أن تتراكم استحقاقات سياسية مهمه في أكثر من مكان في عالمنا فهذا أمر عادي، تَزَامُن هذه التراكمات معاً هو الذي يخلق شعوراً بأننا على عتبة مرحلة جديدة، صار لابد فيها من مواجهة الاستحقاقات المؤجلة، ولنبدأ من الدوائر الأكبر والأوسع، فهي الأكثر تأثيراً عادةً في تلك الأصغر منها، وإن كان التأثير متبادلاً ولو بوتيرتين مختلفتين، ولأن لاأحد منا يملك تكهنات دقيقة عما ستحمله قوادم الأيام والشهور، فربما كان مفيداً أن نبدأ بطرح أسئلة مهمه، أَقَلُّهُ على سبيل الاستدلال.
هل ستحمل الشهور القادمة، (خصوصاً وأننا نقترب من استحقاق انتخابات رئاسية أمريكية في الربع الأخير من هذا العام)، تصوراً أمريكياً واضحاً لحلٍ ما في أوكرانيا؟ قد لايكون ممكناً دون اجتراح طريقة جديدة وشاملة في التعامل مع موسكو تلحظ احتياجاتها أيضاً، ولكن بنفس الوقت تدرك مدى خطورة الخضوع لابتزازات الرئيس بوتين؟ أم أن الولايات المتحدة لاتزال تدفع باتجاه إطالة أمد المواجهة (بأشكال مختلفة ومتعددة)؟ وأن الإطالة هي الاستراتيجية الحقيقية ليس فقط لهذه الإدارة، بل لتوجه أمريكي عابر للإدارات؟ وكيف سينعكس هذا التوجه في علاقات أميركا مع حلفائها الأوروبيين الذين يزداد إيمانهم كل يوم في أنهم هم من يدفعون الثمن الأعلى لهذه المواجهة الأميركية/الروسية (عن بعد) وبالواسطة (by proxy)؟
الاستحقاق المهم الآخر أمريكياً هو الوصول لتصورات حقيقية وواقعية في مواجهة الطموحات الاقتصادية الصينية، تُنَظِّم علاقات العملاقين الاقتصاديين الأكبر في العالم بمايلبي احتياجاتهما ويراعي هواجسهما معاً، الأمر الذي أعلم أن الرئيس السابق ترامب كان سيقوم به لوأنه فاز بدورة ثانية.
لعل الاستحقاق الأميركي الأهم بالنسبة لمنطقتنا هو الوصول لتقييم واقعي لجدوى إعادة تفعيل الإتفاق النووي (الكارثي) مع إيران، والأهمية الحقيقية لما يمكن أن يقدمه للأمن القومي الأميركي ولأمن واستقرار (ماتبقى) لأميركا من حلفاء في المنطقة، مقارنةً بالتنازلات التي ستقبل بها الإدارة هذه المرة لإنجاحه، والتي تمثلت سابقاً بغض الطرف عن التمدد الإيراني في المنطقة، مباشرةً أو من خلال أذرع إيران العديدة والمعروفة، وبماأعطاها نفوذاً جيوسياسياً ربما يتجاوز ماستعطيه القدرات النووية.
أية مواجهة واقعية للاستحقاق الأخير ستفتح الباب لاستحقاق أميركي متداخل معه ولايقل أهميةً عنه، وهو الوصول لسياسة واقعية في التعامل مع قوة إقليمية وازنه أخرى في المنطقة، وهي تركيا، خصوصاً بعد أن حسمت الانتخابات الرئاسية الأخيرة فيها مسألة من يضع وينفذ سياساتها للأعوام الخمس القادمة، وأن أنقرة تدرك بدورها أن لديها استحقاقات مهمة في ملفات عديدة، صار وقت إنفاذها، وإعطاءها دفعاً بنقلها من مرحلة (الطبخ) في مبنى المخابرات العامة بضاحية (باغليجة) في أنقرة، إلى دوائر الخارجية التركية، بما اقتضى بخطوة ذات مغزى تعيين مدير المخابرات السابق (فيدان) وزيراً للخارجية، ومستشار الرئيس (قالين) مديراً للمخابرات.
إن أي خيار أميركي للتعامل مع النفوذ الإيراني في المنطقة لا يستند إلى تفاهمات عميقة ومتينه مع تركيا لن يكون واقعياً وممكناً، وهنا يبرز استحقاق أميركي آخر يتعلق بالعلاقة مع الأحزاب والفصائل الكردية في شمال وشرق سورية والذي يخضع هو أيضاً لتجاذبات ضمن الإدارة، كانت كلمة الفصل فيها (حتى الآن) للبنتاغون، ولكن مع أثمان سياسية عالية، تذهب لأبعد من العلاقات الأمريكية-التركية، وتهدد التوازن الديموغرافي في المنطقه.
استحقاق أميركي مهم أيضاً سيكون في إعادة تقييم علاقات واشنطن بالرياض التي أكدت دوماً أنها مع مركزية العلاقة بواشنطن، ولكن على أسس جديدة وواقعية تفي بحاجات ومتطلبات البلدين معاً، وأنها (الرياض) لن تقضي بقية العمر بانتظار حدوث ذلك، بل بدأت خطوات فعلية بانتهاج سياسات جديدة تكون مصلحة المملكة في صميمها، وأنها تجاوزت كل المعوقات التي قد تمنعها من معالجة قضاياها المهمه بنفسها، ولو اقتضى الأمر التحدث مباشرةً لطهران، مع أو بدون وسيط، صار واضحاً أنه لن يكون (العم سام)، على الأقل ضمن معطيات اليوم.
الرياض أيضاً لديها استحقاقاتها التي قد يصح وصفها بالمبرمجة أكثر من المؤجلة، فاليوم وبعد أن قطعت شوطاً مهماً في الاقتراب من نموذج دولة أكثر (مدنيةً) وأَقَّلْ (ثيوقراطيةً) وصار الاقتصاد أكثر تحكماً في السياسات بل وفي صميمها، فإن الواقعية تفرض أن النجاح والازدهار الإقتصادي الذي لايستند إلى نفوذ جيوسياسي يؤمنه، لن يكون حقيقياً أو مستداماً، وأن تصفير المشاكل في الإقليم يجب أن يستند إلى حلول فعلية وواقعية لها، تراعي مصالح وحقوق الشعوب المعنية وبالتشاور معها.
أية قراءة للحدث العالمي وتداعياته الشرق أوسطية لن تكون ذات معنى إذا لم تتوقف وبتروٍ شديد لفهم مايحدث في اسرائيل، التي يدرك من يقرؤونها جيداً، أنها تمر اليوم بمرحلة فاصلة لن أكون مبالغاً على الإطلاق إذا وصفتها بأنها غير مسبوقة منذ التأسيس الرسمي لها عام 1948، وواشنطن بدورها تدرك ذلك تماماً، وربما من هنا كان تصريح الرئيس “بايدن” من 46 كلمة في فبراير/شباط للتعليق على الأمر، واللافت جداً أنه كان علنياً وفي رسالة مفتوحة لإسرائيل، والأهم أن “بايدن” اختار إرسالها عبر الصحفي الأميركي “توماس فريدمان” الضليع في العلاقات الأميركية الإسرائيلية، وعلى صفحات “النيويورك تايمز” بكل مايمثله فريدمان شخصياً والصحيفة، من موقف مناوئ تماماً لنتنياهو ومشاريعه السياسية، فيما اعتبره فريدمان في مقاله المفصلي في “النيويورك تايمز” عدد 12 فبراير الماضي: ((هذه هي المرة الأولى التي يمكنني فيها أن أتذكر أن رئيسًا أمريكيًا قد ألقى بثقله في نقاش إسرائيلي داخلي حول طبيعة الديمقراطية في البلاد))!
لاأريد الغوص الآن في تفاصيل الأزمة السياسية التي تمر بها إسرائيل اليوم، والتي يعتبرها العديد من خبراء السياسة المخضرمين في واشنطن وتل أبيب أمراً مفصلياً يتعلق بوجود اسرائيل ومصيرها، وقد يحدد شكل الدولة لعقود قادمة، ماحدى بالرئيس بايدن للتدخل بثقله فيها، في سابقة لم تشهدها علاقات البلدين من قبل، ولكن ماعلاقة ذلك ومنعكساته في المنطقة والإقليم؟ وأين هي الرياض من كل مايجري؟ولماذا الرياض تحديداً؟
--------
خاص وايتهاوس