نظرا للصعوبات الاقتصادية التي رافقت الجائحة وأعقبتها اضطررنا لإيقاف أقسام اللغات الأجنبية على أمل ان تعود لاحقا بعد ان تتغير الظروف

الهدهد: صحيفة اليكترونية عربية بخمس لغات عالمية
الهدهد: صحيفة اليكترونية عربية بأربع لغات عالمية
Rss
Facebook
Twitter
App Store
Mobile



عيون المقالات

طرابلس "المضطهدة" بين زمنين

30/10/2024 - د.محيي الدين اللاذقاني

المعارضات السورية... فالج لا تعالج

30/10/2024 - علي العبدالله

إيران وتجرّع كأس السم

30/10/2024 - هدى الحسيني

كيف صارت إيران الحلقة الأضعف؟

23/10/2024 - مروان قبلان

الأسد والقفز بين القوارب

20/10/2024 - صبا مدور

هل ستطول الحرب الإسرائيلية نظام الأسد؟

20/10/2024 - العقيد عبد الجبار عكيدي


هل الحريات تتجزأ






مجموعة من المحامين في مصر رفعوا دعوى قضائية من أجل مصادرة كتاب ألف ليلة وليلة لأنه يحتوي على بعض الألفاظ الخادشة للحياء.. الواضح أن هؤلاء المحامين لم يقرأوا كتب التراث لأن معظمها يحتوى على ألفاظ مكشوفة في وصف العلاقة بين الرجل والمرأة: كتاب الأغاني لأبي الفرج الأصفهاني وكتاب الإمتاع والمؤانسة لأبي حيان التوحيدي وغيرهما. بل إن الجاحظ (159ـ هجرية) وهو أمير النثر العربي بلا منازع، له رسالة شهيرة بعنوان «مفاخرة بين أصحاب الغلمان وأصحاب الجواري». يتحاور فيها رجل يحب الغلمان مع رجل يحب النساء، الرسالة تحتوى على ألفاظ مكشوفة لكنها تظل مع ذلك نصا أدبيا جميلا ورفيعا.. إن ممارسة الرقابة على تراثنا الأدبي العربي تفتح بابا جهنميا لتدميره وتشويهه، الواجب أن نحافظ على تراثنا العظيم كما هو على أن نطبع نسخات منقحة يمكن تدريسها للنشء والصغار، مع الحفاظ على النصوص الأصلية بدون أي تغيير أو حذف..ا


كان هذا رأيي ولذلك فقد تحمست وانضممت للمدافعين عن حرية التعبير الأدبي ضد الرقابة والأفكار الرجعية، على أن المفارقة قد حدثت بعد ذلك.. ففي وسط معركة المثقفين دفاعا عن كتاب ألف ليلة وليلة أعلنت الحكومة المصرية تمديد قانون الطوارئ ما يعنى تعطيل القانون الطبيعي الذي يحمي حرية المصريين وكرامتهم..ا
هنا كنت أتوقع من فرسان الحرية المدافعين عن ألف ليلة وليلة، أن يستميتوا في الدفاع عن الحريات العامة.. لكن ذلك لم يحدث للأسف.. كثير من المثقفين الذين يدافعون اليوم عن ألف ليلة وليلة لا يفتحون أفواههم أبدا احتجاجا على تزوير الانتخابات أو الاعتقال أو التعذيب وكلها جرائم بشعة يرتكبها نظام مبارك في حق ملايين المصريين.. من هنا وجدتني أتساءل: هل الحريات تتجزأ..؟ هل يمكن الدفاع عن حرية الإبداع بعيدا عن الحريات العامة..؟ هل يمكن أن ينحصر دور المثقف في الدفاع عن كل ما يخص الكتابة بينما يسكت تماما عما يخص الوطن والناس..؟

من المؤسف أن نضطر الى طرح هذه الأسئلة، في الدنيا كلها وفي بلادنا في زمن سابق، كان المثقف يتخذ دائما موقفا متماسكا في الدفاع الشامل عن الحق والعدل والحرية.. الأمثلة بلا حصر.. عباس العقاد وطه حسين و ألفريد فرج و عبد الرحمن الشرقاوي من الأدباء العرب وفي الغرب. ألبير كامو و جون بول سارتر و برتراند راسل وغابرييل غارسيا ماركيز و جوزيه ساراماغو و بابلو نيرودا وغيرهم كثيرون من كبار المبدعين الذين وقفوا بصلابة ضد الظلم والاستبداد وكثيرا ما دفعوا ثمنا باهظا لمواقفهم.. بل إن أهم روائي في تاريخ الأدب، الكاتب الروسي العظيم فيودور ديستويفسكي (1821ـ 1881).. انخرط في العمل العام وانضم الى تنظيم سري من أجل إنهاء النظام الملكي في روسيا ما أدى الى القبض عليه والحكم بإعدامه ثم خفف الحكم في آخر لحظة الى السجن أربع سنوات في سيبيريا.ا

إن الإبداع الأدبي في جوهره دفاع عن القيم الإنسانية النبيلة، فكيف يدافع الأديب في كتبه عن الحرية ثم يسكت عن انتهاكها في حياته اليومية. إن المثقف الذي يضع موهبته في خدمة الطغاة ولا يعترض أبدا على الظلم والفساد ونهب المال العام وقمع الأبرياء وفي نفس الوقت يثور بشدة دفاعا عن قصيدة ممنوعة من النشر أو كتاب صُودر، لا بد أن يفقد مصداقيته تماما.. والدليل على ذلك ما حدث مؤخرا في ليبيا حيث أدرك المسؤولون أن سمعة نظام القذافي سيئة للغاية حيث جرى اعتقال وتعذيب وتشريد وقتل عشرات الألوف من الليبيين الأبرياء لمجرد أنهم يحملون أفكارا معارضة لسياسات العقيد القذافي (الذي قرر مؤخرا أن يمنح نفسه لقب ملك ملوك أفريقيا)..ا
أراد المسؤولون الليبيون أن يفعلوا شيئا لتبييض وجه نظامهم أمام العالم ولأن ليبيا بلد نفطي ثري ولأن أموال الشعب الليبي تحت يد العقيد القذافي ينفق منها كما يشاء بلا حسيب ولا رقيب، فقد أنشئت جائزة أدبية كبرى اسمها جائزة القذافي للآداب العالمية قيمتها 150 ألف يورو، تمنح كل عام الى أديب عالمي كبير من أجل تحسين صورة النظام الليبي..ا

وفي أول دورة للجائزة تم اختيار الروائي الأسباني الكبير خوان جوي تيسولو (79 عاما) الذي يعتبره النقاد أهم روائي أسباني على قيد الحياة.. وقد عانى جوي تيسولو نفسه من القمع حيث قتل نظام الدكتاتور فرانكو أمه وهو طفل وأجبره على أن يعيش معظم حياته في المنفى. كما أن جوي تيسولو من أكبر المدافعين عن الديموقراطية والحرية ومن أكبر المناصرين للحقوق العربية وهو محب للثقافة العربية الى درجة أنه يقيم في مراكش بصفة دائمة منذ سنوات. .. اتصل المسؤولون الليبيون بالروائي جوي تيسولو فهنأوه وأبلغوه بأنه قد فاز بجائزة القذافي للآداب العالمية فما كان منه إلا أن كتب خطابا إلى لجنة التحكيم، شكر فيه أعضاء اللجنة الذين منحوه الجائزة ثم قال ما معناه:ا

«لقد قضيت عمري أدافع عن حق الشعوب العربية في العدالة والحرية ووقفت بكل قوة ضد الأنظمة المستبدة التي أدت بفسادها وظلمها الى إبقاء ملايين العرب في براثن الجهل والفقر.. أنا لا أستطيع أبدا أن أقبل جائزة ممنوحة من العقيد القذافي الذي اغتصب السلطة بالقوة وأقام نظاما استبداديا مارس الاعتقال والتعذيب والقتل ضد الليبيين الأبرياء.. أنا أرفض هذه الجائزة لأنها ببساطة تتناقض مع كل ما أؤمن به من مبادئ».ا

كان هذا الرفض صفعة مدوية للنظام الليبي سمع صداها في العالم كله، وخصصت جريدة الإندبندت الإنكليزية موضوعا طويلا كتبه بويد تونكين من أجل تحية الموقف العظيم للروائي جوي تيسولو الذي وصفته بأنه «يمارس دور الكاتب الحقيقي باعتباره الضمير الحي للإنسانية الذي يقف دائما ضد القوى الظالمة..» بل إن عشرات المثقفين الليبيين في المنفى وجهوا رسالة شكر الى جوي تيسولو كتبوا فيها: «انك برفضك المعلن لجائزة القذافي العالمية للآداب في أولى إصداراتها، وبرغم عرضها المالي المغري، قد وجهت صفعة ضميرية
للدكتاتور القذافي الذي اعتقد أنه بأموال الليبيين المنهوبة يستطيع أن يشترى ضمائر المثقفين الحية»..ا
هكذا وقع المسؤولون عن جائزة القذافي في ورطة كبيرة : فلو أنهم ألغوا الجائزة ستكون فضيحة ولو أنهم عرضوها على كاتب عالمي آخر فمن الوارد جدا أن يرفضها كما فعل جوي تيسولو، عندئذ ستكون الفضيحة مضاعفة. وبالرغم من أن الجائزة مخصصة أساسا لأديب عالمي كبير إلا أن المنظمين تغاضوا عن هذا الشرط وبحثوا عن شخصية عربية توافق على قبول الجائزة, وقد وجدوا ضالتهم في الناقد المصري جابر عصفور فأعلنوا فوزه بالجائزة.ا
وقد تغاضى السيد عصفور، للأسف، عن كل هذا السياق وذهب إلى ليبيا واستلم الجائزة في احتفال كبير أثنى فيه عصفور بالطبع على قائد الثورة الليبية (ملك ملوك أفريقيا) وأشاد بالحرية العظيمة التي ينعم بها الليبيون. لم يستشعر جابر عصفور أدنى خجل وهو يتسلم جائزة رفضها قبله كاتب عالمي كبير تضامنا مع الشعب الليبي ضد نظام القذافي الاستبدادي لكن مبلغ مئة وخمسين ألف يورو، كان في ما يبدو أكبر من قدرة عصفور على المقاومة.. العجيب أن الأخ عصفور بعد أن قبض الشيك من القذافي عاد الى مصر بسرعة لكي يعقد ندوات حماسية موسعة من أجل الدفاع عن كتاب ألف ليلة وليلة.. هل يمكن أن نصدق جابر عصفور بعد ذلك في دفاعه عن حرية الإبداع..؟ إن الحريات لا تتجزأ. لا يمكن أن ندافع عن حرية الإبداع بمعزل عن بقية الحريات العامة..ا

إن حرية الإبداع ـعلى أهميتها الكبرىـ لا تكتسب قيمتها إلا في سياق الدفاع عن حقوق الناس وحريتهم وكرامتهم.. إن الفرق بين موقف جابر عصفور وموقف الروائي جوي تيسولو، هو بالضبط الفرق بين المصالح والمبادئ، بين الباطل والحق.. عندما يفعل مثقفونا جميعا مثل جوي تيسولو. عندئذ فقط سوف ينتهي الاستبداد ويبدأ المستقبل.ا
.. الديموقراطية هي الحل ..
------------------------------
الشروق - المصري اليوم

علاء الاسواني
الاربعاء 19 ماي 2010