وإذا كنا نحيا في ظل سلطة لا حاجة لها لتبرير ذاتها من خلال ثقافة الحق أو الحقيقة، ولكن بالعضلات الفظة والهراوات. فكيف عاش المثقف طوال الحقبة السابقة، ومن أين استمد صفته وشرعيته كمثقف؟ هو العائش بحقيقة عليه أن يقررها بنفسه، هو المغترب الذي انسحب بكتاب إلى ركن في الغرفة بديلا عن البكاء، أو عن طموح الصعود المجهض، أو الرغبة المبهمة في التميز، أو ليصنع بكاؤه الشاعري جدا سلطة بديلة هي سلطة الذات المقموعة محل سلطة الآخرين.. تلك الذات التي لم يعرفها أبدا ولم يضعها موضع تساؤل، إنما اكتشفها غالبا في حالة الصراع غير المكشوف أو النزيه، اكتشفها كظل مركون على الحائط يبكي أو يلوح بقبضته.
لذلك كان مثقفونا في الغالب شعراء، حتى روائيوهم يتخذون من الروايات ستارا لشاعر صغير وراء ظلمة السرد.
يركب المثقف أرجوحة معلقة بيقينه وحده، فمن الذي قال للشاعر إنه شاعر، وللروائي أنت روائي، وللمفكر أنت صاحب أفكار أصيلة؟ أهم شعراء وروائيون ومفكرون معلقون بيقين الأرجوحة ذاتها؟ أم أكاديميون يفتقرون إلى المبادرة ويخضعون إلى وهم إبداع لا يستطيعون تقويمه لأنهم ببساطة حرموا منه؟ أم مجتمع يحترم مثقفين لا يقرأ لهم باعتبارهم تعويضا وأضحية ترفع عن «الإنسان العادي» مسؤوليته عن الحلم وعن اكتشاف حقائق حياته مع دفع الثمن اللازم للمواحهة؟
يدفع المثقف بأرجوحته تجاه المجتمع الذي لا يحضر في ذهنه إلا باعتباره «كلاشيه» جاهزا للمضطهدين والمهمشين، يساوم عليهم في مواجهة السلطة، ليكتسب شرعية تمثيل زائفة. ويدفع مرة أخرى الأرجوحة باتجاه السلطة ليحصد مغانم مواقفه النبيلة. عارفا دائما المسافة الدقيقة بين مجتمع يفتقر إلى التمثيل، وسلطة تفتقر إلى الحقيقة.
لهذا ليس غريبا أن يظهر الآن مثقفون معادون للثورات أو الانتفاضات مهما كانت أخطاؤها وارتباكاتها. ويشعرون بالخوف على اضطراب المسافة التي كانوا يفوزون فيها بالجوائز ويبقون محافظين على صورتهم كزعماء جماليين للبسطاء الذين لا يعرفونوهم أصلا، أو لقيمة الجمال المطلق التي لا نعرف ما هي؟
اختلت المعادلة وستختل أكثر، واختلت معها أرجوحة المثقف الذي بدا أنه لابد أن ينحاز، لا أن يلعب بالانحياز. مع كل ما يمثله ذلك من مغامرة حقيقية أولها أن يعيد اكتشاف مكانه وما يمثله. أن ينظر إلى مفصل الأرجوحة التي كانت تحمله طوال تلك السنوات.
أخيرا كتب سعدي يوسف قصيدة في هجاء الثورات العربية بعنوان تهكمي «أي ربيع عربي؟» باعتبار هذه الثورات مؤامرة أميركية.
ليست المشكلة في رأي يوسف، ولا في كون هذا الرأي يكرر ادعاء وخطاب الأنظمة نفسها، ولكن في ركاكة القصيدة التي ليست بقصيدة من الأساس وابتذالها.
انها ركاكة وابتذال العصبية والتوتر، عصبية وتوتر يعريان بدورهما حدود الفن وسطحية الوعي الذي يكمن وراءه. الذي عاش وتعيش من صورة المتمرد لا حقيقته، ومن صورة البطل الشعبي المهمش أو المطارد، لا الثمن الذي عليه أن يدفعه. خاصة حين يكون هذا الثمن هو إعادة تبرير حياته، ومعنى كونه مثقفا، شاعرا أو روائيا أو غيرهما.
إنها كناسة الدكان الذي ما ان فتحت أبوابه للشمس حتى بدت كل «كراكيب» وعينا التي عاشت من الظلمة وفيها، ومن الظلم وانتهازية استثماره. من يخلصنا من كناسة الدكان؟
------------------
القبس الكويتية
لذلك كان مثقفونا في الغالب شعراء، حتى روائيوهم يتخذون من الروايات ستارا لشاعر صغير وراء ظلمة السرد.
يركب المثقف أرجوحة معلقة بيقينه وحده، فمن الذي قال للشاعر إنه شاعر، وللروائي أنت روائي، وللمفكر أنت صاحب أفكار أصيلة؟ أهم شعراء وروائيون ومفكرون معلقون بيقين الأرجوحة ذاتها؟ أم أكاديميون يفتقرون إلى المبادرة ويخضعون إلى وهم إبداع لا يستطيعون تقويمه لأنهم ببساطة حرموا منه؟ أم مجتمع يحترم مثقفين لا يقرأ لهم باعتبارهم تعويضا وأضحية ترفع عن «الإنسان العادي» مسؤوليته عن الحلم وعن اكتشاف حقائق حياته مع دفع الثمن اللازم للمواحهة؟
يدفع المثقف بأرجوحته تجاه المجتمع الذي لا يحضر في ذهنه إلا باعتباره «كلاشيه» جاهزا للمضطهدين والمهمشين، يساوم عليهم في مواجهة السلطة، ليكتسب شرعية تمثيل زائفة. ويدفع مرة أخرى الأرجوحة باتجاه السلطة ليحصد مغانم مواقفه النبيلة. عارفا دائما المسافة الدقيقة بين مجتمع يفتقر إلى التمثيل، وسلطة تفتقر إلى الحقيقة.
لهذا ليس غريبا أن يظهر الآن مثقفون معادون للثورات أو الانتفاضات مهما كانت أخطاؤها وارتباكاتها. ويشعرون بالخوف على اضطراب المسافة التي كانوا يفوزون فيها بالجوائز ويبقون محافظين على صورتهم كزعماء جماليين للبسطاء الذين لا يعرفونوهم أصلا، أو لقيمة الجمال المطلق التي لا نعرف ما هي؟
اختلت المعادلة وستختل أكثر، واختلت معها أرجوحة المثقف الذي بدا أنه لابد أن ينحاز، لا أن يلعب بالانحياز. مع كل ما يمثله ذلك من مغامرة حقيقية أولها أن يعيد اكتشاف مكانه وما يمثله. أن ينظر إلى مفصل الأرجوحة التي كانت تحمله طوال تلك السنوات.
أخيرا كتب سعدي يوسف قصيدة في هجاء الثورات العربية بعنوان تهكمي «أي ربيع عربي؟» باعتبار هذه الثورات مؤامرة أميركية.
ليست المشكلة في رأي يوسف، ولا في كون هذا الرأي يكرر ادعاء وخطاب الأنظمة نفسها، ولكن في ركاكة القصيدة التي ليست بقصيدة من الأساس وابتذالها.
انها ركاكة وابتذال العصبية والتوتر، عصبية وتوتر يعريان بدورهما حدود الفن وسطحية الوعي الذي يكمن وراءه. الذي عاش وتعيش من صورة المتمرد لا حقيقته، ومن صورة البطل الشعبي المهمش أو المطارد، لا الثمن الذي عليه أن يدفعه. خاصة حين يكون هذا الثمن هو إعادة تبرير حياته، ومعنى كونه مثقفا، شاعرا أو روائيا أو غيرهما.
إنها كناسة الدكان الذي ما ان فتحت أبوابه للشمس حتى بدت كل «كراكيب» وعينا التي عاشت من الظلمة وفيها، ومن الظلم وانتهازية استثماره. من يخلصنا من كناسة الدكان؟
------------------
القبس الكويتية