إذا كان "ملهَمو" الأسواق المالية، لاسيما سوق "وول ستريت" الأميركية، لعبوا بـ "البيضة والحجر" على مدى عقدين من الزمن، إلى أن وقع الحجر على البيضة وكسرها، فإن "ملهَمي" المصارف، لعبوا بـ "الثلاث ورقات"، وهي لعبة الأزقة والشوارع الخلفية، التي تمثل فرعا وضيعا لألعاب الكازينوهات في الصالات الفاخرة. فقيَم هذه الألعاب.. واحدة، وإن اختلف مسرحها وتعددت أمكنتها، من بقعة بجانب صندوق قمامة، إلى صالة فارهة مُلحَقة بأفخم الفنادق وأكثرها رفاهية. "مُلهَمو" الأسواق باعوا وهما وسط فائض من الجشع والطمع المَرضي، و"مُلهَمو" المصارف باعوا سرابا في خضم جشع وحاجة. وماذا فعلوا أيضا؟، تحولوا إلى وكالات تصنيف متخصصة بالأفراد، أزاحت من سجلاتها درجات التقييم السلبية الواقعية، وعززت فيها درجات التقييم الإيجابية الورقية أو الاسمية أو الوهمية. فلكل – وفق معاييرها- مؤهل لـ "الفوز" بالقروض، بعيدا عن الملاءة والقدرة على التسديد الكامل والمنتظم، وبعيدا عن واقعه المالي. الكل يستطيع أن "ينعم" بهذه القروض، بل ويمكنه أن يحصل على أخرى إضافية في أي وقت يشاء، بصرف النظر عن الحِجة (أو السبب) لهذا القرض أو ذاك!. ولأن الأموال لم تكن حقيقية أو محسوسة، فهي متوفرة مثل الأمطار في المناطق الاستوائية، ومثل عدد الجياع والمشردين في العالم ( لاسيما ذلك العالم المنسي). إنها مثل أموال "قارون"، ولكنها ليست كأموال حاتم الطائي. فما عليك إلا أن توقِع على قرض، مع رجاء "دعم الانتباه" إلى أنه سيقع بك في الحضيض!.
وقع الواقعون، ودبت المصيبة. فلا أموال موجودة، ولا أصول أو عقارات تقوم مقامها. انكشفت المصارف، وانكشف معها (أو تعرى) مدرائها "المُلهَمون"، وتبين لهؤلاء أن "موجودات" مصارفهم ليست في الواقع سوى عشرات الآلاف من المقترضين الذين لا يملكون شيئا، ومليارات من الأموال المعدومة، وهموم في كل الأرجاء!. لم يخجل مدراء المصارف المتورطة في الأزمة الاقتصادية العالمية ( وأزمة الناس ) من نتيجة أعمالهم، ولم يغيروا من سلوكهم الجشع. فقبل وبعد استغلالهم لطمع وحاجات الأفراد، واصلوا جشعهم ضد مصارفهم نفسها، عن طريق مواصلة منح أنفسهم المزيد من المكافآت والمخصصات المالية السنوية، حتى في عز الأزمة العالمية، وفي بؤرة الخراب، وحتى بعد أن تحولت هذه المصارف إلى ملكيات حكومية أو شبه حكومية، بغية إنقاذها!. ففي عز فوران الأزمة، منح مدراء المصارف في الولايات المتحدة الأميركية أنفسهم، ما يزيد عن 18 مليار دولار أميركي كمكافآت، بل أن أندرو كومو المحامي العام لولاية نيويورك كشف، بأن المكافآت التي حصل عليها كبار المسؤولين في تسعة مصارف، تدخلت الإدارة الأميركية لإنقاذها عام 2008، فاقت في بعض الحالات صافي الربح. هذه الحقائق المريعة، دفعت الرئيس باراك أوباما، إلى الفوز بإقرار مجلس النواب مشروع إصلاح سوق وول ستريت والمؤسسات المالية، كما شن هجوما شرسا على المدراء والرؤساء، ووجه أقذع كلمات التوبيخ لهم، واعتبر" أنه لا يُعقل منح مكافآت ضخمة، بينما يعاني الأميركيون من الفقر والبطالة"، ومضى أوباما أبعد من ذلك حين قال : "لم أترشح للرئاسة، كي أساعد حفنة من (القطط السمان) في وول ستريت". لقد أثبت هؤلاء، أن قضية الأخلاق والإحساس، مسألة ليس فيها نظر، وأن مشاعر العالم الذي يكتوي بنار أزمة كانوا من أدوات تأجيجها، لا معنى لها. بل أن مشاعر الأميركيين الذين دفعوا من أموالهم فاتورة إنقاذ المصارف عن طريق الضرائب، لا قيمة لها!.
أمام هذا المشهد المصرفي العالمي، لم تستطع الحكومة البريطانية الاكتفاء بمواصلة التنبيه والتحذير للمصرفيين، بأن يُظهروا شيئا من الخجل. وأدركت هذه الحكومة أن الغضب الشعبي، وصل إلى أعلى مستوياته، وأنها لن تتمكن من كبح جماحه، إذا ما استمر الحال على ما هو عليه. ماذا فعلت؟، فرضت ضريبة تبلغ 50 في المئة على مكافآت المصرفيين التي تتجاوز 25 ألف جنيه إسترليني، في جميع المصارف والمؤسسات المالية البريطانية وفروع المصارف الأجنبية. وتشمل الضريبة الجديدة، كل المدفوعات التقديرية، مثل الأسهم والخيارات وزيادات الرواتب المؤقتة. ولنا أن نعرف، أن هذه الخطوة ستدر على الخزينة العامة أكثر من 550 مليون جنيه إسترليني، في وقت تحتاج فيه بريطانيا – كغيرها من الدول الأخرى – إلى جنيه إسترليني إضافي لمواجهة تبعات الأزمة، علما بأن الحكومة أقرت رصد هذه الأموال، لتمويل عمليات تشغيل العاطلين عن العمل الذين "تكاثر" عددهم بفعل الأزمة. إنها خطوة ضرورية جاءت متأخرة ومنقوصة. لماذا؟ لأن الضريبة على مكافآت المصرفيين تستمر لمدة ستة أشهر فقط!. ومع ذلك، لم تخجل المجموعات المصرفية من القيام بهجوم على الإجراءات البريطانية الجديدة، بحجة أن "معاقبة" أصحاب الدخول الكبيرة في القطاع المصرفي، ستؤدي إلى هجرة الكفاءات، بينما ظهر عضو في مجلس محافظي البنك المركزي الأوروبي، ليقول : "إن فرض ضريبة استثنائية على مكافآت موظفي القطاع المصرفي، لن يكون فعالا في تشجيع سلوك ينطوي على مخاطر أقل بين المصارف على المدى البعيد"!.
أية كفاءات تلك التي ستهرب؟، وأية خسارة في الكوادر ستنجم عن فرض ضريبة على المكافآت الهائلة؟. إن مسؤولية أولئك الذين استمروا في مناصبهم المصرفية بعد الأزمة، في اندلاع هذه الأخيرة، تستدعي فصلهم، لا فرض ضرائب على مكافآت لا يستحقونها. وإذا كانت الضريبة سوف تُبعد هؤلاء عن القطاع المصرفي، فإنها بذلك تحقق هدفين. الأول: "استئصال" الأموال من جيوبهم، وتحويلها إلى الخزانة العامة. والثاني: تشجيعهم على هجرة القطاع المصرفي، الذي ابتلي بهم لسنوات طويلة، دمروا خلالها الثقة، بل والكيان المصرفي برمته. كما أن وجود هؤلاء في خضم إعادة التكوين المصرفي العالمي، سيقوض العديد من الخطوات الهادفة لإصلاح هذا القطاع. يضاف إلى ذلك، أن "متورطي الأمس"، لا يمكن أن يكونوا من إصلاحيي اليوم. ويكفي أن نعلم، أن الحكومات في الدول المؤثرة على الساحة العالمية، تقوم بصورة يومية بتوجيه التحذيرات إلى القائمين على المصارف، للالتزام بسلوكيات ما بعد الأزمة، لاسيما في ظل ظهور تراخ هنا وآخر هناك.
لقد بدأت الحكومات التي ترزح تحت وطأة الشح المالي، وخطط الإنقاذ المستمرة المحسوبة بعشرات المليارات من الدولارات الأميركية، بإتباع سياسة حازمة في هذا المجال، خصوصا في ظل تنامي مشاعر الامتعاض والسخط، في أوساط الرأي العام. لكن ينبغي أن لا يكون الحزم موسميا. صحيح أن هناك رؤى مختلفة في أوساط صناع القرار الاقتصادي في الدول المتقدمة، حول مسألة التضييق على مكافآت ورواتب المصرفيين، وصحيح أن كل دولة تسعى إلى تكريس ما تبقى من وضعيتها المالية، من خلال سياسة مرنة، لكن الصحيح أيضا.. أن الأزمة الاقتصادية العالمية، غيرت المفاهيم، وفرضت واقعا جديدا في كل الميادين، وفي مقدمتها الميدان المصرفي. فالقضية لم تعد وطنية أو محلية، بل عالمية. والمشاركة الدولية في صنع القرار المالي، لم تعد خيارا، بل ضرورة حتمية، اعترفت بها وقبلتها كل الدول دون أي استثناء.
إن خطط الإنقاذ والضخ المالي – على أهميتها – ليست كافية لإنهاء الأزمة العالمية، ولا يمكن أن تحصن الاقتصاد العالمي من أزمة أخرى، ربما تكون أكثر شناعة. فإلى جانب هذه الخطط، لابد من "إنشاء مصنع" عالمي لإنتاج الثقة. مصنع عصي على الإغلاق، ينتج أيضا سلوكيات اقتصادية ومالية جديدة، تقوم على ما هو موجود في الواقع، لا على ما هو وهم في الخيال. ومحاصرة "المُلهَمين المصرفيين"، جزء أساسي لبناء الثقة، وتدمير المقامرة والجشع. إنها في النهاية مسألة أخلاقية لا يمكن أن تتكرس إلا بالممارسة، وبأدوات هجومية تُبقي الوحوش بعيدة عن الحظيرة.
--------------------------
m@karkouti.net
وقع الواقعون، ودبت المصيبة. فلا أموال موجودة، ولا أصول أو عقارات تقوم مقامها. انكشفت المصارف، وانكشف معها (أو تعرى) مدرائها "المُلهَمون"، وتبين لهؤلاء أن "موجودات" مصارفهم ليست في الواقع سوى عشرات الآلاف من المقترضين الذين لا يملكون شيئا، ومليارات من الأموال المعدومة، وهموم في كل الأرجاء!. لم يخجل مدراء المصارف المتورطة في الأزمة الاقتصادية العالمية ( وأزمة الناس ) من نتيجة أعمالهم، ولم يغيروا من سلوكهم الجشع. فقبل وبعد استغلالهم لطمع وحاجات الأفراد، واصلوا جشعهم ضد مصارفهم نفسها، عن طريق مواصلة منح أنفسهم المزيد من المكافآت والمخصصات المالية السنوية، حتى في عز الأزمة العالمية، وفي بؤرة الخراب، وحتى بعد أن تحولت هذه المصارف إلى ملكيات حكومية أو شبه حكومية، بغية إنقاذها!. ففي عز فوران الأزمة، منح مدراء المصارف في الولايات المتحدة الأميركية أنفسهم، ما يزيد عن 18 مليار دولار أميركي كمكافآت، بل أن أندرو كومو المحامي العام لولاية نيويورك كشف، بأن المكافآت التي حصل عليها كبار المسؤولين في تسعة مصارف، تدخلت الإدارة الأميركية لإنقاذها عام 2008، فاقت في بعض الحالات صافي الربح. هذه الحقائق المريعة، دفعت الرئيس باراك أوباما، إلى الفوز بإقرار مجلس النواب مشروع إصلاح سوق وول ستريت والمؤسسات المالية، كما شن هجوما شرسا على المدراء والرؤساء، ووجه أقذع كلمات التوبيخ لهم، واعتبر" أنه لا يُعقل منح مكافآت ضخمة، بينما يعاني الأميركيون من الفقر والبطالة"، ومضى أوباما أبعد من ذلك حين قال : "لم أترشح للرئاسة، كي أساعد حفنة من (القطط السمان) في وول ستريت". لقد أثبت هؤلاء، أن قضية الأخلاق والإحساس، مسألة ليس فيها نظر، وأن مشاعر العالم الذي يكتوي بنار أزمة كانوا من أدوات تأجيجها، لا معنى لها. بل أن مشاعر الأميركيين الذين دفعوا من أموالهم فاتورة إنقاذ المصارف عن طريق الضرائب، لا قيمة لها!.
أمام هذا المشهد المصرفي العالمي، لم تستطع الحكومة البريطانية الاكتفاء بمواصلة التنبيه والتحذير للمصرفيين، بأن يُظهروا شيئا من الخجل. وأدركت هذه الحكومة أن الغضب الشعبي، وصل إلى أعلى مستوياته، وأنها لن تتمكن من كبح جماحه، إذا ما استمر الحال على ما هو عليه. ماذا فعلت؟، فرضت ضريبة تبلغ 50 في المئة على مكافآت المصرفيين التي تتجاوز 25 ألف جنيه إسترليني، في جميع المصارف والمؤسسات المالية البريطانية وفروع المصارف الأجنبية. وتشمل الضريبة الجديدة، كل المدفوعات التقديرية، مثل الأسهم والخيارات وزيادات الرواتب المؤقتة. ولنا أن نعرف، أن هذه الخطوة ستدر على الخزينة العامة أكثر من 550 مليون جنيه إسترليني، في وقت تحتاج فيه بريطانيا – كغيرها من الدول الأخرى – إلى جنيه إسترليني إضافي لمواجهة تبعات الأزمة، علما بأن الحكومة أقرت رصد هذه الأموال، لتمويل عمليات تشغيل العاطلين عن العمل الذين "تكاثر" عددهم بفعل الأزمة. إنها خطوة ضرورية جاءت متأخرة ومنقوصة. لماذا؟ لأن الضريبة على مكافآت المصرفيين تستمر لمدة ستة أشهر فقط!. ومع ذلك، لم تخجل المجموعات المصرفية من القيام بهجوم على الإجراءات البريطانية الجديدة، بحجة أن "معاقبة" أصحاب الدخول الكبيرة في القطاع المصرفي، ستؤدي إلى هجرة الكفاءات، بينما ظهر عضو في مجلس محافظي البنك المركزي الأوروبي، ليقول : "إن فرض ضريبة استثنائية على مكافآت موظفي القطاع المصرفي، لن يكون فعالا في تشجيع سلوك ينطوي على مخاطر أقل بين المصارف على المدى البعيد"!.
أية كفاءات تلك التي ستهرب؟، وأية خسارة في الكوادر ستنجم عن فرض ضريبة على المكافآت الهائلة؟. إن مسؤولية أولئك الذين استمروا في مناصبهم المصرفية بعد الأزمة، في اندلاع هذه الأخيرة، تستدعي فصلهم، لا فرض ضرائب على مكافآت لا يستحقونها. وإذا كانت الضريبة سوف تُبعد هؤلاء عن القطاع المصرفي، فإنها بذلك تحقق هدفين. الأول: "استئصال" الأموال من جيوبهم، وتحويلها إلى الخزانة العامة. والثاني: تشجيعهم على هجرة القطاع المصرفي، الذي ابتلي بهم لسنوات طويلة، دمروا خلالها الثقة، بل والكيان المصرفي برمته. كما أن وجود هؤلاء في خضم إعادة التكوين المصرفي العالمي، سيقوض العديد من الخطوات الهادفة لإصلاح هذا القطاع. يضاف إلى ذلك، أن "متورطي الأمس"، لا يمكن أن يكونوا من إصلاحيي اليوم. ويكفي أن نعلم، أن الحكومات في الدول المؤثرة على الساحة العالمية، تقوم بصورة يومية بتوجيه التحذيرات إلى القائمين على المصارف، للالتزام بسلوكيات ما بعد الأزمة، لاسيما في ظل ظهور تراخ هنا وآخر هناك.
لقد بدأت الحكومات التي ترزح تحت وطأة الشح المالي، وخطط الإنقاذ المستمرة المحسوبة بعشرات المليارات من الدولارات الأميركية، بإتباع سياسة حازمة في هذا المجال، خصوصا في ظل تنامي مشاعر الامتعاض والسخط، في أوساط الرأي العام. لكن ينبغي أن لا يكون الحزم موسميا. صحيح أن هناك رؤى مختلفة في أوساط صناع القرار الاقتصادي في الدول المتقدمة، حول مسألة التضييق على مكافآت ورواتب المصرفيين، وصحيح أن كل دولة تسعى إلى تكريس ما تبقى من وضعيتها المالية، من خلال سياسة مرنة، لكن الصحيح أيضا.. أن الأزمة الاقتصادية العالمية، غيرت المفاهيم، وفرضت واقعا جديدا في كل الميادين، وفي مقدمتها الميدان المصرفي. فالقضية لم تعد وطنية أو محلية، بل عالمية. والمشاركة الدولية في صنع القرار المالي، لم تعد خيارا، بل ضرورة حتمية، اعترفت بها وقبلتها كل الدول دون أي استثناء.
إن خطط الإنقاذ والضخ المالي – على أهميتها – ليست كافية لإنهاء الأزمة العالمية، ولا يمكن أن تحصن الاقتصاد العالمي من أزمة أخرى، ربما تكون أكثر شناعة. فإلى جانب هذه الخطط، لابد من "إنشاء مصنع" عالمي لإنتاج الثقة. مصنع عصي على الإغلاق، ينتج أيضا سلوكيات اقتصادية ومالية جديدة، تقوم على ما هو موجود في الواقع، لا على ما هو وهم في الخيال. ومحاصرة "المُلهَمين المصرفيين"، جزء أساسي لبناء الثقة، وتدمير المقامرة والجشع. إنها في النهاية مسألة أخلاقية لا يمكن أن تتكرس إلا بالممارسة، وبأدوات هجومية تُبقي الوحوش بعيدة عن الحظيرة.
--------------------------
m@karkouti.net