نظرا للصعوبات الاقتصادية التي رافقت الجائحة وأعقبتها اضطررنا لإيقاف أقسام اللغات الأجنبية على أمل ان تعود لاحقا بعد ان تتغير الظروف

الهدهد: صحيفة اليكترونية عربية بخمس لغات عالمية
الهدهد: صحيفة اليكترونية عربية بأربع لغات عالمية
Rss
Facebook
Twitter
App Store
Mobile



عيون المقالات

الفرصة التي صنعناها في بروكسل

26/11/2024 - موفق نيربية

المهمة الفاشلة لهوكستين

23/11/2024 - حازم الأمين

العالم والشرق الأوسط بعد فوز ترامب

17/11/2024 - العميد الركن مصطفى الشيخ

إنّه سلام ما بعده سلام!

17/11/2024 - سمير التقي

( ألم يحنِ الوقتُ لنفهم الدرس؟ )

13/11/2024 - عبد الباسط سيدا*

طرابلس "المضطهدة" بين زمنين

13/11/2024 - د.محيي الدين اللاذقاني


من المنظور التاريخي وصل النظام السوري إلى نهاية الطريق





لم يكن تولي بشار الأسد الحكم شأناً عادياً في سياق الجمهوريات العربية. فلا هو جاء بانتخابات رئاسية، شفافة أو مزورة، ولا بانقلاب عسكري، مباشر أو مقنع؛ وهي الطرق المعتادة لتولي الحكم في الأنظمة الجمهورية العربية منذ الخمسينات. ورث الأسد الابن السلطة من والده، بدون أن يكون له من رصيد سياسي أو عسكري يؤهله لموقع الرئاسة.


وربما كانت سياسة التوريث التي انتهجها الحكم في سورية هي التي شجعت أنظمة جمهورية عربية أخرى على اتباع النهج ذاته، قبل أن تفاجأ الطبقات العربية الحاكمة برياح الثورة الشعبية التي تقتلع الآن نظاماً بعد الآخر. ولكن في لحظة ما من العقد الماضي، فتحت للرئيس السوري نافذة لبناء شرعيته الخاصة. كانت سورية قد تعرضت لضغوط أمريكية وأوروبية غربية هائلة في أعقاب غزو العراق واحتلاله، وصلت ذروتها بعد واقعة اغتيال الرئيس الحريري والاتهامات التي وجهت للنظام في سورية بمسؤوليته عن الحادثة، وأجبرت دمشق الأسد بالتالي على الانسحاب العسكري الكامل من لبنان. في مواجهة التهديدات والمخاطر التي واجهتها سورية، وفي رد فعل على تصرفات لبنانية غير لائقة تجاه السوريين، تصاعدت الروح الوطنية السورية كما لم تتجل منذ عقود. ولكن بدلاً من القبض على الفرصة وقيادة البلاد إلى وضع سياسي جديد، قام الرئيس الأسد بتعزيز سلطاته في جسم النظام ذاته، بدون أن يقدم على إجراء إصلاحات جوهرية على هذا الجسم.
قبل أكثر من ستة أعوام، عقد حزب البعث الحاكم في سورية مؤتمراً عاماً، اعتقد كثيرون أن الرئيس السوري الشاب سيجعله مناسبة لبداية سورية جديدة. في 2005، كان بإمكان الرئيس السوري مثلاً أن يضع نهاية للتماهي الشمولي بين الحزب والدولة السورية. بعد أكثر من أربعة عقود، لم يعد لهذا التماهي القسري من مسوغ سياسي ولا شرعي ولا أخلاقي، سيما وأن الحزب، حتى بالمعنى العقائدي الذي كان عليه في الخمسينات والستينات، لم يعد قوة فاعلة في الاجتماع السياسي السوري، ناهيك عن أن يكون قوة فاعلة ذات ثقل شعبي، بعد أن تحولت قيادته للدولة والمجتمع إلى سيطرة سافرة للأجهزة الأمنية. ولكن أحداً في النظام أو في محيط الرئيس لم يطرح مثل هذه الخطوة للنقاش. وسرعان ما وظفت المعركة ضد الضغوط الأمريكية والغربية لإخراس الأصوات المعارضة وإغلاق الباب على ما عرف لفترة قصيرة بربيع دمشق. لم يتذكر الرئيس مؤتمر الحزب إلا عندما اضطر للوقوف أمام مجلس الشعب الصوري في الأسابيع الأولى من اندلاع حركة الاحتجاج الشعبية، وتقديم وعود جديدة بإصلاحات جزئية وغامضة، أعادها إلى قرارات اتخذها مؤتمر الحزب الحاكم ونسيت كلية أو تم تجاهلها طوال السنوات الست الماضية.
في السياسة، كما في كثير من مجالات العمل العام، لا يكفي أن تتخذ قراراً صحيحاً، بل لا بد أن يتخذ القرار الصحيح في الوقت الصحيح أيضاً. وليس ثمة شك أن مرور كل هذه السنوات على فرصة الإصلاح وتوكيد الشرعية جعل من استجابات النظام الجزئية والغامضة للحراك الشعبي سياسة غير ذات معنى، وأفقدها المصداقية والقدرة على التأثير والإقناع. ما كان مقبولاً ومقدراً، مثل رفع حالة الطوارىء، قبل ستة أعوام، لم يعد كافياً بعد انطلاق الحركة الشعبية وسفك دماء الشعب بلا حساب ولا تمييز. وما كان يمكن أن يعتبر سياسة حكيمة، مثل إطلاق حوار وعقد مؤتمر وطني، في الأسابيع الأولى من الحركة الشعبية، أصبحت سياسة صغيرة وعاجزة بعد شهرين من الحراك الاحتجاجي ومغالبة النظام لشعبه. وما ان استشعر النظام عجزه عن استيعاب الحركة الشعبية بالوعود وموجة القتل والإرهاب الأولى، حتى عاد لإطلاق العنان لآلة الموت وأدوات القمع والسيطرة الأمنية، بينما بدأت ردود فعله السياسية تعكس حالة من الارتباك والقلق وفقدان الحس القيادي. وبسيطرة العقل الأمني واضطراب القرار السياسي، أخذ النظام في فقدان أسس شرعيته ومبررات وجوده، الواحد منها تلو الاخر.
لم تكن القطاعات الشعبية التي أطلقت الحركة الاحتجاجية ورفعت مطالب الحريات والكرامة واسعة بالتأكيد، سواء لمناخ الخوف والتحكم الأمني الذي يسيطر على الحياة السورية، أو لأن قطاعاً من السوريين، كما العرب، اعتقد أن النظام لن يلبث أن يستشعر مناخ الثورة العربية ويسارع إلى تطبيق إصلاحات حقيقية وملموسة تنقل سورية إلى مرحلة جديدة بدون أن تمس باستقرارها. ولكن النظام لم يعترف للحظة بالحراك الشعبي الاحتجاجي ولا بشرعية مطالبه، وحتى بعد مرور زهاء الشهور الثلاثة على انطلاق المظاهرات السورية الأولى، لم يزل ناطقو النظام الرسميون وغير الرسميين يصفون الحركة الشعبية بالمؤامرة والارتهان للخارج. تصاعدت معدلات قتل المتظاهرين وقمع الناشطين واعتقالهم في صورة مطردة، وخلال أسابيع قليلة لم تعد هناك مدينة سورية واحدة إلا وخرج فيها السوريون من كافة الفئات والأعمار في تظاهرات معارضة للنظام وسياساته. ما بدأ بجموع صغيرة في عدد قليل من المدن، تحول في النهاية إلى تحركات شعبية تضم عشرات الآلاف من السوريين في استفتاء شعبي واسع النطاق على النظام وشرعيته. وليس ثمة شك في أن مطالب السوريين المبكرة كانت مطالب إصلاحية متواضعة السقف، تصاعدت تدريجياً إلى المطالبة الصريحة بسقوط النظام ورحيله.
لم يؤد الإيغال في دماء الشعب بلا حساب، القتل بلا تمييز للشبان والنساء والأطفال، وحملات الاعتقالات غير المسبوقة في اتساعها، وممارسات التعذيب الوحشي، إلى تصاعد الحركة الشعبية وحسب، بل وإلى قطيعة كاملة بين النظام والشعب. والحقيقة أن القطيعة بين النظام والقوى السياسية المعارضة ليست شأناً جديداً. ولكن الجديد أن انهيار مصداقية الحكم وفقدان الثقة في قادته وخطاب مؤسساته أصبح الإطار الحاكم للعلاقة بين النظام والقطاع الأكبر من الشعب السوري: الشبان الذين اعتقدوا لسنوات بوجود صلة ما بينهم وبين رئيسهم الشاب، العلماء غير المسيسين، الذين نشأوا على إعلاء قيمة استقرار وأمن الجماعة فوق كل قيمة أخرى، والعدد الأكبر من المثقفين والشخصيات العامة من كافة الاتجاهات، الذين ظنوا يوماً أن ثمة طريقاً وسطاً بين الثورة واستمرار الخضوع لسلطة الاستبداد والقمع والتحكم، والأغلبية العظمى من العرب الذين طالما حافظوا على مكانة خاصة للنظام السوري وميزوا بينه وبين أنظمة بلادهم. وكان النظام في طريق القبض على مقاليد السلطة والثروة قد خسر قطاعاً ملموساً من رجال الأعمال والتجار والطبقة الوسطى، الذين وجد أكثرهم من الصعوبة بمكان المنافسة مع رجال أعمال الأسرة الحاكمة والملتفين حولها. لم يعد أحد يجد مسوغاً للدفاع عن النظام، لا داخل سورية أو خارجها، اللهم إلا حفنة صغيرة من أدوات رسمية وحلقة محدودة من الحلفاء العرب الذين تحيط الشكوك بحقيقة دوافعهم. خلال أقل من ثلاثة شهور، انتقل النظام من موقع الأكثر شعبية في المجال العربي إلى الأكثر عزلة وإدانة.
وبين وعود الإصلاح الكاذبة والغرور والارتباك، تنهار المنظومة الإقليمية التي استند إليها النظام خلال العقد الأخير، ركناً وراء الآخر. في تعامله مع تركيا، الجار والحليف الإقليمي الكبير، لم يكترث النظام لنصائح المسؤولين الأتراك، وظن أن بالإمكان الاحتيال على قادة حكومة العدالة والتنمية كما الاحتيال على الرأي العام السوري، أو أن موقف الحكومة التركية سيظل محكوماً بالمصالح الاقتصادية الضيقة في سورية والجوار الإقليمي. ولكن تركيا، بين التصريح أحياناً والتلميح في أحيان أخرى، لم تلبث أن قدمت علاقاتها بالشعب السوري على أية علاقة خاصة بالنظام. أما في التعامل مع قطر، حليف سورية العربي الأهم طوال العقد الماضي، فما ان أخفق النظام في منع قناة الجزيرة من تغطية الحدث السوري حتى صب جام غضبه على الدولة القطرية. لم يعد من حليف إقليمي إلا إيران، التي لم تتردد هي الأخرى في الاتصال ببعض قادة المعارضة الإسلامية في الخارج، عارضة وساطة ما. صحيح أن الدول العربية في مجملها لم تأخذ موقفاً واضحاً بعد من المسألة السورية، ربما لأن أغلبها ليس واثقاً بعد من إمكانية سقوط النظام، أو أنها تخشى أن يؤدي سقوطه إلى تعزيز حركة التغيير الشاملة التي تعصف بالمجال العربي، ولكن أياً من أنظمة الحكم العربية لا يكن وداً خاصاً تجاه الرئيس السوري وأركان نظامه، ومن قصر النظر التعويل على هذه الأنظمة أو صمتها عن سياسة القتل والتنكيل. في النهاية، وكما انهارت مصداقية النظام لدى حلفائه في تركيا وقطر، لن تلبث الأنظمة العربية أن ترى الخطر الذي يهدد علاقاتها بالشعب السوري إن استمرت في صمتها وإحجامها عن اتخاذ الموقف الصحيح.
تستند الأنظمة الاستبدادية في علاقتها بشعوبها أولاً إلى شرعية الخطاب، خطاب الهوية المتصورة والمخيال الوطني ومصداقية السياسات وبعض الثقة والأمل، وخطاب الاستقرار والأمن، وخطاب التحالفات الخارجية والدور والموقع على المسرحين الإقليمي والدولي.
عندما تنهار شرعية الخطاب، تلجأ أنظمة الاستبداد إلى أجهزة السيطرة والتحكم الأمنية؛ وبعجز هذه الأجهزة عن استعادة السيطرة والتحكم، تستدعي الاداة العسكرية، آخر أدوات نظام الاستبداد وجداره الأخير.
وليس من الواضح بعد حجم الانشقاق والرفض في أوساط المؤسسة العسكرية السورية، ولكن المؤكد أن جيشاً مهما كانت هيمنة السلطة الحاكمة على مقدراته، لا يستطيع الصمود طويلاً أمام تضحيات الشعب وصرخاته. معركة الشعب السوري مع هذا النظام، لأسباب كثيرة وخاصة جداً، ربما تكون طويلة، ولكن نتيجتها لا يجب أن يتطرق إليها شك. من المنظور التاريخي، وصل النظام إلى نهايات الطريق، حتى إن تطلب سقوطه الفعلي المزيد من الوقت والتضحيات.

د. بشير موسى نافع
الخميس 9 يونيو 2011