عمدت تركيا بعد ذلك نتيجة للتفاهمات في مسار أستانة بين عامي 2018 – 2019م، إلى تشكيل ثلاث مناطق نفوذ في شمال غرب سورية، هي:
درع الفرات، و غصن الزيتون، ونبع السلام، وإضافة لتعزيز وجودها العسكري في إدلب التي تمركزت بها هيئة تحرير الشام (جبهة النصرة -القاعدة- سابقا)، لتكتمل الصورة مع تراجع تهديد داعش في العام 2016، حيث أصبحت قوات سورية الديمقراطية بالتعاون مع الولايات المتحدة يسيطران على شريحة واسعة من الأراضي في شمال شرق سورية بشكل مستقل عن مسار أستانة.
ترسيخ للتقسيم الحالي:
يمكن القول أن نظام الأسد بات اليوم الطرف المحلّي الوحيد الذي يمكنه توسيع سيطرته على باقي المناطق، لكن الصعوبة تكمن بوجود تفاهم مسبق مع القوى الإقليمية والدولية التي تدعم الكانتونات في الشمال، مايعني أن أي محاولة يُقدِم عليها النظام السوري بشكل فردي للاستيلاء على كانتون أن تتسبب باندلاع صراع مع تركيا، أو الولايات المتحدة الأمريكية، أما في حال لو توصّل النظام السوري لاتفاق ما مع أنقرة عبر حليفه الروسي أو الايراني، لتوسيع سيطرته على الشمال الغربي الخاضع لسيطرة حلفاء تركيا من المعارضة السورية، فإنه لن يكون قادراً على إدارته كمنطقة واحدة، باعتبار تجربته السابقة في فرض سيطرته الفاشلة على درعا منذ العام 2018.
حيث أن النظام السوري في درعا غير قادر على السيطرة بشكل فعلي عليها بسبب رفض المعارضة السورية لحكمه الذي لا يزال سائداً، أو بسبب عدم قدرته على توفير الخدمات للسكان المحليين.
كما يمكن القول أيضاً أن تركيا وسعت لاحقاً سلطتها على المعابر الحدودية الصغيرة القائمة وفتحت معابر جديدة، حيث قامت بتوسيع معبَري “جرابلس” و”الراعي” في منطقة درع الفرات كي يكونا معبريَن مدنيَين إنسانيَين تجاريَين في تشرين الثاني/نوفمبر 2016 وأيار/مايو 2017 على التوالي، كما نجحت السياسة التركية في المراقبة عن كثب للسلع التي تدخل عبر المعابر الحدودية والجهة التي تولّت نقلها.
سيطرةٌ تركيةٌ كاملة:
ربطت تركيا المناطق الخاضعة لسيطرتها في سورية بأقرب ولاية تركية، وتولّى الولاة المعنيون إدارة كل منطقة بحكم الأمر الواقع، إذ بعد فترة وجيزة من انتهاء عملية درع الفرات، قامت رئيسة بلدية غازي عنتاب بزيارة جرابلس، مشيدةً بنجاح بلادها في تحسين الخدمات البلدية، لتكون مثل هذه الزيارات للمسؤولين الأتراك بما فيهم وزير الداخلية شائعة، كما عيّنت السلطات التركية “مساعدين للولاة”، ليكونوا وسطاء بينهم وبين المجالس المحلية في سورية، إلى أن فاجأت الحكومة التركية الشمال السوري، بقرار تعيين حاكم واحد لإدارة مناطق نفوذ القوات التركية والفصائل الموالية لها شمالي سورية في أواخر عام 2023م، ليتمتع الأتراك بسلطة قوية على المنطقة التي تحت نفوذهم.
إضافة إلى أن بعض القطاعات تخضع لإشراف الوزارات التركية المعنية بشكل مباشر، ويعمل موظفوها بالتنسيق مع الموظفين السوريين المحليين والهيئات التركية التي تعمل في سورية، فلقد احتكرت تركيا بعض القطاعات منذ فترة 2016-2017م كالتعليم والصحة في منطقة درع الفرات، فضلًا عن إدارة المخيمات في مناطق أخرى، خصوصًا في عفرين ونبع السلام، كما أن القطاع الخاص التركي بات يشكّل جزءًا لا يتجزأ من جهود تركيا لإرساء الاستقرار في شمال سورية، حيث قامت شركات البناء التركية بمشاريع سكنية وأخرى للبنى التحتية، كما يُشكّل قطاع الاتصالات مجالًا آخر تستثمر فيه الشركات التركية الخاصة من خلال شركاء محليين.
أخيراً، تعمل تركيا على استقرار المنطقة تحت نفوذها لضمان عودة طوعية للسوريين في تركيا، بدأ ذلك عام 2022 حيث صرح وزير الداخلية التركية بعودة نصف مليون سوري للمنطقة، وكان قد صرح الرئيس التركي نفسه أن بلاده ستعمل على بناء 200 ألف وحدة سكنية في 13 موقعاً في شمال غربي سورية، واعادة مليون سوري.
يمكن القول هنا أن تركيا ساهمت في الحؤول دون تدهور الوضع بشكل إضافي في مناطق الشمال الغربي، وتحسين توافر المواد الغذائية، والكهرباء، والمسكن، والخدمات المصرفية والتعليمية والصحية, ليصبح النهج الذي اعتمدته تركيا سياسيًا بالدرجة الأولى قبل أن يكون إنسانيًا، من خلال مشروع مدروس قام به مسؤولون رفيعو المستوى (الوالي، ومسؤولين بارزين في رئاسة إدارة الطوارئ والكوارث التركية، ووزارة الداخلية) لإرساء الاستقرار في المنطقة بالتعاون مع منظمات إغاثة محدّدة، لينجح الأتراك بالعموم في بسط السيطرة الكاملة على المنطقة.
سيناريو الوصاية:
إن المجموعات الثورية في المناطق الواقعة تحت سيطرة الأتراك أمام سيناريوهات متعددة:
1- الاتفاق مع النظام السوري، هذا السيناريو سيفرض على النظام السوري منح ضمانات لتلك المناطق، والتي يجب أن تتمتع بقدر كبير من الاستقلال الذاتي، ما يعني اعتماد الحكم اللامركزي.
لكن المشكلة أن أي خطوة يتّخذها النظام السوري باتجاه اللامركزية من شأنها أن تتحوّل إلى هاجس أمني بالنسبة إلى تركيا لأنها قد تثير مخاوفها من إضفاء طابع رسمي على الحكم الذاتي الذي تتمتع به المناطق الخاضعة لسيطرة “قسد” شمال شرق البلاد، وهو أمرٌ لا يمكن أن تتقبّله أنقرة، أما في ما يتعلق بالنظام السوري في دمشق، فمن شأن أي خطوة لتقاسم السلطة من خلال اللامركزية الواسعة النطاق أن تشكّل تنازلًا كبيرًا، وتطرح تهديدًا محدقًا باستقرار نظام الأسد، الأمر الذي يرفضه النظام السوري.
2- سيناريو ألمانيا الغربية، حيث كان تيار المستقبل السوري من أوائل المقترحين لهذا السيناريو الذي يوحد عبر الاقتصاد المناطق خارج سيطرة النظام السوري، يعني مناطق المعارضة السورية ومناطق قسد، مع أن معلوماتنا الخاصة تؤكد على موافقة مبدئية لتركيا لتنفيذ هذا المشروع، لكن الحرب الدائرة على قوات سورية الديمقراطية وتدمير بنيتها التحتية، يجعل السير في هذا الخيار غير مطروح على الأقل في الوقت الراهن، ولو أنه يُعتبر حلاً مثالياً للمعضلة السورية.
3- طلب المعارضة السورية رسمياً عبر منظمة الأمم المتحدة دخول المنطقة الشمالية الغربية تحت الوصاية التركية بشكل مشروط ومؤقت.
في الفصل الثاني عشر من ميثاق الأمم المتحدة المعنون بـ “في نظام الوصاية الدولي”، تنظيم قانوني لقضية الوصاية، حيث أن القانون الدولي يفرض أهدافاً أساسية لنظام الوصاية وهي:
1- توطيد السلم والأمن الدولي، وبذلك ترتاح المنطقة من كل اتهام للنظام السوري أو روسيا بأن الفصائل فيها منظمات ارهابية.
2- العمل على ترقية أهالي الاقاليم المشمولة بالوصاية في أمور السياسة والاجتماع والاقتصاد والتعليم واطراد تقدمها نحو الحكم الذاتي أو الاستقلال حسبما يلائم الظروف الخاصة لكل إقليم وشعوبه، ويتفق مع رغبات هذه الشعوب التي تعرب عنها بملء حريتها، وطبقاً لما قد ينص عليه في شروط كل اتفاق من اتفاقات الوصاية. وبذلك تكون تركيا أمام مسؤولية قانونية في بناء المنطقة وعدم اعتبارها منطقة نفوذ فقط دون اهتمام!
3- التشجيع على احترام حقوق الإنسان والحريات الأساسية للجميع بلا تمييز بسبب الجنس أو اللغة أو الدين، وبذلك نضمن نهاية للعنف والفوضى في المنطقة، كما نضمن أن هذا الواقع يكون أكثر قانونية، ويضمن عدم تقسيم الخريطة السورية وتفتيتها، بل يعني تحمل تركيا لمسؤوليتها حتى الوصول بسورية إلى مرحلة تقرير المصير والتجهيز للحل السياسي الشامل.
صعوبات الوصاية:
في المادة 78 من الفصل المذكور للأمم المتحدة ما نصه: “لا يطبق نظام الوصاية على الأقاليم التي أصبحت أعضاء في هيئة الأمم المتحدة، إذ العلاقات بين أعضاء هذه الهيئة يجب أن تقوم على احترام مبدأ المساواة في السيادة”.
حيث أن سورية لازال معترفاً بها كدولة ذات سيادة لدى الأمم المتحدة، ولكن يمكن العمل على إسقاط هذه الصفة باعتبار النظام السوري فاقداً للشرعية الدولية، ليكون الحقوقيون السوريون أمام مهمة عظيمة تاريخية في هذا المقام.
خاتمة:
لاشك أن المتوقع غير الواقع، والرغبة بتخليق دولة وطنية حديثة عادلة ديمقراطية صحية هي الغاية التي يصبو إليها جميع السوريين الوطنيين الأحرار، كما أن وجود سيناريوهات عديدة أمام صانعي القرار -نقصد بهم هنا المعارضة السياسية- يعطي سعة في التحرك بكل المجالات.
لهذا فإننا في تيار المستقبل السوري نوصي حسب رؤيتنا ما يلي:
- العمل على الحل السياسي مع النظام السوري بما يضمن حقوق الشعب السوري، باعتباره ممارسة واقعية سياسية للمعارضة السورية.
- العمل على تحقيق مشروع ألمانيا الغربية بنفس السوية.
- العمل على مشروع وضع المنطقة الشمالية الغربية تحت الوصاية التركية بشكل مشروط ومؤقت.
- نوصي في تيار المستقبل السوري أن يتم تشكيل فريق قانوني سوري ودولي بالتعاون مع الحكومة التركية والأمم المتحدة لإيجاد مداخل قانونية لإمكانية تنفيذ وصاية تركية مؤقتة ومشروطة في المنطقة الشمالية الغربية.
- نوصي المعارضة الرسمية السياسية رفع طلب رسمي للحكومة التركية لوضع المنقطة الشمالية الغربية تحت الوصاية التركية المؤقتة والمشروطة رسمياً.
جمعة محمد لهيب
المكتب السياسي
تيار المستقبل السوري