نظرا للصعوبات الاقتصادية التي رافقت الجائحة وأعقبتها اضطررنا لإيقاف أقسام اللغات الأجنبية على أمل ان تعود لاحقا بعد ان تتغير الظروف

الهدهد: صحيفة اليكترونية عربية بخمس لغات عالمية
الهدهد: صحيفة اليكترونية عربية بأربع لغات عالمية
عيون المقالات

المهمة الفاشلة لهوكستين

23/11/2024 - حازم الأمين

العالم والشرق الأوسط بعد فوز ترامب

17/11/2024 - العميد الركن مصطفى الشيخ

إنّه سلام ما بعده سلام!

17/11/2024 - سمير التقي

( ألم يحنِ الوقتُ لنفهم الدرس؟ )

13/11/2024 - عبد الباسط سيدا*

طرابلس "المضطهدة" بين زمنين

13/11/2024 - د.محيي الدين اللاذقاني

اليونيسيف ومافيا آل كابوني دمشق

12/11/2024 - عبد الناصر حوشان


كيف يختار المجتمع رمزه الديني





المجتمعات مفتونة بصناعة رموزها بما يجعل الأمر أشبه بالغريزة الاجتماعية، ولا يكاد يخلو مجتمع من رموز في جميع مجالات الحياة. فالرموز تساعد عموم المجتمع على تحديد القياسات والمعايير والاتجاهات بما يتيح للأفراد حياة أقل قلقاً، وطمأنينة في الحراك الأخلاقي والحضاري والمدني. الأمر يشبه الكيفية التي تسهم بها جهود تخطيط المدن والشوارع في جعل الحياة في المدينة أسهل وأوضح، رغم أنها قد لا تجعلها أفضل وأرقى بالضرورة إلا بقدر ما يكون تخطيط المدينة جيداً، كذلك لا يكون المجتمع أفضل إلا بقدر ما تكون رموزه أجدر بمسؤولية تأثيرهم الشعبي، وتنويرهم الحضاري.


ومجتمعنا يُقيم أساسه الأخلاقي على ركنين من الدين والتقاليد، وأيما خُلقٍ انبثق من الركنين معاً كانت له مكانةً عظيمة ورسوخاً أعمق في الوجدان الاجتماعي، وناضل المجتمع دفاعاً عنه وتكريساً له، وذلك ما يؤكده ويل ديورانت عندما يقول: ((الأساس الطبيعي هو التقاليد، فإذا أضيف إليها تأمينٌ يأتي من السماء عن طريق الدين، واتفقت تقاليد الآباء مع ما يريده الله، عندئذ تصبح التقاليد أقوى من القانون نفسه!)). هذا يعني أن الرمز الديني هو أحرى بالظهور والبروز وكسب الشعبية بقدر ما يتفق خطابه مع الدين والتقاليد، وإذا اكتفى بأحدهما نال شعبية أقل، وإذا خالفهما معاً فلا حظ له ولا نصيب.

نلاحظ جميعاً أن الرمز الديني الذي يتركز وعظه وخطبه على شؤون مشتركة بين التقاليد والدين، مثل وضع المرأة في المجتمع، تتسارع شعبيته ليسبق الرموز الأخرى الذين تتركز خطاباتهم على شؤون دينية بحتة لا علاقة لها بالتقاليد مثل العدل والفقه. ولربما أنفق عالمٌ ما حياته في تأليف مجلداتٍ ضخمة عن العقيدة والمعاملات فلا يتداول اسمه إلا الطلاب والمتخصصون، بينما يخطب أحد طلابه خطبة سطحية في منبرٍ ما عن تكافؤ النسب وقيادة المرأة فتطبّق شهرته الآفاق حتى ليعتدّ الناس بكلامه أكثر من كلام معلمه، ويقدمون رأيه على رأيه. وهذا فعلٌ غير حميد عندما يقوّم الناس علماءهم ورموزهم على قدر ارتفاع أصواتهم، وليس على قدر اتساع معارفهم.
والرمز الديني الذي يخلقُ عدواً ما يصبّ عليه اللوم والنقائص هو أيضاً أحرى بالشهرة من ذلك الذي يتداول الأفكار فقط. فالمجتمع يحتاج إلى أعداء ليشعر من خلالهم باكتمال قوامه الأخلاقي، واتضاح معالم خصوصيته الثقافية. وبالتالي فإن الرمز الديني الذي يساعد المجتمع في تحديد هؤلاء الأعداء وتصنيفهم ينال حقه من التقدير والاحتفاء مكافأة له على هذه الخدمة المريحة للمجتمع الحائر. أما الرمز الديني الذي يترفّع عن مهاجمة الأشخاص والتيارات، مصداقاً لمقولة إلينور روزفلت ((العقول الصغيرة تناقش الأشخاص، والعقول المتوسطة تناقش الأحداث، والعقول الكبيرة تناقش الأفكار)) فإن شعبيته تظل محدودة لأن قدرة خطابه على (إراحة) الجماهير، ومنحهم فرصة تفريغ غضبهم وكراهيتهم في شخص ما أو تيار معين محدودة أيضاً. المجتمع لا يريد أن يكره فكرةً لأن للأفكار تداعيات وتشعبات تشتت غضبه وتبدد شهوة الكره، إنه يريد أن يكره شخصاً لأن للأشخاص أسماء فقط، لايرهقه حملها في ذاكرته، ومن السهل التنكيل به معنوياً واجتماعياً.

لا تبدو مواصفات الرمز الديني صعبة ولا مستحيلة، بل إنه يبدو نموذجاً متكرراً وشائعاً في مجتمعنا حتى لكأننا مجتمعٌ من الرموز الدينية الجاهزة للبروز، ولا يحتاج أي منهم إلى أكثر من فرصة يمنحها إياه ثالوث الصناعة الإعلامية (المستثمر الإعلامي، والمسؤول السياسي، والمخرج التلفزيوني)، وبعد تربيته في الأستوديو سنوات قليلة يتحول إلى نجم يلهب عواطف المؤمنين، ومغناطيس يجذب استفتاءهم، ومصدر من مصادر الحقيقة المطلقة، وهنا ينتهي دوره، بالإضافة إلى دور المستثمر والسياسي والمخرج، ليكمل الجمهور عملية بناء الهالات حوله، هالةً بعد هالةً، مدفوعين بغريزتهم الاجتماعية في خلق الرموز التي يتكئ عليها قوامهم الأخلاقي، ويصبح جمهور المتفرجين على استعداد تام للدفاع عنه في كل مناسبة، والذود عن حوضه في أي جدال، والذب عنه في كل موقف، وتبرير أخطائه وتمجيد أقواله، حتى ينتهي أخيراً إلى رمز ديني مكتمل، بأتباعٍ ومريدين، بعد أن تم اختياره هو نفسه قبل عدة سنوات من ضمن مجموعة من الأتباع والمريدين.

خطورة ذلك كله تكمن في أن أصحاب القرارالإعلامي يمتلكون القدرة على صناعة رمز ديني متى أرادوا، ومن ثم توجيهه كيفما شاءوا. وأن هذا الرمز الديني الذي يُنتقى ليس حالة عقلية فريدة، ولا مفكراً تنويرياً مجدداً، بل واحد من الآلاف الذين يعملون على (تقليب) نفس المشاعر الاجتماعية ذات اليمين وذات الشمال، دون أن يغيّر فيها شيئاً. وأن أغلب الرموز الدينية التي يعتقد الكثير من أفراد المجتمع اليوم أنهم جبال راسخة، وقمم شاهقة، وقادة عظام، وفلتات تاريخية، كان من الممكن ألا يشيع لهم ذكر لو أن شخصاً ما، قبل عدد معين من السنوات، لم يمنحهم فرصة الظهور على التلفزيون، ومنحها لغيرهم من الذين كانوا مؤهلين لبلوغ نفس الشعبية، وركوب نفس الموجة.

محمد حسن علوان
الخميس 11 مارس 2010