الوطنية يجب أن تكون فوق كل الاعتبارات، وألا تتوقف عند طائفة أو جماعة على حساب مصلحة الوطن ككل.
البعض اعتبر أن صور مفتي الجمهورية العربية السورية سابقًا، أحمد بدر الدين حسون، تسيء إلى مكانته الدينية والاجتماعية والمسلمين السنة، لكن هؤلاء أنفسهم لم يعتبروا دماءنا ومآسينا طيلة 14 عامًا إبادة جماعية.
أتحدث بكل تجرد ولا أخشى كلمتي، فقد علمتنا الثورة أن نقول الحق وألا نصمت عن الخطأ. أحمد بدر الدين حسون، الذي كان يُعتبر من أكثر الشخصيات الدينية تأثيرًا لدى المسلمين السنة، كونه شغل منصب مفتي الجمهورية العربية السورية سابقًا، انتقدناه منذ الأيام الأولى للثورة بسبب دعمه للأسد. وقد لقّبه أبناء مدينته حلب بـ”مفتي البراميل”، كونه كان يحرض ويبارك قصف الطيران على الأحياء المأهولة بالسكان بحجة محاربة الإرهاب. واليوم، يشعر كل أبناء الثورة السورية بالفرح لإلقاء القبض عليه، وأخص بالذكر المسلمين السنة وأبناء مدينة حلب تحديدًا، لأنهم تعرضوا للظلم والقتل بسبب تحريض هذا الرجل. لكن السؤال الذي يطرح نفسه، وقد رأيته في منشور لصديقي، ولا يزال يتردد في أذهان السوريين: ماذا لو كان حسون من الأقليات السورية؟ اعتقال أحمد بدر الدين حسون هل كنا سنرى شجبًا واستنكارًا؟ أم كنا سنسمع عبارات مثل: “نحن أقليات نتعرض للإبادة، ويتم محو وجودنا على الأراضي السورية”، أو “نطالب بالحماية الدولية للأقليات”؟ هل تجرؤ أي أقلية سورية على تسليم كبرى رؤوس القتلة الداعمين للأسد والمحرضين على قتل السوريين وإبادتهم وتهجيرهم؟ في سوريا ، هناك العديد من الأقليات، مثل الكرد والتركمان والدروز والعلويين والإسماعيليين والآشوريين والأرناؤوطيين والشركس والأرمن والمسيحيين. جميعهم وطنيون، لكن بعضهم، بدافع المكاسب السياسية، يحاولون التفرقة أو وضع النزعة الطائفية كأولوية فوق مصلحة سوريا. كم سمعنا في خطاب شيخ عقل الدروز في السويداء، الشيخ حكمت الهجري، قوله: “نحن في مرحلة نكون أو لا نكون، وسنذهب باتجاه ما هو مناسب للطائفة.” على سبيل المثال، هل يستطيع العلويون تسليم كبار الضباط المتهمين بجرائم حرب مثل طلال مخلوف أو رامي مخلوف دون أن تحدث بلبلة؟ بل بترحيب منهم؟ عندما يصل الأمر إلى العدالة الانتقالية من أجل المحافظة على السلم الأهلي، نرى الكثير من التبريرات، وكأن مفهوم التسوية يعني التسامح مع القتلة. أبسط جملة تسمعها: “مالنا بالماضي، صار في تسوية، خلينا نشوف المستقبل”، أو “لا تحرضوا على الانتقام، بدنا نعيش بسلام.” لا أعلم من أخبرهم أن شهداءنا ومآسينا وتهجيرنا أصبحوا من الماضي، ولا أعلم من أخبرهم أن محاسبة المجرمين والقتلة هي انتقام. هل يمكن لسوريا أن تعيش في أمن وأمان في ظل وجود مجرمين؟ بكل تأكيد، لا. ونتيجة غياب العدالة ومحاسبة المجرمين، تعرض الشعب السوري لانتهاكات جسيمة خلال أحداث الساحل، مما وفر فرصة ذهبية لمن يغلّبون مصلحة الطائفة على الوطنية لتعميق الشرخ المجتمعي، وهو النهج الذي عمل عليه نظام الأسد طوال 54 عامًا، لتعود سوريا مجددًا إلى دائرة الألم. هل يجرؤ أبناء جبل العرب (الدروز) على تسليم اللواء عصام زهر الدين لو كان حيًا؟ بالطبع، لا. وإلى اليوم، لا يزال قبره موجودًا في السويداء، ويضم كل أدوات القتل التي استخدمها بحق السوريين، من أسلحة شخصية وأوسمة حصل عليها من الأسد على أعماله الإجرامية. إلى اليوم، هذا الضريح موجود، رغم أن جزءًا كبيرًا من أبناء الطائفة الدرزية الوطنيين مع إزالته، لأنه – برأيهم – جلب العار للطائفة. لكن القيادات المرجعية الكبرى في الطائفة تعتبر أن إزالة الضريح هي إهانة “لبطل من أبطال الطائفة”، وأن ذلك سيؤدي إلى النيل من هيبة الطائفة، لذا يجب على أبنائها أن يكونوا متماسكين، حتى لو كان بينهم مجرمون وقتلة.
ضريح مجرم الحرب عصام زهر الدين
والأمر ينطبق على الأكراد. في بداية الثورة السورية، ارتكبت الأحزاب الكردية جرائم بحق السوريين لدعم الأسد، بل وصل الأمر إلى اختطاف ضباط أكراد انشقوا عن نظام الأسد. وإلى اليوم، لا تزال مصالحهم فوق الجميع لأنهم أقلية. على سبيل المثال، في أحداث الساحل السوري، تحرك العالم كله واتحدت جميع الأقليات، واجتمعت راية الأكراد مع العلويين، ربما للمرة الأولى. مع العلم أن الفرقة الرابعة، التي يقودها ماهر الأسد – العلوي، وجميع ضباطها علويون – هي ذاتها التي قمعت الانتفاضة الكردية عام 2004 في القامشلي، وحاصرت المدن الكردية في سوريا، كما حاصرت مدينة عفرين وأنشأت مقرًا لها في جبالها فقط لأنها منطقة كردية، واقتحمت حيي الشيخ مقصود والأشرفية بالدبابات في مدينة حلب عام 2004. أعداء الأمس، الذين كانوا يحرمون الأكراد من أبسط حقوقهم، أصبحوا اليوم أصدقاء، فقط لأنهم أقلية.
استشهد لنا زملاء ناشطون مدنيون وصحفيون وعشرات المدنيين الأبرياء في الأحياء المجاورة لحيي الشيخ مقصود والأشرفية وريف حلب، وتمت تصفيتهم عمدًا لمجرد أنهم سلكوا طريقًا محاذيًا لمناطق سيطرة الأحزاب الكردية العسكرية. وإلى الآن، لم نتمكن من استلام جثثهم، ولم تتحرك مراكز توثيق الانتهاكات بشكل فعلي، ولم نرَ المرصد السوري أو غيره ينتفضون انتفاضة رجل واحد. وحتى كتابة هذا المقال، لا يزال هناك سوريون يتعرضون للخطف على يد الأحزاب الكردية العسكرية، ومعظمهم يكون قد ضل طريقه ودخل مناطق “قسد” عن طريق الخطأ. وعلى الرغم من وجود اتفاق بين الشرع وعبدي، فإن التجاوزات والانتهاكات مستمرة. هل يستطيع الأكراد محاسبة المجرمين وتسليمهم كي تتم محاسبتهم؟ لا أعتقد ذلك. وإن حصل ذلك من قِبل الحكومة السورية، فسنسمع الشجب والندب عن “إبادة الأقليات”. مع ذلك، بادرت الحكومة السورية بحسن نية، فسمحت لوسائل إعلام كردية بالتجول بحرية في سوريا، بل أصبحت لديها حرية مطلقة أكثر من وسائل الإعلام الحكومية نفسها. ووصل الأمر إلى تزوير الحقائق والإساءة إلى محافظة بأكملها دون حسيب أو رقيب، وآخرها نشر مزاعم عن اختطاف 1000 امرأة علوية وبيعهن في سوق السبايا في إدلب. لكن هل تسمح الأحزاب الكردية لنا بدخول مناطقهم؟ ليس لنا فقط، بل حتى للأكراد المهجّرين بسببهم لدخول مدينة عين العرب (كوباني) أو القامشلي وعامودا لنقل واقع ما يحصل هناك؟ أؤكد لكم: لا، لا، لا. فمن يخطئ بطريقه ويتجاوز حدودهم يتعرض للقتل والاختطاف. فكيف يسمح لهم بالتجول بحرية في مناطق سيطرة الأحزاب العسكرية الكردية؟ لكن هل يتحرك العالم، أو يتحد كل السوريين ضد الجرائم المرتكبة من قبل الأحزاب الكردية العسكرية؟ بالعودة إلى وراء قليلًا، أؤكد بكل تجرد أن هناك انتهاكات جسيمة ترتقي إلى جرائم حرب في الساحل السوري، ويجب محاسبة كل من شارك فيها. وبالمقابل، يجب محاسبة كل مجرمي الأسد منذ عام 2011 حتى هروبه عام 2024. أما المسيحيون والأرمن والسريان، فقد حاول البعض زجّهم في دائرة الأقليات، ليس حبًا بهم، لا والله، بل لكسب تعاطف دولي أكبر. ورغم حدوث بعض الأخطاء، منها انتشار الدعويين، فإن المسلمين السنة كانوا على قدر المسؤولية من الوعي، وكذلك كان الجانب الآخر، مما ساعد في تجاوز مرحلة إشعال الفتنة. وأكثر ما يجعلني أشعر بالراحة أنه يوم أمس نشرت فيديو عن المطران حنا جلوف في ريف إدلب، وكانت معظم التعليقات مفرحة للقلب. فعلًا، هؤلاء يستحقون لقب شركائنا في الوطن. حتى يومنا هذا، لا يزال السوريون الذين شاركوا في الثورة السورية مؤمنين بالعدالة الانتقالية، وأصواتهم موجودة. والمسلمون السنة، بالتحديد، صوتهم عالٍ ضد أبناء جلدتهم الذين ارتكبوا انتهاكات. ورأينا بالأمس، عندما تم تعيين العميد سيف بولاد قائدًا لفرقة في الجيش السوري، كيف تعالت المطالبات بمحاسبته بدلًا من تعيينه، بسبب بعض الجرائم التي ارتكبتها مجموعات عسكرية تابعة له. ولم يقتصر الأمر على بولاد، بل طال أيضًا وزير العدل السوري شادي الويسي، الذي يُعتبر مسلمًا سنيًا، حيث هناك أنباء عن عزله من الوزارة، إضافةً إلى المطالبة بمحاسبته على أفعاله قبل توليه منصب وزير العدل. ولا أشك بأي شكل من الأشكال أن أولياء الدم يخشون من كلمة الحق، وسوف نرى، عندما تتفعل الحكومة بشكل فعلي وتكون هناك محاكم عادلة، الكثير من الدعاوى تُرفع من أولياء الدم “المسلمين السنة” بحق من ارتكب انتهاكات ضدهم من المسلمين السنة أولًا، وعلى أعلى المستويات، من رأس الهرم وصولًا إلى أصغر مقاتل تسبب في انتهاكات بحقهم. أخيرًا، لا يوجد إنسان سوري وطني ضد العدالة الانتقالية والسلم الأهلي. ونعلم تمامًا أن من يضع المبررات للهروب من المحاسبة هو شريك ومستفيد من الجرائم التي كانت تُرتكب بحق السوريين. ------------ وكالة الصحافة السورية