على أن غموض الكلام السياسي لمفكرينا لا يرجع إلى قصور ذاتي، بل له أسباب "موضوعية"، تتصل بخصائص الموضوع السوري المفترض لتفكيرهم.
وأول أسباب هذا الشرط الذي ينبغي أن يكون مستغرباً أن التفكير السياسي السوري يتكلم على عالم عربي أو على وطن عربي، هذا حين لا يتكلم على العالم الثالث أو الشرق الأوسط، أو العالم الإسلامي. قدر كبير من إشارات المثقفين السوريين وتلميحاتهم يقصد به سورية، لكن التفضيل الدائم هو التكلم على الدولة العربية وعلى المجتمع العربي... هذا يعني أن تفكيرهم غير مطابق للموضوع السوري، يقول أشياء يفترض أنها تنطبق على سورية لكونها عربية أو إسلامية عالمثالثية أو شرق أوسطية، لكنه انطباق عمومي، يتوسل "الأشباه والنظائر" والتعميمات الواسعة، فلا يفيد معرفة مضبوطة. ولعله غير مطابق لأي موضوع كان. الواحد منا لا يكاد يقول شيئاً مفيداً عن بلده، وإن اجتهد، فمن أين له أن يقول شيئاً ذا قيمة عن الدولة العربية والمجتمع العربي والسياسة العربية التي إما أنها غير موجودة، أو لا تكتسب بعض دلالة إلا كحصيلة لاحقة لدراسة وتحليل الدول والمجتمعات العيانية القائمة.
هذا مسوغ كاف للقول إن تفكيرنا السياسي ممتنع عن التوضيح أكثر مما هو غامض. ببساطة لا موضوع له. ولما كان مثقفونا يؤلفون كتباً مع ذلك عن الدولة والمجتمع والسياسة... العربية، فلنا أن نتوقع أن نجد فيها كلاماً انطباعياً، مرقشاً بأمثلة متناثرة من هنا وهناك توحي بانطباقه. المحصول ضئيل طبعاً. ولذلك بالذات، التراكم المعرفي معدوم.
السبب الثاني أن الموضوع الأول المفترض للتفكير السياسي، أي الدولة، شأن متعذر الموضعة لكون الاقتراب منه محفوفاً بالمخاطر، ويعسر قول أشياء محددة عنه. الدولة مشحونة لدينا بكهرباء سياسية خطرة، معلوم أنها كهربت وتسببت بصدمات مؤلمة، صعقات قاتلة أحياناً، لعدد كبير من محكوميها. ومن المثقفين أيضاً. وعلى رغم أن هذا ليس هو السبب الأصلي لتجنب المثقفين السوريين التفكير في الدولة والشأن السياسي السوري (هم عروبيون غالباً في الأصل، لا يرون سورية موضوع تفكير جدياً)، إلا أن خطورة الكهرباء السياسية السورية مددت في عمر تلك العادات الكتابية، حتى بعدما غدت غير ذات موضوع. ويحصل أن يبلغ تفضيل المثقفين الابتعاد من الدولة أن أكثرهم يعيشون خارج الدولة فعلاً.
محصلة هذا السبب الثاني إذاً أن المثقفين يقولون كلاماً مداوراً أو عمومياً. وهو ما يبقى صحيحاً حتى لو كان موضوع التفكير هو المجتمع السوري (وليس الدولة السورية). أو حتى الثقافة والدين في سورية. لا نريد القول إن هناك كتابات في هذه المجالات الأخيرة، أو حتى محاولات. الأرجح أن أحداً لن يجازف بتناول شؤون لا بد من أن يعرج تناولها على "الدولة" و«السياسة»، وتالياً على خطوطهما الحمر العالية التوتر. وعلى هذا النحو تعزز خطورة ما يفترض أنه الموضوع الأول للتفكير السياسي من عادات كتابية مستقرة وآمنة، فيتولد منهما معاً صمت سياسي مدو، أو كلام عمومي لا طائل منه.
السبب الثالث هو الضغط المحسوس والمتنامي للبنى الولائية الحديثة والموروثة، وفعلها المجزّئ للمجتمع وللحقلين الثقافي والسياسي، وامتناع المثقفين السوريين عن التصدي لهذه الظاهرة الخطيرة. وقد تكون هذه نقطة إشكالية، لكن تأثيرها محسوس جداً بقدر ما هو غير مدروس أبداً في تفكيرنا العام والسياسي.
وبسبب افتقارنا إلى دراسات منهجية حول الظاهرة، وجو الكتمان المحيط بها، نُغرى بألا نرى منها غير "الطوائف" و "الدين". لكن هذين هما الوجهان الأكثر ظهوراً فحسب لتجمد او تجزؤ البنية الاجتماعية المحلية، الذي يتظاهر أيضاً في تحجر المنظمات والأحزاب التابعة والمستقلة معاً، وفي أجواء القطيعة التي تعزل الناشطين العامين عن بعضهم وتقطع بعنف روابطهم، فلا يكاد يمكن فعل شيء لوصلها من جديد، وفي تفتت كل نشاط عام، سياسي أو حقوقي أو ثقافي، وفي انعزال أكثر المثقفين عن أي نشاط عام وانكفائهم على مشاغلهم الخاصة، أي في انحدار المجتمع ككل إلى ما دون السياسة المدنية.
وقد يكون الغموض والعمومية هنا نوعاً من الحل. يمتنع المثقفون، وهم وطنيون مخلصون، عن تناول شأن صعب الموضعة بدوره، لا يتيسر الاستقلال عنه، فوق خطورته السياسية. الأفضل إذاً تجنب الأمر. لكن فوق أن الحالة الانقسامية تعمل كإطار اجتماعي محتم للتفكير، فإن ما لا ندرسه لا ينفك "يدرسنا"، أعني يوجّه تفكيرنا وأحسن علمنا، ويسخره لإعادة إنتاج او تثبيت أوضاع القطيعة وحالة التجزؤ والجزر المتعازلة. هذا لأننا لا نقاومه ولا نحاول كشف منطقه و "قوانينه"، والسيطرة عليه. بالنتيجة تكون المبادرة للواقع الغفل المختلط، وليس للتفكر الصاحي. الوضوح ممتنع طبعاً هنا.
وفي المحصلة، نهرب من الموضوع (الدولة والسياسة) إلى ما فوقه (العروبي)، هرباً لا يحد بحال من ضغوط وتحريف ما تحتــــه (الفئوي) لكلامنا. فلا نحــــصل إلا علــــى تفكير سياسي مشوش، يمتنع أن تتكون ذات سياسية سورية على أرضيتــــه. وقد أتيحت في العقدين الأخيرين لبعض من ذكرنا من المثقفين السوريين فرص "عالمية"، تتوحد في أنها لا تستدعي أكثر من النظر إلى سورية بعين الطائر، فلا تُرى منها دولة أو مجتمع أو ثقافة؛ لا يُرى إلا ما يريده اليمين الغربي اليوم: إسلام بإسلام. هنا نبلغ أعلى مراحل امتناع الوضوح. فإن كان لتفكير سياسي سوري صاح أن يتكون ويتطور فلا مناص من الانفصال عن العادات الكتابية العمومية العريقة والمواقع والأدوار المستجدة، ومن جعل سورية، الدولة والمجتمع، موضوعاً لتفكير المثقفين السوريين. فرص إصلاح سورية وتطورها السياسي لا تتوافق مع غفليتها الثقافية المستمرة. تتوافق مع إصلاح تفكير المثقفين السوريين، بل تقتضيه.
وأول أسباب هذا الشرط الذي ينبغي أن يكون مستغرباً أن التفكير السياسي السوري يتكلم على عالم عربي أو على وطن عربي، هذا حين لا يتكلم على العالم الثالث أو الشرق الأوسط، أو العالم الإسلامي. قدر كبير من إشارات المثقفين السوريين وتلميحاتهم يقصد به سورية، لكن التفضيل الدائم هو التكلم على الدولة العربية وعلى المجتمع العربي... هذا يعني أن تفكيرهم غير مطابق للموضوع السوري، يقول أشياء يفترض أنها تنطبق على سورية لكونها عربية أو إسلامية عالمثالثية أو شرق أوسطية، لكنه انطباق عمومي، يتوسل "الأشباه والنظائر" والتعميمات الواسعة، فلا يفيد معرفة مضبوطة. ولعله غير مطابق لأي موضوع كان. الواحد منا لا يكاد يقول شيئاً مفيداً عن بلده، وإن اجتهد، فمن أين له أن يقول شيئاً ذا قيمة عن الدولة العربية والمجتمع العربي والسياسة العربية التي إما أنها غير موجودة، أو لا تكتسب بعض دلالة إلا كحصيلة لاحقة لدراسة وتحليل الدول والمجتمعات العيانية القائمة.
هذا مسوغ كاف للقول إن تفكيرنا السياسي ممتنع عن التوضيح أكثر مما هو غامض. ببساطة لا موضوع له. ولما كان مثقفونا يؤلفون كتباً مع ذلك عن الدولة والمجتمع والسياسة... العربية، فلنا أن نتوقع أن نجد فيها كلاماً انطباعياً، مرقشاً بأمثلة متناثرة من هنا وهناك توحي بانطباقه. المحصول ضئيل طبعاً. ولذلك بالذات، التراكم المعرفي معدوم.
السبب الثاني أن الموضوع الأول المفترض للتفكير السياسي، أي الدولة، شأن متعذر الموضعة لكون الاقتراب منه محفوفاً بالمخاطر، ويعسر قول أشياء محددة عنه. الدولة مشحونة لدينا بكهرباء سياسية خطرة، معلوم أنها كهربت وتسببت بصدمات مؤلمة، صعقات قاتلة أحياناً، لعدد كبير من محكوميها. ومن المثقفين أيضاً. وعلى رغم أن هذا ليس هو السبب الأصلي لتجنب المثقفين السوريين التفكير في الدولة والشأن السياسي السوري (هم عروبيون غالباً في الأصل، لا يرون سورية موضوع تفكير جدياً)، إلا أن خطورة الكهرباء السياسية السورية مددت في عمر تلك العادات الكتابية، حتى بعدما غدت غير ذات موضوع. ويحصل أن يبلغ تفضيل المثقفين الابتعاد من الدولة أن أكثرهم يعيشون خارج الدولة فعلاً.
محصلة هذا السبب الثاني إذاً أن المثقفين يقولون كلاماً مداوراً أو عمومياً. وهو ما يبقى صحيحاً حتى لو كان موضوع التفكير هو المجتمع السوري (وليس الدولة السورية). أو حتى الثقافة والدين في سورية. لا نريد القول إن هناك كتابات في هذه المجالات الأخيرة، أو حتى محاولات. الأرجح أن أحداً لن يجازف بتناول شؤون لا بد من أن يعرج تناولها على "الدولة" و«السياسة»، وتالياً على خطوطهما الحمر العالية التوتر. وعلى هذا النحو تعزز خطورة ما يفترض أنه الموضوع الأول للتفكير السياسي من عادات كتابية مستقرة وآمنة، فيتولد منهما معاً صمت سياسي مدو، أو كلام عمومي لا طائل منه.
السبب الثالث هو الضغط المحسوس والمتنامي للبنى الولائية الحديثة والموروثة، وفعلها المجزّئ للمجتمع وللحقلين الثقافي والسياسي، وامتناع المثقفين السوريين عن التصدي لهذه الظاهرة الخطيرة. وقد تكون هذه نقطة إشكالية، لكن تأثيرها محسوس جداً بقدر ما هو غير مدروس أبداً في تفكيرنا العام والسياسي.
وبسبب افتقارنا إلى دراسات منهجية حول الظاهرة، وجو الكتمان المحيط بها، نُغرى بألا نرى منها غير "الطوائف" و "الدين". لكن هذين هما الوجهان الأكثر ظهوراً فحسب لتجمد او تجزؤ البنية الاجتماعية المحلية، الذي يتظاهر أيضاً في تحجر المنظمات والأحزاب التابعة والمستقلة معاً، وفي أجواء القطيعة التي تعزل الناشطين العامين عن بعضهم وتقطع بعنف روابطهم، فلا يكاد يمكن فعل شيء لوصلها من جديد، وفي تفتت كل نشاط عام، سياسي أو حقوقي أو ثقافي، وفي انعزال أكثر المثقفين عن أي نشاط عام وانكفائهم على مشاغلهم الخاصة، أي في انحدار المجتمع ككل إلى ما دون السياسة المدنية.
وقد يكون الغموض والعمومية هنا نوعاً من الحل. يمتنع المثقفون، وهم وطنيون مخلصون، عن تناول شأن صعب الموضعة بدوره، لا يتيسر الاستقلال عنه، فوق خطورته السياسية. الأفضل إذاً تجنب الأمر. لكن فوق أن الحالة الانقسامية تعمل كإطار اجتماعي محتم للتفكير، فإن ما لا ندرسه لا ينفك "يدرسنا"، أعني يوجّه تفكيرنا وأحسن علمنا، ويسخره لإعادة إنتاج او تثبيت أوضاع القطيعة وحالة التجزؤ والجزر المتعازلة. هذا لأننا لا نقاومه ولا نحاول كشف منطقه و "قوانينه"، والسيطرة عليه. بالنتيجة تكون المبادرة للواقع الغفل المختلط، وليس للتفكر الصاحي. الوضوح ممتنع طبعاً هنا.
وفي المحصلة، نهرب من الموضوع (الدولة والسياسة) إلى ما فوقه (العروبي)، هرباً لا يحد بحال من ضغوط وتحريف ما تحتــــه (الفئوي) لكلامنا. فلا نحــــصل إلا علــــى تفكير سياسي مشوش، يمتنع أن تتكون ذات سياسية سورية على أرضيتــــه. وقد أتيحت في العقدين الأخيرين لبعض من ذكرنا من المثقفين السوريين فرص "عالمية"، تتوحد في أنها لا تستدعي أكثر من النظر إلى سورية بعين الطائر، فلا تُرى منها دولة أو مجتمع أو ثقافة؛ لا يُرى إلا ما يريده اليمين الغربي اليوم: إسلام بإسلام. هنا نبلغ أعلى مراحل امتناع الوضوح. فإن كان لتفكير سياسي سوري صاح أن يتكون ويتطور فلا مناص من الانفصال عن العادات الكتابية العمومية العريقة والمواقع والأدوار المستجدة، ومن جعل سورية، الدولة والمجتمع، موضوعاً لتفكير المثقفين السوريين. فرص إصلاح سورية وتطورها السياسي لا تتوافق مع غفليتها الثقافية المستمرة. تتوافق مع إصلاح تفكير المثقفين السوريين، بل تقتضيه.