طالما سجل كاتب هذه السطور على هذه الصفحة من جريدة القاهرة تحذيرات مخلصة من أن اللهاث خلف شعار الديمقراطية دون توفير فلسفتها وشروطها وهياكلها ربما كان الطريق المعبد للفاشية . وكم ضرب الكاتب لذلك مثلا بجمهورية فيمار( الديمقراطية ) التي قامت بعد هزيمة ألمانيا في الحرب العالمية الأولى، وألغيت " بالانتخابات " حيث صعد هتلر – المعادي للديمقراطية - بحزبه النازي عرش السلطة في بضع سنين ، محتجا ً بمغالطة " منطقية " تختصر حكم الشعب لنفسه في آلية الانتخابات وحدها. وهي مغالطة شبيهة بقول الرجل الكورنثي للفيلسوف أرسطو إن أهل كورنثة جميعاً
كذابون .أما أرسطو فقال : وأنت من أهل كورنثة فلو صدقت عبارتك لكنت كاذبا ً مثل أهل مدينتك ومن ثم فعبارتك كاذبة، وبالتالي فأهل كورنثة ليسوا جميعا ً كاذبين بالضرورة .
اليوم بعدما أسقطت ثورة يناير الحكم الاستبدادي بطغمته الفاسدة لترتفع الأصوات المنادية "بالديمقراطية" من كل فج عميق؛ ينبغي علينا أن نتساءل : ترى من المؤهل لبناء هذه الديمقراطية ؟ الدولة ؟ القوميون ؟ التجمعات اليسارية واللبرالية ؟ الناصريون ؟ التيارات الإسلامية ؟ وربما سبق هذا السؤال َ سؤال ٌ أصرح: هل هذه القوى ديمقراطية حقا ً ؟ أو بعبارة قاسية لكن محددة: كيف توجد ديمقراطية وليس ثمة ديمقراطيون بل محض مهندسون اجتماعيون ؟
إن المغالطة المنطقية المشار إليها آنفا ً تحرض العقل الديمقراطي الأصيل أن يسأل : هل يمكن لأناس أن يقرروا التنازل – بحريتهم – عن حريتهم ؟ الإجابة ذلك هو المحال المنطقي، لأنهم في اللحظة التي أرادوا فيها أن يفعلوا هذا ( طبعا بسبب الدعاية الانتخابية الشعبوية) يكونون قد تنازلوا عن إرادتهم مقدما ً فلا يعتبرون بنص المصطلح شعباً بل مجرد حشد شعبوي. وكيف ُيعد مثل هذا الحشد حاكما ً لنفسه بينما هو يسلم الحاكمية لغيره تحت أي شعار دينيا ً كان أم علمانيا ً؟
أخطار الشعبوية
إن من يعطون دبر آذانهم لهذه الحجة الواضحة إنما يبرهنون على صواب ما ذهبنا إليه طوال الوقت من ضرورة التفرقة بين الشعبية Popularity التي تسعى للحكم سواء بالإصلاح أو بالثورة ، وبين الشعبوية Populism التي لا تشارك أصلا في الإصلاح ولكن تحصر مشاركتها وقت الثورة بفعاليات الهياج والصراخ ضيقاً عنيفا ً بالنظام المراد إسقاطه دون أدنى تصور للنظام الذي سيحل محله. وبينما تفهم الشعبية أن الثورة بقدر ما تهدم المؤسسات القديمة بقدر ما تبني مؤسسات دستورية وقانونية جديدة وأن ذلك له تكاليف باهظة؛ فإن الشعبوية ما تلبث حتى تضيق بـ " فاتورة " الثورة، وما
تقتضيه من تضحيات جسام مثل الصبر على خلخلة ضروس المجتمع القديم، وتحمل أوجاع المشكلات الاقتصادية الناشئة، والقبول بارتفاع الضغط العصبي الناجم عن تصلب شرايين الصراعات السياسية، والتعايش مع أعراض الذبحات الصدرية نتيجة استشراء العنف وتواتر الاغتيالات ... الخ وما دامت الشعبوية غير قادرة على هذه التضحيات فلا يستغرب منها أن تنقلب علي الثورة بنفس الصراخ وأن ترفع عقيرتها مطالبة بالدكتاتور "العادل" متوهمة أنه بسطوته قادر على إعادة النظام وحماية مصالحها الأنانية الرخيصة ولو في المدى القصير!
ورغم أن مفردة "الشعبوية" ومفردة "الشعبية" يلتقيان لغويا ً عند جذر واحد، إلا أن الفرق بينما فادح في الأغصان والثمرات. يمكنك أن تسمي الناس شعبا ً حين يتوجهون بإرادتهم الحرة إلى صناديق الانتخابات ليختاروا نوابهم (على ضوء البرامج لا على خلفية العشائرية والعائلية ) لكن نفس الناس حين يتجمعون بملعب كرة القدم يتشاجرون ويتسابون لابد أن تسميهم "غوغاء" أي الجنادب التي تصيح من شدة الحر كم جاء في لسان العرب لابن منظور .. فخطاب الغوغائية البشرية حين يوجه إلى الجانب العاطفي والغريزي عند الناس وليس قدراتهم الفكرية ؛ فإنه يسلبهم صفة الشعب بالمعنى
الاصطلاحي الحديث، وتلك هي المفارقة ، فالشعبية لا يمكن أن تقيم الحكم الديمقراطي إلا بإزاحة الشعبوية عن كاهلها. فإذا تم لها ذلك صار الطريق معبدا ً أمامها شريطة أن تعي أن مصطلح الديمقراطية لا يخلو من إشكاليات، وأنه لا مندوحة من تطويعه ليمارس وظيفته في مجتمعاتنا باستجابة منه لخصوصية التراث ، وفي نفس الوقت دون إخلال بما يتطلبه العقل الكوني من الوفاء بالشروط العلمية لهذا المصطلح ذاته.
الديمقراطية مصطلح إشكالي
لا شك أن النظام الديمقراطي هو حكم يستهدف تحقيق سعادة لأكبر أفراد المجتمع، دون أن يستعبدهم أو يذلهم، إذ يتيح لقسم كبير من الشعب أن يشارك فيه، وأن ينتخب الأشخاص الذين سيحكمونه. فهو إذن مجتمع المساواة والحرية، حيث دولة القانون والفصل بين سلطات الدولة الثلاث، وبهذا يتم تحرير الطاقات الحيوية للإنسان . لكن الإشكالية تبدأ بالقول إن هذه الدولة تقوم على المواطنة لا على الشخصية، ذلك أن المواطنة تعني أن الفرد – الذي بلا ملامح - هو من تتعامل معه الدولة، حيث لا شأن لها بــ " شخصه " إن كان بشوشا ً أم عبوسا ً قمطريراً ، مرح الأعطاف أم نكدياً،
محبا ً لجيرانه أم حقودا ً حسوداً، رجلاً كان أم امرأة ، مسلما ً أم مسيحياً أم ملحدا ً..الخ فهل تفعل الدولة العربية " الحديثة " ذلك؟ كلا فهي تصر على التدخل في تعليم وتربية وتثقيف الناس ، بل وتنسب لنفسها ديناً وكأنها شخص طبيعي، بينما هي في الواقع شخصية اعتبارية لا تموت ولا تبعث يوم القيامة مثل البشر العاديين.
ولأن الديمقراطية لا تولد إلا في مجتمع حر فلقد كان مفترضا ً قيام الدولة "الحديثة" بدعم الفردية Individuality التي هي عامود المواطنة، وأن تدع الشخصيةpersonality ليشكلها الناس بمحض إرادتهم، بيد أن هذا لا يحدث ولن يحدث ما بقيت الدولة العربية الحديثة مقتنعة بفلسفة الهندسة الاجتماعية [ تطبيق الناس على نموذج مسبق التجهيز مثلما ُتطبق المثلثات والزوايا على نظائرها] وهي فلسفة تتعامل مع الكائن الحي بحسبانه مفعولا ً به وليس فاعلا ً، وبذا تخفي الدولة ُ حقيقة ارتيابها في جدارة الديمقراطية مهما تقل بغير ذلك، والأسوأ أن يشارك الدولة في هذا الارتياب
المؤمنون مثلها بفكرة الهندسة الاجتماعية من ناصريين وماركسيين وقوميين وإسلاميين فضلا عن دعاة اللبرالية في جانبها الاقتصادي حسبُ ، ولهذا نرى هؤلاء جميعاً يضمرون قناعتهم بنموذج الحزب الوحيد أو الحزب الواحد المهيمن، بينما في العلن يعرضون عبر خطاب "شعبوي " بضاعة مزجاة تحسبها ديمقراطية وهي في الحقيقة غير ذلك.
الديمقراطية لها تاريخ
افترضنا في موضع سابق أن النظام الديمقراطي نظام للحكم يحقق للشعب حريته. وتلك عبارة لا يعكر عليها سوي بعض الالتباس الواجب رفعه. وقد بدأنا في ذلك حين فرقنا بين " الشعبية" و"الشعبوية" والآن علينا أن نسأل في ضوء المصطلح الأول: ما هو مكان الشعب في التاريخ؟ كان الشعب متمثلاً في جميع أفراد القبيلة والعشيرة في عصر ما قبل الدولة وقبل انقسام المجتمع إلى طبقات. في العصر الفرعوني وسائر الدول القديمة صار الشعب شخصاً واحداً هو الفرعون أو الشاهنشاه أو الملك باعتبار هؤلاء من يمارسون العمل السياسي دون سواهم، أما في العصرين اليوناني والروماني فقد
ظفر "البعض" [ ليس منهم النساء والعبيد] بهذا الحق من خلال الجمعية Assembly في أثينا تحديدا ً، ومن خلال مجلس الشيوخ الروماني Roman Senate المشارك للقياصر والأباطرة في الحكم. وفي ظل الحضارة الغربية الحديثة صار للكل حق ممارسة السياسة دون إقصاء لأحد بسبب الجنس أو الدين أو العقيدة أو اللغة. أما في تاريخنا العربي الإسلامي فقد بدأ مسار الديمقراطية بـإقرار أن مبدأ " الشورى" مقتصر على أهل الحل والعقد (= النخبة السياسية والدينية غير الملزمة آراؤها للحاكم) لينتهي هذا المسار إلى الأخذ بالمفهوم الغربي للمصطلح مع تحفظات مرجعها فلسفة الدولة شبه الدينية،
التي انحرفت – منذ العصر الأموي – عن غايات الشرع الإسلامي ومقاصده : تحرير البشر من الخضوع إلا لمبادئ شريعة الله. وربما تجادل الدولة وتجادل التيارات الدينية والسياسية حول ما يراد بكلمة " مبادئ الشريعة" لكن الأزهر الشريف الحارس الأمين على العقيدة حسم هذا الجدال سياسيا ً وثقافيا ً بما يرضي جميع الأطراف ( إن صحت نواياهم ) وذلك بإصداره لوثيقة " التوفيق بين الإسلام وبين الدولة المدنية " بعد حواره مع رموز ثقافية مشهود لها بالنزاهة ورجاحة العقل.. وهي الوثيقة التي يمكن تفتح الباب أمام المفكرين "الشعبيين" حقاً ممن تجاوزوا السياق
البورجوازي الوضعي إلى ما بعده Post-Bourgeoisie
لإجراء مناقشات علمية بأساليب مبتكرة تستهدف تخليص الذهب والجواهر من تراب العصور الغوابر، وتستهدف على المستوى المعاصر توضيح العلاقة بين فقر وبؤس الطبقات الشعبية من جهة، وبين الرأسمالية العالمية وكتيبتها المحاربة في الشرق الأوسط (إسرائيل) من الجهة الأخرى.
حينئذ فحسب يمكن التأسيس لبناء ديمقراطي لا غش فيه، يعبر عن خصوصية ثقافتنا العربية الإسلامية من دون إعراض عن متطلبات العقل الإنساني في عموميته وشموله.
---------------------------
جريدة القاهرة
كذابون .أما أرسطو فقال : وأنت من أهل كورنثة فلو صدقت عبارتك لكنت كاذبا ً مثل أهل مدينتك ومن ثم فعبارتك كاذبة، وبالتالي فأهل كورنثة ليسوا جميعا ً كاذبين بالضرورة .
اليوم بعدما أسقطت ثورة يناير الحكم الاستبدادي بطغمته الفاسدة لترتفع الأصوات المنادية "بالديمقراطية" من كل فج عميق؛ ينبغي علينا أن نتساءل : ترى من المؤهل لبناء هذه الديمقراطية ؟ الدولة ؟ القوميون ؟ التجمعات اليسارية واللبرالية ؟ الناصريون ؟ التيارات الإسلامية ؟ وربما سبق هذا السؤال َ سؤال ٌ أصرح: هل هذه القوى ديمقراطية حقا ً ؟ أو بعبارة قاسية لكن محددة: كيف توجد ديمقراطية وليس ثمة ديمقراطيون بل محض مهندسون اجتماعيون ؟
إن المغالطة المنطقية المشار إليها آنفا ً تحرض العقل الديمقراطي الأصيل أن يسأل : هل يمكن لأناس أن يقرروا التنازل – بحريتهم – عن حريتهم ؟ الإجابة ذلك هو المحال المنطقي، لأنهم في اللحظة التي أرادوا فيها أن يفعلوا هذا ( طبعا بسبب الدعاية الانتخابية الشعبوية) يكونون قد تنازلوا عن إرادتهم مقدما ً فلا يعتبرون بنص المصطلح شعباً بل مجرد حشد شعبوي. وكيف ُيعد مثل هذا الحشد حاكما ً لنفسه بينما هو يسلم الحاكمية لغيره تحت أي شعار دينيا ً كان أم علمانيا ً؟
أخطار الشعبوية
إن من يعطون دبر آذانهم لهذه الحجة الواضحة إنما يبرهنون على صواب ما ذهبنا إليه طوال الوقت من ضرورة التفرقة بين الشعبية Popularity التي تسعى للحكم سواء بالإصلاح أو بالثورة ، وبين الشعبوية Populism التي لا تشارك أصلا في الإصلاح ولكن تحصر مشاركتها وقت الثورة بفعاليات الهياج والصراخ ضيقاً عنيفا ً بالنظام المراد إسقاطه دون أدنى تصور للنظام الذي سيحل محله. وبينما تفهم الشعبية أن الثورة بقدر ما تهدم المؤسسات القديمة بقدر ما تبني مؤسسات دستورية وقانونية جديدة وأن ذلك له تكاليف باهظة؛ فإن الشعبوية ما تلبث حتى تضيق بـ " فاتورة " الثورة، وما
تقتضيه من تضحيات جسام مثل الصبر على خلخلة ضروس المجتمع القديم، وتحمل أوجاع المشكلات الاقتصادية الناشئة، والقبول بارتفاع الضغط العصبي الناجم عن تصلب شرايين الصراعات السياسية، والتعايش مع أعراض الذبحات الصدرية نتيجة استشراء العنف وتواتر الاغتيالات ... الخ وما دامت الشعبوية غير قادرة على هذه التضحيات فلا يستغرب منها أن تنقلب علي الثورة بنفس الصراخ وأن ترفع عقيرتها مطالبة بالدكتاتور "العادل" متوهمة أنه بسطوته قادر على إعادة النظام وحماية مصالحها الأنانية الرخيصة ولو في المدى القصير!
ورغم أن مفردة "الشعبوية" ومفردة "الشعبية" يلتقيان لغويا ً عند جذر واحد، إلا أن الفرق بينما فادح في الأغصان والثمرات. يمكنك أن تسمي الناس شعبا ً حين يتوجهون بإرادتهم الحرة إلى صناديق الانتخابات ليختاروا نوابهم (على ضوء البرامج لا على خلفية العشائرية والعائلية ) لكن نفس الناس حين يتجمعون بملعب كرة القدم يتشاجرون ويتسابون لابد أن تسميهم "غوغاء" أي الجنادب التي تصيح من شدة الحر كم جاء في لسان العرب لابن منظور .. فخطاب الغوغائية البشرية حين يوجه إلى الجانب العاطفي والغريزي عند الناس وليس قدراتهم الفكرية ؛ فإنه يسلبهم صفة الشعب بالمعنى
الاصطلاحي الحديث، وتلك هي المفارقة ، فالشعبية لا يمكن أن تقيم الحكم الديمقراطي إلا بإزاحة الشعبوية عن كاهلها. فإذا تم لها ذلك صار الطريق معبدا ً أمامها شريطة أن تعي أن مصطلح الديمقراطية لا يخلو من إشكاليات، وأنه لا مندوحة من تطويعه ليمارس وظيفته في مجتمعاتنا باستجابة منه لخصوصية التراث ، وفي نفس الوقت دون إخلال بما يتطلبه العقل الكوني من الوفاء بالشروط العلمية لهذا المصطلح ذاته.
الديمقراطية مصطلح إشكالي
لا شك أن النظام الديمقراطي هو حكم يستهدف تحقيق سعادة لأكبر أفراد المجتمع، دون أن يستعبدهم أو يذلهم، إذ يتيح لقسم كبير من الشعب أن يشارك فيه، وأن ينتخب الأشخاص الذين سيحكمونه. فهو إذن مجتمع المساواة والحرية، حيث دولة القانون والفصل بين سلطات الدولة الثلاث، وبهذا يتم تحرير الطاقات الحيوية للإنسان . لكن الإشكالية تبدأ بالقول إن هذه الدولة تقوم على المواطنة لا على الشخصية، ذلك أن المواطنة تعني أن الفرد – الذي بلا ملامح - هو من تتعامل معه الدولة، حيث لا شأن لها بــ " شخصه " إن كان بشوشا ً أم عبوسا ً قمطريراً ، مرح الأعطاف أم نكدياً،
محبا ً لجيرانه أم حقودا ً حسوداً، رجلاً كان أم امرأة ، مسلما ً أم مسيحياً أم ملحدا ً..الخ فهل تفعل الدولة العربية " الحديثة " ذلك؟ كلا فهي تصر على التدخل في تعليم وتربية وتثقيف الناس ، بل وتنسب لنفسها ديناً وكأنها شخص طبيعي، بينما هي في الواقع شخصية اعتبارية لا تموت ولا تبعث يوم القيامة مثل البشر العاديين.
ولأن الديمقراطية لا تولد إلا في مجتمع حر فلقد كان مفترضا ً قيام الدولة "الحديثة" بدعم الفردية Individuality التي هي عامود المواطنة، وأن تدع الشخصيةpersonality ليشكلها الناس بمحض إرادتهم، بيد أن هذا لا يحدث ولن يحدث ما بقيت الدولة العربية الحديثة مقتنعة بفلسفة الهندسة الاجتماعية [ تطبيق الناس على نموذج مسبق التجهيز مثلما ُتطبق المثلثات والزوايا على نظائرها] وهي فلسفة تتعامل مع الكائن الحي بحسبانه مفعولا ً به وليس فاعلا ً، وبذا تخفي الدولة ُ حقيقة ارتيابها في جدارة الديمقراطية مهما تقل بغير ذلك، والأسوأ أن يشارك الدولة في هذا الارتياب
المؤمنون مثلها بفكرة الهندسة الاجتماعية من ناصريين وماركسيين وقوميين وإسلاميين فضلا عن دعاة اللبرالية في جانبها الاقتصادي حسبُ ، ولهذا نرى هؤلاء جميعاً يضمرون قناعتهم بنموذج الحزب الوحيد أو الحزب الواحد المهيمن، بينما في العلن يعرضون عبر خطاب "شعبوي " بضاعة مزجاة تحسبها ديمقراطية وهي في الحقيقة غير ذلك.
الديمقراطية لها تاريخ
افترضنا في موضع سابق أن النظام الديمقراطي نظام للحكم يحقق للشعب حريته. وتلك عبارة لا يعكر عليها سوي بعض الالتباس الواجب رفعه. وقد بدأنا في ذلك حين فرقنا بين " الشعبية" و"الشعبوية" والآن علينا أن نسأل في ضوء المصطلح الأول: ما هو مكان الشعب في التاريخ؟ كان الشعب متمثلاً في جميع أفراد القبيلة والعشيرة في عصر ما قبل الدولة وقبل انقسام المجتمع إلى طبقات. في العصر الفرعوني وسائر الدول القديمة صار الشعب شخصاً واحداً هو الفرعون أو الشاهنشاه أو الملك باعتبار هؤلاء من يمارسون العمل السياسي دون سواهم، أما في العصرين اليوناني والروماني فقد
ظفر "البعض" [ ليس منهم النساء والعبيد] بهذا الحق من خلال الجمعية Assembly في أثينا تحديدا ً، ومن خلال مجلس الشيوخ الروماني Roman Senate المشارك للقياصر والأباطرة في الحكم. وفي ظل الحضارة الغربية الحديثة صار للكل حق ممارسة السياسة دون إقصاء لأحد بسبب الجنس أو الدين أو العقيدة أو اللغة. أما في تاريخنا العربي الإسلامي فقد بدأ مسار الديمقراطية بـإقرار أن مبدأ " الشورى" مقتصر على أهل الحل والعقد (= النخبة السياسية والدينية غير الملزمة آراؤها للحاكم) لينتهي هذا المسار إلى الأخذ بالمفهوم الغربي للمصطلح مع تحفظات مرجعها فلسفة الدولة شبه الدينية،
التي انحرفت – منذ العصر الأموي – عن غايات الشرع الإسلامي ومقاصده : تحرير البشر من الخضوع إلا لمبادئ شريعة الله. وربما تجادل الدولة وتجادل التيارات الدينية والسياسية حول ما يراد بكلمة " مبادئ الشريعة" لكن الأزهر الشريف الحارس الأمين على العقيدة حسم هذا الجدال سياسيا ً وثقافيا ً بما يرضي جميع الأطراف ( إن صحت نواياهم ) وذلك بإصداره لوثيقة " التوفيق بين الإسلام وبين الدولة المدنية " بعد حواره مع رموز ثقافية مشهود لها بالنزاهة ورجاحة العقل.. وهي الوثيقة التي يمكن تفتح الباب أمام المفكرين "الشعبيين" حقاً ممن تجاوزوا السياق
البورجوازي الوضعي إلى ما بعده Post-Bourgeoisie
لإجراء مناقشات علمية بأساليب مبتكرة تستهدف تخليص الذهب والجواهر من تراب العصور الغوابر، وتستهدف على المستوى المعاصر توضيح العلاقة بين فقر وبؤس الطبقات الشعبية من جهة، وبين الرأسمالية العالمية وكتيبتها المحاربة في الشرق الأوسط (إسرائيل) من الجهة الأخرى.
حينئذ فحسب يمكن التأسيس لبناء ديمقراطي لا غش فيه، يعبر عن خصوصية ثقافتنا العربية الإسلامية من دون إعراض عن متطلبات العقل الإنساني في عموميته وشموله.
---------------------------
جريدة القاهرة