دراسات كثيرة بُنيت على أسس مشروع الجابري، لعل أهمها جهود جورج طرابيشي، وإن انتقده الفيلسوف أحمد برقاوي على متابعته العميقة لجهود الجابري والتي يكفيها برأيه مقالين فحسب!.
صحيح أن الجابري تحدث عن عصر التدوين بعد المائة الأولى من التقويم الهجري واعتبره المُكونُ للثقافة العربية، وأن النُّظم المعرفية التي شاركت في تشكيل العقل العربي هي النظام البياني الذي مثلته الأيدلوجية السنية، والنظام البرهاني الذي أرسى قواعده الفلاسفة المسلمين بدء من الكندي والفارابي، والنظام العرفاني الذي مثلته الأيدلوجية الشيعية، ليعتبر أن الثقافة نفسها للعقل العربي مازالت سائدة في ثقافتنا اليوم عبر النظام البياني والعرفاني، مما يجعلنا بحاجة لتفعيل النظام البرهاني عبر عصر تدوين جديد، حسب رؤيته.
ومهما يكن من أمر بخصوص مشروع الجابري، فإن قيمة مشروعه تبقى في اعتباره أن النقد خطوة جوهرية نحو التقدم، وجزء أساسي من مشروع النهضة، كما هدف بمشروعه الناقد إلى تحرير العقل العربي من القيود والطائفية، وتشجيع التفكير الحر والمستقل.
في الحالة السورية ارتباط وثيق مع مخرجات الجابري باعتبار العقل السوري عقلا عربياً مُتأثراً بفضاءه المعرفي! ولكن وبتكبير الصورة فإنه يمكن أن نجد ملفات كثيرة تحتاج نقداً، لعل أهمها كما يبدو هي نزوع السوري نحو فكرة الهدم! لكن مما يجدر الإشارة إليه أنه لا يمكن تحميل الطرف المتورط بالهدم، وربما الساعي باتجاهه المسؤولية الكاملة عن أي هدم حصل ويحصل! بل المسؤولية تقع مشتركة كما يبدو بوضوح مع الطرف الدافع بشدة نحو اعتناق فكرة الهدم وربما تمكينه الأدوات اللازمة لذلك.
ففي عام 2012، وبعد الحراك السلمي 2011م، بدأت الأصوات السورية تنتقل بشكل لافت نحو المطالبة بهدم النظام السوري، فانتقلنا من مرحلة الدعوة للاصلاح وتقديم خطوات عملية تُدلل على ذلك، إلى مرحلة إسقاطه عسكرياً، كانت نتيجته تدميراً ونزوحاً من جانب، واعتقالات ودماء لا يمكن وصفها من جانب آخر.
ولابد من التأكيد مجدداً أن الشعب السوري لا يتحمل مسؤولية ما حدث وحده، بل إن النظام السوري أيضا يتحمل المسؤولية الأكبر في جر الشعب إلى تبني قرار الهدم والسعي إليه، يتمظهر ذلك بتطور حراك السويداء الأخير والذي بدأ بمطالب إصلاحية، وهو اليوم يبدأ بمرحلة خطيرة، فسقوط الدم هناك جعل الصوت يرتفع بإسقاط النظام السوري وهدمه! ولا ندري هل يتطور المشهد لحمل السلاح مثلاً، أم يستمر حاله على التزام دعوات المرجعية الدينية في جبل العرب بالتزام السلمية؟ ما يعني دخولنا في نفق مظلم لن نستطيع الخروج منه، وبالتالي فلن يكون هناك رابح!
بعد 2013م بدأت الأصوات تنتقل نحو تغيير الجيش الحر، ومع بروز الحركات الاسلامية، أصبح خطاب الهدم واضحاً عبر شعار: “مابدنا جيش حر ولا جيش نظامي، بدنا الجيش الاسلامي”، فصرنا أمام صراع صفري تجلى بإفناء جبهة النصرة لعشرات الفصائل العسكرية أهمها جبهة ثوار سورية وحركة حزم.
بعد 2014 رأينا نفس تلك العقلية مع تنظيم الدولة الإسلامية وجبهة النصرة أيضاً.
وبعد استيلاء قوات سورية الديمقراطية على المناطق الشرقية لسورية، رفعت المعارضة السورية الصوت عالياً بضرورة قطع العلاقات مع قسد، وضرورة هدم مشروعها.
وكما سعت هيئة تحرير الشام لمحاربة المعارضة السورية في الشمال الغربي، وبالمقابل، وبعد بروز مشكلة العمالة للتحالف لدى هيئة تحرير الشام، بدأت مظاهرات شعبية تنادي بهدم مشروع الهيئة.
كذلك الحال مع الائتلاف الوطني لقوى الثورة والمعارضة السورية والذي تأسس في قطر عام 2012، إلى أن تعالت الصيحات بإصلاحه، حتى بلغنا اليوم مرحلة الدعوة لإسقاطه وهدمه بالكامل!
وإذا أشحنا النظر عن كل ذلك إلى النشطاء والنخب والمفكرين والتيارات غير المنضوية بسلطات الأمر الواقع، فإننا نرى بقاء فكرة هدم تلك السلطات، واعتبار الحل يبدأ بخلعها وسحقها جميعاً، يُلاحظ ذلك عبر المساحات في تويتر، والتي يقوم بها النشطاء بالتعبير عن أنفسهم.
إذاً نحن أمام عقلية سورية صبغتها فكرة “الهدم”، وجعلتها مُنطلقاً لكل التحركات السورية المختلفة.
ما الذي يجابه تلك العقلية؟
لاشك أن الفكر لا يقارع إلا بالفكر، ومتى تغيرت أسس التنظير تغيرت التفاعلات مع الواقع، لهذا فإن مايُمكن التوصية به هنا هو ضرورة وجود نخب ومفكرين مهمتهم الحفر بعقلية باردة، يستخدمون أدوات واقعية عبر هذه المحددات:
1- الابتعاد عن الخطاب الشعبوي، والذي يسعى لإرضاء النظرة الرغبوية لدى الجمهور السوري أو الحاضنة الشعبية.
2- النظر إلى المآل المستقبلي.
3- ترك الانحيازات الشخصية.
4- العمل على ترسيخ المصلحة الوطنية السورية، حسب معطيات الممكن الواقعي، وليس المصلحة الفئوية أو المناطقية أو العشائرية ..
5- دعم أي تحرك جيد من قبل أي سلطة من سلطات الأمر الواقع، (إصلاح مخابرات الأسد مثلاً، والتي يزعم أنه سيجعلها تدور في مصلحة المواطن لا ضده)، (إصلاح الملف الاقتصادي والأمني في هيئة تحرير الشام التي تقوم به حالياً)، (العقد الاجتماعي لقسد)، (مأسسة فصائل الجيش الوطني، والسعي الجاد لإنشاء تطور اقتصادي عبر مشروع الاستثمار الأخير)، (سيناريو ألمانيا الغربية والأرض الحرام التي أطلقتها المبادرة السورية الأمريكية SAI ممثلة بمنظمة غلوبال جستس السورية الأمريكية والتحالف العربي الديموقراطي)، إصلاح الائتلاف الوطني السوري المعارض وتوسعته. إلخ).
6- توحيد الأهداف نحو مقصد بناء الدولة الوطنية الحديثة، التي تُرسخ العمل المؤسساتي.
من خلال تلكم المحددات فإننا سنكون أمام ربط انحيازاتنا بأهداف استراتيجية وسامية في آنٍ معاً، وربما يتفق عليها أغلب السوريين.
كما ونتخلص من فكرة الهدم، لمصلحة أفكار البناء على الموجود والمشتركات، وأن يكون لدينا باستمرار أفكار موازية (نعمل عليها مع شركائنا) تضييقاً لرقعة فكرة الهدم، والتي رافقت عقليتنا السورية، بحيث نستفرغ الوسع في البناء على ما هو إيجابي وممكن وموجود، بدل البناء من الصفر! فالحل الأنجع -وهو ما اتخذه تيار المستقبل السوري منهجا- يكمن في إصلاح الواقع والبناء عليه، حيث يبدو أقل كلفة وأكثر فائدة.
إذا كان العقل العربي بحسب الجابري مهموماً بالخطاب البياني الشاعري والعاطفي الذي ينظر لفكرة “لنا الصّدر دون العالمين أو القبر”، ومهموم بالخطاب العرفاني نحو مثالية مغرقة، وبعيدة عن الواقع، فإن الخطاب البرهاني الذي ينظر للواقع، ويبحث عن حلول ممكنة غير المستحيلة، تجعلنا نستفيد منه في ترك فكرة الهدم الصفري، والاتجاه نحو البناء على الموجود وإصلاحه حتى نصل لمرحلة بناء الدولة السورية الحديثة.
-------------
صحيح أن الجابري تحدث عن عصر التدوين بعد المائة الأولى من التقويم الهجري واعتبره المُكونُ للثقافة العربية، وأن النُّظم المعرفية التي شاركت في تشكيل العقل العربي هي النظام البياني الذي مثلته الأيدلوجية السنية، والنظام البرهاني الذي أرسى قواعده الفلاسفة المسلمين بدء من الكندي والفارابي، والنظام العرفاني الذي مثلته الأيدلوجية الشيعية، ليعتبر أن الثقافة نفسها للعقل العربي مازالت سائدة في ثقافتنا اليوم عبر النظام البياني والعرفاني، مما يجعلنا بحاجة لتفعيل النظام البرهاني عبر عصر تدوين جديد، حسب رؤيته.
ومهما يكن من أمر بخصوص مشروع الجابري، فإن قيمة مشروعه تبقى في اعتباره أن النقد خطوة جوهرية نحو التقدم، وجزء أساسي من مشروع النهضة، كما هدف بمشروعه الناقد إلى تحرير العقل العربي من القيود والطائفية، وتشجيع التفكير الحر والمستقل.
في الحالة السورية ارتباط وثيق مع مخرجات الجابري باعتبار العقل السوري عقلا عربياً مُتأثراً بفضاءه المعرفي! ولكن وبتكبير الصورة فإنه يمكن أن نجد ملفات كثيرة تحتاج نقداً، لعل أهمها كما يبدو هي نزوع السوري نحو فكرة الهدم! لكن مما يجدر الإشارة إليه أنه لا يمكن تحميل الطرف المتورط بالهدم، وربما الساعي باتجاهه المسؤولية الكاملة عن أي هدم حصل ويحصل! بل المسؤولية تقع مشتركة كما يبدو بوضوح مع الطرف الدافع بشدة نحو اعتناق فكرة الهدم وربما تمكينه الأدوات اللازمة لذلك.
ففي عام 2012، وبعد الحراك السلمي 2011م، بدأت الأصوات السورية تنتقل بشكل لافت نحو المطالبة بهدم النظام السوري، فانتقلنا من مرحلة الدعوة للاصلاح وتقديم خطوات عملية تُدلل على ذلك، إلى مرحلة إسقاطه عسكرياً، كانت نتيجته تدميراً ونزوحاً من جانب، واعتقالات ودماء لا يمكن وصفها من جانب آخر.
ولابد من التأكيد مجدداً أن الشعب السوري لا يتحمل مسؤولية ما حدث وحده، بل إن النظام السوري أيضا يتحمل المسؤولية الأكبر في جر الشعب إلى تبني قرار الهدم والسعي إليه، يتمظهر ذلك بتطور حراك السويداء الأخير والذي بدأ بمطالب إصلاحية، وهو اليوم يبدأ بمرحلة خطيرة، فسقوط الدم هناك جعل الصوت يرتفع بإسقاط النظام السوري وهدمه! ولا ندري هل يتطور المشهد لحمل السلاح مثلاً، أم يستمر حاله على التزام دعوات المرجعية الدينية في جبل العرب بالتزام السلمية؟ ما يعني دخولنا في نفق مظلم لن نستطيع الخروج منه، وبالتالي فلن يكون هناك رابح!
بعد 2013م بدأت الأصوات تنتقل نحو تغيير الجيش الحر، ومع بروز الحركات الاسلامية، أصبح خطاب الهدم واضحاً عبر شعار: “مابدنا جيش حر ولا جيش نظامي، بدنا الجيش الاسلامي”، فصرنا أمام صراع صفري تجلى بإفناء جبهة النصرة لعشرات الفصائل العسكرية أهمها جبهة ثوار سورية وحركة حزم.
بعد 2014 رأينا نفس تلك العقلية مع تنظيم الدولة الإسلامية وجبهة النصرة أيضاً.
وبعد استيلاء قوات سورية الديمقراطية على المناطق الشرقية لسورية، رفعت المعارضة السورية الصوت عالياً بضرورة قطع العلاقات مع قسد، وضرورة هدم مشروعها.
وكما سعت هيئة تحرير الشام لمحاربة المعارضة السورية في الشمال الغربي، وبالمقابل، وبعد بروز مشكلة العمالة للتحالف لدى هيئة تحرير الشام، بدأت مظاهرات شعبية تنادي بهدم مشروع الهيئة.
كذلك الحال مع الائتلاف الوطني لقوى الثورة والمعارضة السورية والذي تأسس في قطر عام 2012، إلى أن تعالت الصيحات بإصلاحه، حتى بلغنا اليوم مرحلة الدعوة لإسقاطه وهدمه بالكامل!
وإذا أشحنا النظر عن كل ذلك إلى النشطاء والنخب والمفكرين والتيارات غير المنضوية بسلطات الأمر الواقع، فإننا نرى بقاء فكرة هدم تلك السلطات، واعتبار الحل يبدأ بخلعها وسحقها جميعاً، يُلاحظ ذلك عبر المساحات في تويتر، والتي يقوم بها النشطاء بالتعبير عن أنفسهم.
إذاً نحن أمام عقلية سورية صبغتها فكرة “الهدم”، وجعلتها مُنطلقاً لكل التحركات السورية المختلفة.
ما الذي يجابه تلك العقلية؟
لاشك أن الفكر لا يقارع إلا بالفكر، ومتى تغيرت أسس التنظير تغيرت التفاعلات مع الواقع، لهذا فإن مايُمكن التوصية به هنا هو ضرورة وجود نخب ومفكرين مهمتهم الحفر بعقلية باردة، يستخدمون أدوات واقعية عبر هذه المحددات:
1- الابتعاد عن الخطاب الشعبوي، والذي يسعى لإرضاء النظرة الرغبوية لدى الجمهور السوري أو الحاضنة الشعبية.
2- النظر إلى المآل المستقبلي.
3- ترك الانحيازات الشخصية.
4- العمل على ترسيخ المصلحة الوطنية السورية، حسب معطيات الممكن الواقعي، وليس المصلحة الفئوية أو المناطقية أو العشائرية ..
5- دعم أي تحرك جيد من قبل أي سلطة من سلطات الأمر الواقع، (إصلاح مخابرات الأسد مثلاً، والتي يزعم أنه سيجعلها تدور في مصلحة المواطن لا ضده)، (إصلاح الملف الاقتصادي والأمني في هيئة تحرير الشام التي تقوم به حالياً)، (العقد الاجتماعي لقسد)، (مأسسة فصائل الجيش الوطني، والسعي الجاد لإنشاء تطور اقتصادي عبر مشروع الاستثمار الأخير)، (سيناريو ألمانيا الغربية والأرض الحرام التي أطلقتها المبادرة السورية الأمريكية SAI ممثلة بمنظمة غلوبال جستس السورية الأمريكية والتحالف العربي الديموقراطي)، إصلاح الائتلاف الوطني السوري المعارض وتوسعته. إلخ).
6- توحيد الأهداف نحو مقصد بناء الدولة الوطنية الحديثة، التي تُرسخ العمل المؤسساتي.
من خلال تلكم المحددات فإننا سنكون أمام ربط انحيازاتنا بأهداف استراتيجية وسامية في آنٍ معاً، وربما يتفق عليها أغلب السوريين.
كما ونتخلص من فكرة الهدم، لمصلحة أفكار البناء على الموجود والمشتركات، وأن يكون لدينا باستمرار أفكار موازية (نعمل عليها مع شركائنا) تضييقاً لرقعة فكرة الهدم، والتي رافقت عقليتنا السورية، بحيث نستفرغ الوسع في البناء على ما هو إيجابي وممكن وموجود، بدل البناء من الصفر! فالحل الأنجع -وهو ما اتخذه تيار المستقبل السوري منهجا- يكمن في إصلاح الواقع والبناء عليه، حيث يبدو أقل كلفة وأكثر فائدة.
إذا كان العقل العربي بحسب الجابري مهموماً بالخطاب البياني الشاعري والعاطفي الذي ينظر لفكرة “لنا الصّدر دون العالمين أو القبر”، ومهموم بالخطاب العرفاني نحو مثالية مغرقة، وبعيدة عن الواقع، فإن الخطاب البرهاني الذي ينظر للواقع، ويبحث عن حلول ممكنة غير المستحيلة، تجعلنا نستفيد منه في ترك فكرة الهدم الصفري، والاتجاه نحو البناء على الموجود وإصلاحه حتى نصل لمرحلة بناء الدولة السورية الحديثة.
-------------
المكتب العلمي
تيار المستقبل السوري