لننظر كيف شقت كل شخصية منهما طريقها إلى القيادة، وأين كان موقع الناس في هدفهما.
كان على رئيفة سميع أن تواجه تحديات هائلة منذ لحظة خروجها من منزلها متظاهرة ضد السلطة، فالمجتمع، بعاداته وتقاليده، لم يكن يراها إلا امرأة لا يجوز لها أن تخرج من منزلها، ثم كان عليها أن تواجه عنف السلطة وأجهزتها، ثم كان عليها أن تواجه مجتمع “النخب” الذي يتحدث الإنجليزية، ويستخدم المصطلحات منتشيًا بشهاداته العليا، ثم كان عليها أن تواجه نظرات الشك في عيون ممثلي الدول وهم ينظرون إليها بريبة، فهي القادمة من إدلب “حيث تسيطر الجبهة والتطرف”.
واجهت رئيفة كل هذا بثبات نادر وقدرة عظيمة على مواجهة عواصف من التهجم والانتقاد والاتهام، والأهم، التقليل من الشأن. أدركت قواعد اللعبة، والحاجة إلى الشهادة والعلم، درست الثانوية العامة، ومن ثم حصلت على الإجازة في العلوم السياسية، وراحت تسعى إلى الحديث دون ترجمة، غير أنها لم تفعل كل هذا كي يتقبلها الآخرون، وإنما كي توصل صوت الناس الذين كانوا بوصلتها دومًا. كانت تسعى ليل نهار كي تتدرب النساء في الداخل على قضايا الحوكمة، والانتخابات، والتنظيم السياسي، وأمور أخرى كثيرة، كي تضمن خروج جيل من نساء فاعلات غير مضطرات للمرور بما مرت هي به. كانت تسير بشراسة لتشق الطريق لنساء إدلب.
كثيرًا ما تسيّد الصمت والإنصات الموقف بانتظار ما تقوله رئيفة، فهي متابعة لكل حدث على الأرض، ومتابعة نهمة للصحف لا رغبة بـ”التشوّف والتنظير”، بل للفهم ونقل المعرفة للناس، هي التي تعلمت القراءة الموضوعية للحدث بعيدًا عن الرغبوية، ومضت تنقل هذه المهارات إلى عشرات السيدات السوريات في إدلب وريف حلب، بل وحتى لبنان.
أما بسمة قضماني، فكان عليها أن تواجه مجتمع السياسة الذكوري، بدءًا بمجلس كان جل رجاله يخشون اطلاعها وسعة معرفتها وقدرتها على الحديث مع الشباب واستقطابهم. كان عليها أن تواجه حملات التنمر بسبب موافقها السياسية السابقة، أو لارتدائها حجابًا أخفى شعرها وأظهر احترامها للمجتمع الذي تزوره وعاداته وتقاليده.
بل حتى بعد موتها، لم يتأخر تهجم الخصوم ضدها، إسلامييهم وعلمانييهم.
كان على بسمة أن تواجه رجالًا كان كثير منهم يعلمون أنها قادرة على فضح ضحالة معارفهم وقدراتهم السياسية. أذكر أنني سألت يومًا المعلم عبد العزيز الخير عن مفاوضاته في القاهرة مع “المجلس الوطني السوري”، فقال لي: “المشكلة أن المفاوض الحقيقي في المجلس هو بسمة، وهي الوحيدة التي نستطيع بناء توافقات معها، لكن لا يوجد سوى بسمة واحدة في هذا المجلس”.
“يجب على النخب أن…”، لا بأس، ولن أدخل فيما يجب على النخب أن تفعله، غير أنني لا أرى تعريفًا واضحًا لمعنى النخب، أو بالأحرى، أشعر بالضيق من تعريف النخب الذي يضمره المتحدث.
النخب بالتعريف المضمر، هي شخصيات تعيش غالبًا في الخارج، لا داخل سوريا، تتحدث اللغة الإنجليزية، تتوصل بشكل مستمر مع القوى الدولية، وتحضر المؤتمرات الدولية، وتشارك في ورشات عمل، ليبرالية في غالب مظهرها، والنسبة الكبرى بينها من الرجال لا النساء.
لا ترى هذه النخب التواصل مع الناس إلا من باب الواجب التكتيكي، وبما يخدم توطيد علاقتها مع الآخر الأجنبي، وبما يفيد محتوى الاجتماع معهم.
سل هذه النخب عن تعريف النخب، ليحدثوك عن المثقف العضوي، وعن تعريف غرامشي له، وسيقولون لك إن غرامشي قال هذا ولم يقل ذاك، ثم ينصرفون إلى المقاهي أو شاشات “فيسبوك”، سعداء بكونهم “نخبًا”.
أما أنا، فقد بات لدي جواب عن هذا السؤال، وإن سألتني قلت لك: اقرأ حياة رئيفة، وبسمة، و.. و.. و..
واملأ الفراغ.
 ---------
عنب بلدي