نظرا للصعوبات الاقتصادية التي رافقت الجائحة وأعقبتها اضطررنا لإيقاف أقسام اللغات الأجنبية على أمل ان تعود لاحقا بعد ان تتغير الظروف

الهدهد: صحيفة اليكترونية عربية بخمس لغات عالمية
الهدهد: صحيفة اليكترونية عربية بأربع لغات عالمية
Rss
Facebook
Twitter
App Store
Mobile



عيون المقالات

المهمة الفاشلة لهوكستين

23/11/2024 - حازم الأمين

العالم والشرق الأوسط بعد فوز ترامب

17/11/2024 - العميد الركن مصطفى الشيخ

إنّه سلام ما بعده سلام!

17/11/2024 - سمير التقي

( ألم يحنِ الوقتُ لنفهم الدرس؟ )

13/11/2024 - عبد الباسط سيدا*

طرابلس "المضطهدة" بين زمنين

13/11/2024 - د.محيي الدين اللاذقاني

اليونيسيف ومافيا آل كابوني دمشق

12/11/2024 - عبد الناصر حوشان


مواسم الهجوم على وزارة الثقافة






ذات يوم قال المتنبي : ُخلقت ألوفا ً لو رجعت إلى الصبا / لفارقت شيبي موجع القلب باكيا .
إنما هذا المعنى بالغ الرهافة واللطف ليس مما يمكن سحبه على كثير من أنواع الألفة وبالذات تلك التي تسبب الضجر وتشي بالخطر .


من هذا النوع السالب ما ألفه الناس في مصر من مواسم تقودها طيورٌ أبابيل ُ تحمل حجارتها المسنونة لتلقيها على صرح - ُعرف باسم وزارة الثقافة - طالما صمد في وجه رياح التشرذم المنذر بالفوضى ، وطالما انكسرت على قلاعه العواصف التي تريد للدولة أن تتخلى عن دورها المحايث لشروط العصر، والمتمثل في ضرورة تواجدها بين مؤسسات الإنتاج المادي والفكري ، دعما ً لها ورعاية لفاعليها . ولقد كان لمواسم الهجوم السابقة أسبابها ورجالها ، نذكر منهم الأديب الكبير الراحل ثروت أباظة ، كما كان لها أيضا ً من قام بتفريغ صواعقها من شحناتها الكهربائية العنيفة (لويس عوض مثالا ً لا حصرا ً)

أما موسم الهجوم الحالي على هذا الصرح الصامد، فلقد بدأ في أعقاب انتفاضة يناير 2011 وهو هجوم يندرج تحت لوائح مستويات متعددة ، أولها معتاد صدوره عن توجهات مذهبية معروفة بميولها الفاشية المعادية لكل توجه يعلى من شأن التنوع الثقافي ، انطلاقا ً من عدم إيمان الفاشية إلا بالرأي الواحد ، تفرضه على الكل بالإرهاب الفكري تارة وبالتضليل تارة حتى ُيصفّ الناس ُ جميعا في الحزب الأوحد المعبر – حسب كلامها – عن روح الأمة في الماضي والحاضر والمستقبل .

المستوى الثاني في هجوم الفترة الراهنة هو أقرب إلى مماحكات السياسة والمنازعات المجتمعية منه إلى الخلافات الفكرية ذات الاستحقاق النقدي المجرد عن الهوى والمصالح الذاتية ، وهو هجوم بالطبع ينحسر بمجرد أن ينال أصحابه مشتهاهم . ويتمثل هذا الصنف الهجومي في إنتاج البعض لأجندة تضع على رأس صفحاتها تصفية حساباتها الخاصة مع رموز شغلت منصب الوزارة قبل مجيء الوزير الحالي عماد أبو غازي ، وهي حركة التفافية تغترض دفع الوزير الجديد للتبرؤ من التيار الذي أوصله بشكل طبيعي إلى قيادة المجلس الأعلى للثقافة ومنها إلى قيادة الوزارة جميعا؛ وبذلك فإن التصفية الحسابية هذه – لو تمت - فإنها لا غرو تؤدي إلى خلخلة مرتكزات الوزير الجديد وإبعاده عن منابعه الفكرية، فلا يجد أمامه من بد سوى التعاطي مع أصحاب هذه الأجندة دون غيرهم.

ولقد يرى كاتب هذه السطور أن شن هجوم مضاد على أرضية هذا المستوى الثاني لا يمكن أن يخدم قضية الثقافة القومية بحال من الأحوال ؛ ففضلا عن أن عراك الأطراف حول المناصب أمر لا يعني سوى أصحابه ، فإنه لاشك يفاقم من عربدة النوازع الإنسانية بما تتضمنه من رضا وضيق ، إقبال وعزوف ، تصالح وخصومات ...الخ ملقيا ً بها في أتون مصادمات لا تفيد منها بحال ٍ ثقافة ُ الديمقراطية – على تنوع توجهات أصحابها – وإنما يجنى ثمارها أعداء الثقافة وحدهم : الفاشست الجاهزون لركوب حصان الانتخابات ، الحصان الذي سيذبحونه فور توصيله إياهم للسلطة ، وبعد أن يكون قد لعب الدور "الطروادي " في التسلل إلى جمهورية " فيمار" المصرية ، وتحطيمها بمثل ما حطم الحزب النازي في ثلاثينات القرن الماضي جمهورية " فيمار" الألمانية .

ذلك ما ينبغي للمثقفين المصريين أن يعوه تماما ً ، وإلا فلن يبقى أمامهم سوى أن يستكملوا مناقشة خلافاتهم حول وزارة الثقافة على إسفلت هذا المستوي الثاني في " بوخنوالد " الواحات .

فلسفة العمل الثقافي

ذلك هو مناط المستوى الثالث فيما ينبغي أن ُيتصور أن يكون مصدر الهجوم ، وهو مصدر يستحق الوقوف عنده ومناقشته لأنه يعبر عن نزعة تنتمي لتيار ما بعد الحداثة Post-Modernism التيار الذي ُيصب في عدمية Nihilism فلسفية بالمعنى الذي طلبه وألح عليه نيتشه بقوله "عيشوا في خطر " وبنحته لتعبير "النسيان الإرادي " المراد به قطع كل صلة بين المستقبل ، ما سوف يمثله الإنسان الأعلى Supper Man وبين الإنسان الحالي بحسبانه – في رؤية نيتشه - أضحوكة وعارا ً مؤلما ً!

والحاصل أن ذلك التيار الذي غرس بذرته فشل ُ ثورة الطلاب الفرنسيين والمعروفة باسم ثورة آيار/ مايو 1968 ما لبث حتى أثمر وازدهر مع انتهاء أزمة السبعينات المالية وبزوغ مرحلة رخاء هائلة – بفضل البترول العربي – ومن ثم ظهور ما بات يسمى بمجتمع الاستعراض Aspectual Society الذي تعرض لنقد قاس من جانب مذهب "التحديث الجديد " Neo -Modernity بقيادة يوجين هابرماس الفيلسوف الذي ما انفك يؤكد على أن نمطا ً تطوريا ً لا يمكن أن ينهض على القطيعة الثقافية الكاملة ، وهو القول الذي سنفصله في موضع قادم من هذا المقال .

مبادرة إنصاف

والحق أننا لا نجد من المهاجمين الحاليين من التفت إلى هذا التنازع الفكري والمذهبي الأوربي - رغم أهميته الفائقة - التفاتا ً جوهريا ً في معرض انتقاده وزارة الثقافة المصرية أو شخص وزيرها الحالي أو وزيريها السابقين ، وإنما جرت الإشارة إليه بشكل خاطف على هامش الهجوم الدوريّ المعتاد ، إلا أن الإشارة أحيانا ً تكفي اللبيب ليلتقطها ويدرك مغزاها وخطورتها ، ومن ثم يجد من أوليات واجباته أن يتصدى لها نقدا ً وتفنيدا ً. ولكن قبل أن نمضي قدما لهذه المهمة نرى من الإنصاف أن نسجل للوزير الأسبق – الفنان فاروق حسني – توظيفه رؤيته الجمالية ( = منتجه التشكيلي الذاتي) لصالح فلسفة العمل الوزاري الذي كلف به ، تغييرا ً وتجميلا ً للفضاء المعماري : المتاحف وقصور الثقافة ومراكز الإبداع والمكتبات وتحديث أطر الآثار الفرعونية والمسيحية والإسلامية ...الخ كي يتسع هذا الفضاء لكل التنويعات والاتجاهات الثقافية ممثلة في المجلس الأعلى للثقافة والمجلس الأعلى للآثار ومهرجاني القاهرة والإسكندرية السينمائيين ومهرجان المسرح التجريبي فيما يشبه تراكم فائض القيمة لتنمية الرأسمال الرمزي في عالم الثقافة .

وأما الوزير السابق الناقد جابر عصفور فلا ينكر إلا جاحد دوره في تفعيل دعوة طه حسين لربط الثقافة المصرية ببيئتها الطبيعية تاريخيا ً وجغرافيا ً توجها ً نحو العالم المعاصر خاصة حداثة أوروبا .

وبينما ينطلق الوزير الحالي عماد أبو غازي من هذا التأسيس الثنائي دون تناقض ، فإن رؤى أبو غازي إنما تتجذر في عمق ثقافة المحيط Peripheryالمواجهة لصلف واستعلاء المركزية الأوربية ، حيث يرى أبو غازي أن نقاط تماس واضحة تقارب بين تاريخ مصر المحلي وبين التواريخ المشابهة في قارة آسيا التي صدّرت إلينا حقبة كاملة من حكم عسكر أرقاء ، صاروا عندنا أمراء وملوكا ً (انظر كتابه تطور الحيازة الزراعية زمن المماليك الجراكسة ) مما يستلزم لثقافتنا أن تلتفت شرقا ً بقدر ما هي مأخوذة بالغرب إيجابا أو سلبا ً .

ومثقف هذه رؤيته لجدير بأن يعطى الفرصة كي يوضح إستراتيجيته دون مصادرة مسبقة أو هجوم سابق التجهيز.


بين ليوتار وهابرماس

يعتبر يوجين فرانسوا ليوتار أبرز فلاسفة ما بعد الحداثة سيما بعد أن أصدر ذلك التقرير " التعليمي الثقافي" لحساب حكومة كندا ، والذي صدر فيما بعد في كتاب يحمل عنوان " الوضع ما بعد الحداثي " حيث يؤكد فيه انتهاء زمن المحكيات الكبرى Meta – Recites ( = أساطير التحرر ! ) مقابل ميلاد المحكية الصغرى Petite – Recite كبديل وحيد متاح بعد انتصار " المؤسسة " البورجوازية العتيدة ، وانكفاء الفرد " الثوري " المهزوم على ذاته وغرفته وجهاز حاسوبه و... عالمه الافتراضي عبر الشباك العنكبوتية الإلكترونية . وبهذا الوضع Situation يمكن للفرد الصغير البائس أن يمارس حريته وفعالياته من دون حاجة إلى نقابة أو حزب أو احتياجات لوجستية على أرض الواقع الفعلي . وعليه فقد انضم ليوتار إلى فوكوه وبورديارد في التقليل من شأن ثورة الطلاب - وكان الثلاثة من زعمائها ! - حيث اعتبروها مجرد تمرد Rebel ربما تمكن من خدش وجه المؤسسة لكنه ترك الهيكل العظمي والمفاصل والعضلات سليمة بل أقوى مما كانت .

هابرماس على العكس لا يسلم بأن نهاية التاريخ تقبع تحت أقدام ثورة لم تكتمل ، ولا يمكن له أن يوافق على التسليم للمؤسسة بالنصر النهائي ، بل يحاجى في ضرورة تقوية الأعمدة الخمس التي يقوم عليها التحديث من جديد ، وهي : الدولة ، القانون ، الأسرة ، العلم ، الدين . وبهذا فإن هابرماس إنما يعيد فتح الأبواب التي أغلقها تيار ما بعد الحداثة في وجه الرشد والعقلانية .

ترى هل لهذا العرض المختصر لأهم تيارين ثقافيين غربيين من صلة بموضوعنا عن وزارة الثقافة المصرية ؟ بالطبع له صلة وثيقة جدا ً، فالهجوم على الوزارة بقصد تفكيكها وتحجيم دورها لمرتبط أشد الارتباط بالنزعة الما بعد حداثية الرامية لإجراء قطيعة ثقافية كاملة مع الحاضر القريب فضلا عن التراث . فتلك النزعة -في رأينا – ليست حسب ُ غير مأمونة العواقب، بل هي أيضا ً مدمرة ثقافيا ً لمجتمع لمّا يدخل بعد مرحلة الحداثة ، كأنك تطالب طفلا دون سن البلوغ أن يعلن عن زهده في الزواج تشبها ً بشيخ التسعين الذي خبر وجرب وسئم !

وبعيدا عن مواسم الهجوم على وزارة الثقافة ، فالأجدى للمثقفين أن يضموا جهودهم إلى جهود الوزارة سعيا ً لربط مستقبل الوطن بسيال زمانيته الطبيعية ، مع نقد ( ونقض ) كل ما هو سلبي ومعوق .

ومن جانبنا فلقد دعونا دائما إلى ممارسة النقد الذاتي لثقافتنا الموروثة بل ونقض عناصر كثيرة منها تكلست وجمدت إلى الدرجة التي صار وجودها ذاته يشكل سورا ً يحجب الضوء عن المرور .

بيد أن النقد الذاتي أمر وتحري بلاغة التصفيات الشاملة أمر آخر
--------------------
جريدة القاهرة

مهدي بندق
الخميس 7 أبريل 2011