خطوات للمحاسبة

في 7 من تشرين الأول 2020، قدمت “مبادرة العدالة” و”المركز السوري للإعلام وحرية التعبير” و”مبادرة الأرشيف السوري” ضمن مشروع “Mnemonic”  لتوثيق انتهاكات حقوق الإنسان، شكوى جنائية إلى المدعي العام الاتحادي الألماني ضد مسؤولين سوريين، بشأن استخدام غاز السارين في عدة مدن سورية.
وعادت المنظمات الثلاث، في آذار 2021، لتقديم شكوى مماثلة أمام قضاة التحقيق في فرنسا، تضمنت شهادات مستفيضة لعديد من الناجين من هجمات الكيماوي التي شنها النظام السوري على مدينة دوما والغوطة الشرقية في آب عام 2013، لتكون الشكوى الجنائية الأولى التي تُقدم ضد بشار الأسد في فرنسا حول قضية الأسلحة الكيماوية.
تلا ذلك بشهر واحد تقديم شكوى أخرى بالسويد لمحاسبة النظام السوري على استخدامه غاز السارين في هجومين، الأول على الغوطة الشرقية عام 2013، والثاني على خان شيخون عام 2017.
وأدت التحقيقات المتواصلة إلى إصدار 4 مذكرات توقيف في تشرين الثاني 2023، بتهمة التواطؤ في جرائم ضد الإنسانية والتواطؤ في جرائم حرب.
واستهدفت المذكرات حينها، إلى جانب بشار الأسد، شقيقه ماهر، وعميدين آخرين هما غسان عباس، مدير “الفرع 450” التابع لمركز الدراسات والبحوث العلمية السورية، وبسام الحسن، مستشار الأسد للشؤون الإستراتيجية وضابط الاتصال بين القصر الرئاسي ومركز البحوث العلمية.
وبعد جلسات متكررة صدّق القضاء الفرنسي، في 26 من حزيران الماضي، على قرار توقيف بشار الأسد، لتورطه في هجمات كيماوية في سوريا، رغم مطالبة مكتب المدعي العام الوطني لمكافحة الإرهاب في فرنسا، بإلغاء هذه المذكرة باسم “الحصانة الشخصية” التي يتمتع بها رؤساء الدول في مناصبهم أمام المحاكم الأجنبية.
وقال المحامي المختص بالقانون الجنائي الدولي، المعتصم الكيلاني، إن اتباع مسار التقاضي الدولي طويل ويتطلب الصبر، لكن رغم ذلك حقق السوريون الخطوة الأولى والأبرز في مسار محاسبة الأسد، والتي تجلّت بإصدار القضاء الفرنسي مذكرات توقيف دولية بحق بشار الأسد وشقيقه وضابطين اثنين، وهناك أيضًا آمال كبيرة معلقة على الشكاوى المقدمة في كل من ألمانيا والسويد.
وأضاف الكيلاني لعنب بلدي أن محاسبة الأسد وأعوانه على جرائم الكيماوي ستؤدي إلى أمرين: التأكيد على أنه لا مستقبل سياسي لمرتكبي جرائم الحرب والجرائم ضد الإنسانية في سوريا، حيث ستجعل مذكرات التوقيف والملاحقات القضائية بحقهم من سوريا سجنًا لا يستطيعون مغادرته.
الأمر الثاني تضييق الخناق على سياسة الإفلات من العقاب التي يشهدها العالم اليوم، فلو حُوسب الأسد وروسيا على انتهاكاتهما في سوريا، لما وصلنا إلى هذا الوضع حيث تتوسع رقعة الجرائم وتتزايد حالات الإفلات من العقاب في المنطقة والعالم، وفق الكيلاني.

“سيف على رقبة الأسد”

رغم طول الفترة التي مضت على مجزرة الغوطة، وحالة الإفلات من العقاب والتواطؤ الدولي الذي منع محاسبة النظام، أصرّ الناجون وعائلات الضحايا على المطالبة بمحاسبة الجناة وتعويض الضحايا، والتأكيد على حق السوريين في معرفة الحقيقة.
في ذكرى المجزرة عام 2021، أنشأت مجموعة من ذوي الضحايا والناجين من جرائم الهجمات الكيماوية “رابطة ضحايا الأسلحة الكيماوية” لمحاسبة القيادات الأمنية والعسكرية في النظام السوري على ارتكاب تلك الهجمات.
هيثم البدوي، أحد أعضاء الرابطة، كان يعمل في النقطة الطبية بحي جوبر خلال فترة مجزرة الكيماوي، ما أدى إلى تعرضه لإصابة نتيجة استنشاق الغازات السامة، قال لعنب بلدي، إن الناجين وضحايا الهجوم الكيماوي هم بمثابة “سيف على رقبة الأسد”، كونهم أصحاب القضية والشهود الحقيقيين على تلك المجزرة، ولهم الدور الأساسي في طريق محاسبة الأسد.
وأضاف البدوي أنه “للدفع بملف محاسبة الأسد نحو الأمام، تم تأسيس رابطة ضحايا الأسلحة الكيماوية، التي تشكلت من المتضررين من هجوم الكيماوي، سواء من تضرر بشكل مباشر نتيجة تعرضه للإصابة، أو تضرر بشكل غير مباشر نتيجة فقدان ذويه، لذا عملت الرابطة على الشراكة مع “المركز السوري للإعام وحرية التعبير” فيما يخص الدعاوى التي رُفعت في أوروبا لمحاسبة الأسد على تورطه بهجوم كيماوي في الغوطة الشرقية.
وقبل تشكيل الرابطة رفع بعض أعضائها ممن تضرروا بهجوم الكيماوي دعاوى ضد النظام السوري، ومن ثم استكملوا تلك الدعاوى بعد تأسيس الرابطة، حيث ساهموا في تقديم الشهادات أمام المحاكم، والتي أثمرت عن صدور مذكرة التوقيف بحق الأسد وأعوانه من قبل القضاء الفرنسي.
إلى جانب دور “رابطة ضحايا الأسلحة الكيماوية” في المجال القانوني، فإنها تعمل كذلك على الصعيد السياسي عبر حمل القضية والترويج لها أمام كبار السياسيين، ومنها لقاء أعضاء الرابطة بالرئيس الأوكراني، فولوديمير زيلينسكي، في آب 2023، حيث طرحوا أمامه جرائم الأسد وروسيا ضد الشعب السوري، وعلى رأسها الهجمات الكيماوية.
وأكد البدوي أهمية التذكير دومًا بجرائم الأسد في المحافل الدولية، لأنها تعد ورقة ضغط لمنع اعادة شرعنته والتطبيع معه، ومنع الدول من إنهاء الملف السوري، فلو غابت شهادات الضحايا وتوقف المسار القانوني لمحاسبة النظام، لاختفى الملف السوري نهائيًا، حينها يضمن الأسد تثبيت حكمه لعقود من الزمن.

الطريق مغلق نحو “الجنائية الدولية”

اتجهت بعض الدول والمنظمات الحقوقية إلى الجهات القضائية العالمية لمحاسبة مجرمين خارج أراضيها، ارتكبوا انتهاكات بحق مواطنين لها يعيشون في سوريا، بعدما فشل مجلس الأمن مرارًا في إحالة الملف السوري إلى المحكمة الجنائية الدولية، بسبب “الفيتو” الروسي- الصيني.
وذكر مدير منظمة “سوريون من أجل الحقيقة”، بسام الأحمد، لعنب بلدي، أن عدم القدرة على إحالة الملف السوري إلى المحكمة الجنائية الدولية يعود لسببين، الأول “الفيتو” الروسي- الصيني الذي يصوت في مجلس الأمن ضد قرار تقديم مسؤولي النظام لمحكمة الجنايات، أما السبب الثاني فيعود إلى أن سوريا ليست عضوًا في ميثاق روما.
وكانت 108 دول وقعت، عام 1998، على ميثاق روما للمحكمة الجنائية الدولية، وهناك العديد من الدول لم توقع على المعاهدة بما فيها سوريا والعراق، وبالتالي لا تتدخل المحكمة في قضايا على الأراضي السورية، بينما تستطيع المحكمة تلقائيًا ممارسة سلطة قضائية على الجرائم المرتكبة في أراضي أي دولة عضو أو المرتكبة من أشخاص ينتمون لأي دولة عضو.

“المحكمة الاستثنائية مطلبنا”

مع انسداد الطريق إلى محكمة الجنايات الدولية، طالبت منظمات سورية غير حكومية، في تشرين الثاني 2023، بإنشاء “محكمة استثنائية” لمعاقبة مستخدمي الأسلحة الكيماوية في سوريا، جاء ذلك في بيان لـ”رابطة ضحايا الأسلحة الكيماوية “.
وفي الذكرى الـ11 لمجرزة الغوطة، نظّم “الدفاع المدني السوري” بالتعاون مع حملة “لا تخنقوا الحقيقة”، الثلاثاء 20 من آب، وقفة في مدرج حديقة مدينة إدلب، لإحياء وتخليد ذكرى ضحايا مجزرة الكيماوي، ورفعوا عدة لافتات منها “المحكمة الاستثنائية مطلبنا حتى لا نختنق مرتين”.
المطالبات بإنشاء محكمة استثنائية خاصة لمحاكمة النظام، جاءت من منطلق أن هناك محاكمات خاصة عُقدت سابقًا، كالتي شُكلت لمحاسبة مجرمي الحرب في يوغسلافيا ورواندا وسيراليون، وأيضًا في لبنان بقضية اغتيال رفيق الحريري.
ويمكن للمحكمة الاستثنائية المقترحة، بحسب البيان، النظر في جميع قضايا استخدام الأسلحة الكيماوية في سوريا وكافة القضايا الأخرى التي تُمنع “الجنائية الدولية” حاليًا من التعامل معها بسبب الجمود السياسي.
وقال المعتصم الكيلاني، إن المساعي لتشكيل محكمة خاصة للنظر في استخدام الأسلحة الكيماوية في سوريا، تعد خطوة مهمة للضغط على مكاتب الادعاء العام في دول الاتحاد الأوروبي، لتقديم المزيد من الضحايا والشهود والخبراء، كما أنها تسهم في تعزيز التأكيد على أن هذه الجرائم لا تسقط بالتقادم ولا بتغيير الأحوال، وبالتالي ضرورة محاسبة نظام الأسد على هذه الجرائم، وعدم مكافأته بالتطبيع معه.

الأسد يُخفي الأسلحة الكيماوية

في 27 من أيلول 2013، صوّت مجلس الأمن الدولي بالإجماع على القرار 2118 ، الذي يتضمن إجراءات للتعجيل بتفكيك برنامج النظام السوري للأسلحة الكيماوية وإخضاعه لتحقق صارم، ويدعو إلى تنفيذه تنفيذًا كاملًا في أسرع وقت.
كما نص القرار على ألا يقوم النظام باستخدام أسلحة كيماوية، أو استحداثها أو إنتاجها أو حيازتها بأي طريقة أخرى أو تخزينها أو الاحتفاظ بها أو بنقل تلك الأسلحة بصورة مباشرة أو غير مباشرة إلى دول أخرى أو جهات من غير الدول.
ورغم ذلك استمر الأسد باستخدام الأسلحة الكيماوية، حيث نفذ 217 هجومًا كيماويًا على مختلف المحافظات السورية، منذ أول استخدام موثَّق لهذا السلاح في 23 من كانون الأول 2012 حتى 7 من نيسان 2024، تسببت في مقتل 1514 شخصًا بينهم 214 طفلًا و262 سيدة، إضافة إلى إصابة 11080 آخرين، وفق ما وثقته “الشبكة السورية لحقوق الإنسان “.
وأكد المبعوث الألماني إلى سوريا، ستيفان شنيك ، اليوم الأربعاء 21 من آب، أن النظام السوري لم يعلن عن كامل أسلحته ومنشآته الكيماوية ولم يدمرها، بناء على تعهداته أمام المجتمع الدولي.
بدورها، اتهمت الخارجية البريطانية خلال جلسة بمجلس الأمن، في 11 من حزيران الماضي، النظام السوري بإخفاء مئات الأطنان من المواد الكيماوية، وعدم الإيفاء بتعهداته لمجلس الأمن باتلاف السلاح الكيماوي.
وكانت آلية التحقيق المشتركة بين الأمم المتحدة ومنظمة حظر الأسلحة الكيماوية وفريق التحقيق وتحديد الهوية التابع لمنظمة حظر الأسلحة الكيماوية، أكدوا أن النظام السوري استخدم الأسلحة الكيماوية، بما في ذلك السارين والكلور، ضد الشعب السوري تسع مرات بعد انضمامه إلى اتفاقية الأسلحة الكيماوية عام 2013، وفق ما ذكرت الخارجية البريطانية.
كان النظام السوري قد انضم إلى منظمة حظر الأسلحة الكيماوية في أيلول 2013 بعد أقل من شهر من مجزرة الغوطة، وذلك تحت تهديد الولايات المتحدة بشن عملية عسكرية ضده وإسقاطه.