نظرا للصعوبات الاقتصادية التي رافقت الجائحة وأعقبتها اضطررنا لإيقاف أقسام اللغات الأجنبية على أمل ان تعود لاحقا بعد ان تتغير الظروف

الهدهد: صحيفة اليكترونية عربية بخمس لغات عالمية
الهدهد: صحيفة اليكترونية عربية بأربع لغات عالمية
Rss
Facebook
Twitter
App Store
Mobile



عيون المقالات

الفرصة التي صنعناها في بروكسل

26/11/2024 - موفق نيربية

المهمة الفاشلة لهوكستين

23/11/2024 - حازم الأمين

العالم والشرق الأوسط بعد فوز ترامب

17/11/2024 - العميد الركن مصطفى الشيخ

إنّه سلام ما بعده سلام!

17/11/2024 - سمير التقي

( ألم يحنِ الوقتُ لنفهم الدرس؟ )

13/11/2024 - عبد الباسط سيدا*

طرابلس "المضطهدة" بين زمنين

13/11/2024 - د.محيي الدين اللاذقاني


كش ملك





حتى هؤلاء المتكلمون المهرة، الذين يحتلون شاشات الفضائيات، والذين يبدون أنهم يعرفون كل شيء دائماً، عن كل بلد عربي، وكل رئيس عربي، سوف يقفون عاجزين عن إمكانية ولو مجرد تخمين بسيط، أو محاولة قراءة ما، لحركة القذافي الذي يلعب الشطرنج بيد، ويقتل شعبه باليد الأخرى.


حين سألت أحد الضالعين بالطلات التلفزيونية الـ'توك شويّة' عن السّر الكامن خلف ظهور القذافي على التلفزيون، لاعباً الشطرنج مع رئيس الإتحاد الدولي للوتو (يعني مش مع مين ما كان) أجابني بعد أن ابتسم بالطبع، أن الظهورالشطرنجي للقذافي هو لزوم إصراره على متابعة اللعبة الدموية التي لمّا تنتهي بعد.
استحثتني مجموعة حاشدة من المشاعر حيال صورته: اللؤم الملحمي الذي جعل وجنتيّ ترتجفان، يده التي تنقل بيادق الشطرنج نافية أيّ احد يقول له:'كش ملك'، جعلت صدري وكتفيّ يخزّاني، ثم أن غياب الشكل الإنساني أينما امتدّت العين على صورته، جعلني للمرة الأولى في حياتي أنغمس في كره أحد ما، عميقاً جداً.
لدّي وحدي على ما أعتقد، قناعة خفية فيما يتعلق بطبيعة هذا الرجل الشرير. يُداخلني يقين، انه يبيّت بعد للشعب الليبي، مذبحة واسعة الدماء، من نوع لا يفهمها هو نفسه.
يلعب القذافي الشطرنج بالصفاء والصبر اللازمين للعب الشطرنج، فيما تُحرّكهُ داخلياً قوة دافعة نحو القتل، دسّها شيطان ما في أعماقه، وتُشكّل حتى اللحظة قدر البسطاء الليبيين، على الأقل يبدو لي الأمر على هذا النحو. شعرت بقلبي يقفز خجلاً وهو يُنقّل البيادق من خانة الى اخرى، فقد اكتشفت لعبة الموت التي يلعبها، والعلاقة الفردية المتوحدة، بين فئة الدم عنده، وشهوته للدم ذاتها.
لقد شحذ الهوس المتجذّر بالسلطة عنده، الرغبة الملحاحة الى القتل، وأكسبهُ دربة. وصف الكوليزيوم في كوفاديس قوّى بطشهُ، وشكّل بدأب فكرته عن ساحات الموت في مصراته والزنتان، الجارية حالياً.
يمكن للمشاهد الذي يرى القذافي يلعب الشطرنج فيما شعبه يُقصفُ ويُذبح على يدي كتائبه، تثبيت الإنطباع بأن هذا الرجل مريض، ويشعر بتهديد قريب، وبأن وضعه غير آمن. الصورة الإستثنائية التي تعبر أمام عيوننا ، كانت تتحوّل الى عجز مؤلم في التخلص من هذا الرجل، ولكن بعد التمعّن في أصابعه مرتجفة تنقل البيادق، يغدو من الممكن فهم الأمر جيداً. فجأة وبسبب برعم تبرعم وكبر في العالم العربي، يقوم هذا الرئيس وأشباهه، على لعب مثل هذه الأدوار المفلسة. انهم يستمتعون بأعظم التبجيل للأيام القصيرة الباقية من عمر رئاساتهم ومن أعمارهم ذاتها. وهم يعرفون ان هذا التبجيل ليس مخلصاً تماماً، ففي أساسه تكمن قناعة كل من هؤلاء الرؤساء، أنهم وكراسيهم وطاولات شطرنجاتهم الى زوال سريع. انهم يلعبون في ما يُدعى ساحة تكريم الموتى، شيئاً من ذلك الحب الهستيري الذي يصطنع أمراً غرائبياً، لا لسبب، سوى لافتقارهم في الواقع الى العقل واللطف.
من المفهوم أن مثل صورة القذافي يلعب الشطرنج، ليست مبهجة بالنسبة للناس الحسّاسين، ولا لشعبه كافة ولا لكل من رأى صورته في عصره الدموي. ولا للأطفال خصوصاً الذين يسعون ما قدروا، للإفلات من قبضته، بطفولاتهم العارية من أية حماية. رجل يضع على رأسه تاجاً ملكياً من أنامل محروقة وابتسامات مطفأة.
يضعُ تاجاً من الأعضاء البشرية، ولا ادري كيف يحملهُ. رجل يحتاج لا الى السلطة، بل الى العلاج النفسي الذي يُسمّي الجذل الكبير بالتيجان، إضطراباً نفسياً حاداً، كما لو ضيق نفس من قلة العفاف والضميرية أو عدم الإكتراث والقسوة.
ما أقلّ ما تعنيه الحياة الصحية لمثل أولئك الرؤساء. ما افقر ما تكون عليه الحياة حين لا يكون مثالها شيئاً اخر غير إنكار فقرها وابتذالها، وادعاء عظمتها. مثل هذه المعميات تؤدي بهم الى تجاهل النمط الأخلاقي كبند راسخ لمطلق حياة متوازنة، متحركة تتطلب في كل لحظة جهوداً عقلية وعاطفية للتطور والتجديد.
في صورة القذافي منهمكاً برقعة الشطرنج أمامه، منكبّاً عليها، نتعلم اللعبة الناقصة بين الداخل والخارج، ونصل الى آثار جديدة لما هو شخصي عبر تفهّم ما هو غير شخصي بالذات، الى أنماط سلوكية رئيسة للطغاة، وصولاً الى غريزة بنية الأنا، التي تتغذّى على ذبح العدد الاكبر الممكن من الآخرين، كل الآخرين.
كان يمكن لهذا الرجل ان يكون سعيداً لأنه قتل فعلاً، والقتل منطقة اقتحمها وهو يُدرك أن بشاعتها مقرّرة سلفاً، وادراكه بشاعتها هو ادراك كلي، لا جنوناً، ولا شبهة جنون.
امتلك القذافي ما يكفي من الوقت، ليتمعّن في نقلة بيدقا من مُربّع الى اخر، إذ توّجب على الكاميرا ان تنتظر بدورها قبل أن يستوي المشهد على خرافته. كان يمن لغريزة الإنحطاط والسقوط المسرحية التي تُعتبر واحدة من متع الحياة لأكثر الرؤساء، ان تُرى هنا بلا شائبة، بل وبلا أدنى فكرة عن التمثيل، وهي تسفر عن نفسها بقوة، بدا معها المشهد التمثيلي فناً يُمكن تأجيرهُ بالساعات، غايته عرض الذات كشيء غير طبيعي تماماً، حيواني ومتخلف وفصامي.
-------------------
القدس العربي

عناية جابر
الجمعة 17 يونيو 2011