الجزيرة كلها يوماً، فلم يبق منه سوى هذه الآثار، لتشهد بعظمة فن العمارة القديم، كذلك استولى الصليبيون على جزيرة أرواد، خلال الحرب الصليبية، فخلفوا بها قلعة متينة البنيان، وسلالة نتجت من اختلاطهم بأهالي الجزيرة وتزاوجهم معهم.
وفي الحرب العالمية الماضية، استولى الفرنسيون على جزيرة أرواد سنة 1914، فاتخذوها قاعدة لعلمياتهم الحربية ضد الأتراك والسوريين، ولما كانت السلطة التي تسيطر على الجزيرة، تستطيع أن تفرض نفوذها على حركة السفن والمراكب على طول الساحل الشرقي للبحر المتوسط، فقد استطاع الفرنسيون أن ينزلوا رجالهم بالساحل حيث شاؤوا، وأن يمدوا المارونيين في جبل لبنان بالأطعمة والأغذية.
وهاهم أولاء رجال جزيرة أرواد يلعبون مرة أخرى دورا هاماً، إذ استخدموا قواربهم وسفنهم في نقل الإمدادات العسكرية في الشرق الأوسط في الحرب الحاضرة، فأصبحت هذه المراكب تنتقل على طول الساحل في الحوض الشرقي للبحر المتوسط، ما بين الإسكندرية – الميناء المصرية – ومرسين – الميناء التركية – متعرضة لما يهدد سفن الحلفاء التجارية من أخطار، في سبيل نقل المواد الضرورية للمجهود الحربي.
وأهم ما تضطلع به من أعباء هو نقل الخشب من تركيا، والإسفلت من إنطاكية إلى بيروت، وإلى مصانع الإسمنت القائمة في الشقة على ساحل لبنان، وقد ذاقت هذه المراكب مرارة الحرب فعلا، حيث اشتدت شوكة غواصات الأعداء في شرق البحر الأبيض المتوسط من حوالي السنة، إذ أغرقت مدافع العدو عدداً من مراكبهم، ولكن قوة العدو ما لبثت أن اضمحلت وزال الخطر.
ولا يقتصر حال جزيرة أوراد على إتقان الملاحة فحسب، بل إنهم يصنعون سفنهم بأيديهم أيضا، وقد شاهد مراسل مجلة (أخبار الحرب) ومصورها حين زارا الجزيرة، بنّائي القوارب، وهم ينكبون على ممارسة حرفتهم القديمة. وكانت أحواض المرفأ الصعير، تحتضن إذ ذاك، أكثر من عشرة مراكب جميلة، بينما كان الأطفالمن حولها يلعبون في الماء، كما لو كانوا أسماكاً برونزية اللون… وكانت الهياكل الخشبية للماركب الشراعية التي لم يتم صنعها، تبدو خلف البيوت الحجرية الصعيرة المتزاحمة، شامخة بأنوفها وقد شاعت في الجو رائحة الأخشاب التي كان البناؤون ينشرونها ويقطعونها من جذوع الأشجار، التي اجتثت من غابات لبنان ومنطقة العلويين.
ومن أهم الفنون وأكثرها اتساقا ولزوما مع بناء السفن، هو فن حفر الأخشاب وطلائها وزخرفتها بالألوان البراقة، التي تشاهد حول مؤخرة المركب ومقدمتها. أما أولئك الذين لا يعملون في بناء السفن من أهل الجزيرة، ولا يشتغلون في شحن وتفريغ المراكب ولا يحترفون الملاحة، فيعملون في صيد السمك والغوص في البحر لاستخراج الإسفنج.
وبعد أن احتسى مندوبنا ومصورنا القهوة في ظل هيكل مركب لم يتم صنعه، انطلقا يشاهدان معالم الجزيرة، فإذا بها مكتظة بالمنازل الصغيرة المشيدة من الطوب، والتي تفصل بعضها عن بعض طرق صغيرة ضيقة، تتخللها سوق أقيمت فوق طريقها سقف تحجب الشمس عنها. ولا ترى في الجزيرة أرضا مزورعة، اللهم إلا مساحات ضئيلة متربة في ساحات بعض المنازل، نبتت فيها بعض الخضراوات.
وتستخرج المياة من الآبار، كما كانت المياه تستمد قديماً، من آبار تتصل بالحر، وقد حدث أن حوصرت الجزيرة مرة، فاضطرت للتسليم لأن العدو احتل الآبار وأقام عليها أغطية من حديد.
ويطحن القمح الذي يجلب إلى الجزيرة في طواحين تعد من أجمل مناظر الجزيرة. على أنها رغم غرابة منظرها خير آلات للطحن في مجتمع قوامه ملاحون وبحارة؛ فإن أذرعه من الطواحين تكتسي بقماش من قلاع المراكب بدلا من الخشب الذي يستعمل عادة، كما أنها تقام على رحى ضخمة يمكن إدارتها بذراع طويلة من الخشب كدفة المركب.
ويبلغ عدد سكان الجزيرة الآن، ألفين وثلاثمائة نسمة، كلهم من المسلمين فيما عدا أسرة مسيحية تعيش بينهم، ومع أن رجال الجزيرة من الرواد، ومن جوّابي البحار الذين رحلوا إلى كثير من البلاد الأجنبية، إلا أنهم لم يقتبسوا عن تلك البلاد سوى النزر القليل من العادات، فقد اشتهر أهل الجزيرة بأنهم من أشد المتمسكين بالقديم من العادات والتقاليد، فهم مثلا يراعون حجاب المرأة مراعاة شديدة.
وليس ثمة مواصلات بين الجزيرة والشاطئ سوى الزوارق الصغيرة ذات المجاذيف، وقد تشتد العواصف في الشتاء، فتقطع هذه المواصلات فترات قد تكون أياما طويلة في بعض الأحايين، وفي هذه الحالة يقتصر الاتصال مع الشاطئ على الإارات، التي ترسل خلال الجهاز اللاسلكي الذي زودت به الحامية الفرنسية.
وتضم هذه الحامية الفرنسية نسبة كبيرة من رجال جزيرة أرواد، فقد التحق كثير منهم بقوات فرنسا الحرة البحرية، وزار المراسل والمصور عيادة طبية تقوم في قلب الجزيرة على مقربة من القلعة، ويديرها طبيب وممرضة فرنسية يتبعان للجيش ومساعد لبناني. وقد ذكرت لهما هذه الممرضة أن أكثر الأمراض انتشارا في الجزيرة، هي الملاريا والرمد والأوبئة الجلدية.
وتعزى هذه الأمراض الجلدية إلى القذارة، ومما يدعو إلى الأسف حقا، أن العناية والمهارة التي اشتهر بها رجال جزيرة أرواد في تنظيم أعمالهم وحرفهم، لا تسري أيضا على شؤونهم الخاصة، ولا على شؤون الحياة في جزيرتهم.
وعندما آن لنا أن نغادر الجزيرة ونبحر عائدين إلى الشاطئ، كانت الشمس تنحدر إلى خدرها وتسحب ذيول ردائها الذي انعكمست أرجوانيته على المراكب، وسادت روح من السكينة والهدوء والسلام، الذي يساعد أهل الجزيرة على قدر طاقتهم على توفيره للعالم كله.
مجلة (أخبار الحرب) 20/10/1943
أرواد بين الأمس واليوم
د. أحمد عسيليبكثير من النوستالجيا، قرأت هذا الاستطلاع الذي تعيد (العربي القديم) نشره، بعد ثمانين عاماً من نشره في المصدر. هي المرة الأولى الذي أطّلع عليه، وأعتقد أن الكاتب كان موضوعياً جداً، في وصف أهلي، قبل حوالي القرن من الزمن، حيادياً جداً بكل المعاني الإيجابية، وأيضاً السلبية لتلك الحيادية.
أهالي أرواد حرفيون ماهرون؟ نعم، مازالوا حرفيين ماهرين إلى الآن، مازالوا يصنعون قواربهم بأيديهم، لكن حرفيتهم جعلتهم يدركون أن صناعة المراكب الصغيرة، والصيد مهنة طواها الزمن، ولأنهم ماهرون حدّ المكر ربما، فقد حافظوا على تلك المهمة كتراث فلكلوري، لكنهم اتجهوا إلى التجارة البحرية، وأبدعوا فيها أي إبداع.
هم عشوائيون في حياتهم الخاصة؟
نستطيع قول ذلك، إذا كنا فعلاً حياديين، لكن بمقدورنا أيضاً أن نقول عنهم إنهم عفويون، بسيطون، أنشؤوا سداً عريضاً، بينهم وبين التكبر والتكلّف، لدرجة يمكن أن ترى معها، كبار رجال الأعمال يجلسون على الأرض يدخنون الأركيلة، أو يستلقون بعد الظهر، لأخذ قيلولة أمام باب البيت، بلباس النوم، هكذا بكل بساطة!محافظون؟
نعم، محافظون جداً على عاداتهم حدّ التقديس. فعاداتنا هي هويتنا، هي ذاتنا التي نحبّ أن نحافظ عليها، وندرك تماماً أننا بدون تلك المحافظة على التقاليد، سنذوب نحن الذين لا يتجاوز عددنا الثلاثين ألفاً ربما، في محيط بشري كبير في الساحل السوري، لذلك لنا رقصتنا، لنا اللباس الخاص لنسائنا، لنا تقليدنا في الاحتفال بالإسراء والمعراج، لكنْ أيضاً لنا الانفتاح على الآخر، وتقبّله بكلّ حب.
التحق الكثير منهم بقوات فرنسا الحرة؟
ربما، رغم أن ما أعرفه عن أهل الجزيرة بشكل عام، هو كرههم للسلاح، ومقتهم له، وعدم إجادتهم استخدامه، وكره العسكرة، وفكرة الجيوش أصلاً، فهي لا تتناسب مع نفسيتهم المنطلقة دوماً، والمُحِبّة للسلام، وقد أخبرني يوماً أحد الأرواديين، وبكل فخر، إن أرواد لم تشهد في تاريخها كلّه إطلاق نار أبداً، ولا أذكر أبداً في حياتي كلها في أرواد، أن رأيت سلاحاً، سوى مع بعض أفراد الشرطة القادمين من مكان آخر، ولا أتخيل أبداً رؤية أروادي مع سلاح، ولم أسمع أبداً عن حكايا أشخاص شاركوا في معارك، إلا قصة واحدة، كانت لها ظروفها الخاصة.فالمادة حقيقية، لكنها تمثل حقيقة عين خارجية وصفية، ترى الأشياء في ظاهرها، بعيداً عن حميمية العلاقة الذاتية، والفهم العميق، لتك البقعة الصغيرة من الساحل.