تدور في أرجاء هذا العالم، رحى مصيبة غذائية عالمية جديدة، بعد أقل من ثلاثة أعوام فقط من أزمة الغذاء، التي صاحبت مقدمات وانفجار الأزمة الاقتصادية العالمية. والمصيبة الجديدة، هي في الواقع ليست جديدة، إنها من تلك المصائب الموجودة بصورة مستمرة على الساحة العالمية، تبرز في أوقات الازدهار (والفقاعات الاقتصادية)، وأزمنة المحن والانكماش أيضاً. فالقضية ليست مرتبطة بمصرف مُنهار أو قيد الانهيار، بل بأفواه من حقها على العالم، أن تجد ما تُملئ به لتعيش، لا لتخزن الدهون. وإذا كانت قضايا المصارف المؤسسات المتعثرة والمنهارة، تخص العالم المتقدم ( وخصت غصباً العالم غير المتقدم)، فإن مصيبة الغذاء لا تخص عملياً، إلا الدول الفقيرة، التي تعيش في عالم مجهول المستقبل، ومتلاطم المصير.
لنكن صرحاء لبعض الوقت. لم تنفع قمم الغذاء والمؤتمرات المنبثقة عنها واللجان المُشَكلة منها، طوال العقود التي تلت الحرب العالمية الثانية، في الوصول إلى صيغة مُرضية، لعلاج أزمة الغذاء العالمي، مع التقدير – بالطبع – لحسن النوايا في هذا المجال ( وهي موجودة، بصرف النظر عن زخمها). وأقصى ما وفرته هذه المحافل الموسمية وأدواتها، أرضية هشة، لا تصمد أمام " أرق" الأزمات!. أرضية تتلاشى مع أول مشكلة، سواء أكانت بيئية أو بشرية أو اقتصادية أو سياسية. أرضية يغرق فيها المنقذون، فما بالنا بالمُنقَذين!. وسواء عُقدت هذه المؤتمرات أو لم تُعقد، فالأمر سيان. ففي الحالتين، الغذاء لن يتوفر، وإن توفر فإن لا يبلغ المستوى الآمن. وعندما انفجرت الأزمة الاقتصادية العالمية، لم يُصب الغذاء بمقتل فحسب، بل أصيبت كل المخططات الهادفة إلى إيجاد احتياطي غذائي معقول، وضربت احتياطياً غذائياً متواضعاً جداً كان موجوداً على الساحة. ولو أضفنا، الآثار الخطيرة للتغير المناخي، والكوارث الطبيعية التي تضرب مواقع الإنتاج الغذائي في العالم، فإننا أمام كارثة، ناتجة عن مسببات بشرية وبيئية واقتصادية.. بل وحتى سياسية. إنها كارثة كاملة، مثل الجريمة الكاملة. وعلى الرغم من التراجع المواضع لبعض أسعار المواد الغذائية – على المستوى العالمي – في العامين الماضيين، إلا أن هذا لم ينفع الفقراء، لأن الأزمة الاقتصادية العالمية قضمت مداخيلهم. فالذي كان يعيش على دولارين أميركيين في اليوم الواحد، أصبح يحيا على دولار واحد فقط!. أي أن الأسعار مهما تراجعت، لا تمثل فرصة مواتية وجيدة لهذا الفقير، لسد رمقه.
الذي يحدث بعد عامين تقريباً من اندلاع الأزمة الاقتصادية، أن أسعار المواد الغذائية ارتفعت بصورة كبيرة، دون ارتفاع دخل الفرد معها، وخصوصاً في البلدان الفقيرة. والحقيقة أن أحداً لا يستطيع أن يتنبأ بارتفاع المداخيل، في الوقت الذي لا يزال فيه العالم، يلمم جراح الأزمة، ولا يزال يسعى إلى وضع تصور معقول وواقعي للنظام الاقتصادي العالمي، تجنباً لأزمة جديدة ربما تكون أكثر "فجوراً" من تلك التي نحياها. وعلى هذا الأساس أطلقت الأمم المتحدة تحذيراً خطيراً، عن طريق مقررها أوليفييه دو شوتر المعني بقضايا الغذاء، الذي قال : "إن غالبية الدول الفقيرة معرضة لخطر أزمات غذاء بسبب أسعار المواد الغذائية الأساسية في السوق العالمية، حيث سجلت ارتفاعات كبيرة في سعر القمح، على أثر الجفاف الذي أدى إلى الحرائق في روسيا". وحسب شوتر، فإن ارتفاع الأسعار أدى – على سبيل المثال – إلى زيادة أسعار الخبر في بلد معدم كموزمبيق بنسبة 33 في المائة!.
لن أتحدث هنا عن تبعات ارتفاع الأسعار على الاستقرار الأمني والسياسي في أكثر من خمسين بلداً. فهذه لوحدها كارثة، تُراكم طاقتها للانفجار في أي لحظة، مع العلم بأنها انفجرت بالفعل في بعض الدول الفقيرة. وربما كانت الحكومة الموزمبيقية تحلت ببعض الحكمة، عندما تراجعت عن زيادة أسعار الخبز، ولكن بعد ماذا؟ بعد اندلاع احتجاجات أدت إلى مقتل 13 شخصاً و400 جريح و300 معقل!. وفي العالم العربي، حدث الأمر نفسه – ولو بصورة أقل عنفاً – في مصر. فيكفي مقتل شخص واحد فقط بسبب رغيف خبز، لتقترب الكارثة من الأبواب. وبالفعل أشارت تقارير صدرت في أعقاب قمة الأمن الغذائي العالمي، التي عقدت في روما قبل عامين تقريباً، برعاية منظمة الأمم المتحدة للأغذية والزراعة (فاو).. أشارت إلى أن ارتفاع أسعار الطعام بات يهدد بسقوط نظم الحكم في 50 دولة، وتوقع روبرت زوليك رئيس مجموعة الغذاء في البنك الدولي، "حدوث مزيد من أعمال الشغب المرتبطة بالطعام، وتفاقم الاضطرابات والمظاهرات، خاصة في النظم التي غابت فيها العدالة الاجتماعية، واتسعت فيها الفوارق الطبقية". ففي أعقاب ارتفاع أسعار المواد الغذائية، سقطت حكومتا هاييتي ومدغشقر، وبالتأكيد فإن تداعي الحكومات لن يتوقف عند هاتين الحكومتين.
نحن نعلم أنه في غضون عام واحد فقط من اندلاع الأزمة، ارتفع عدد الجياع في هذا العالم من 800 مليون نسمة إلى مليار و200 مليون . فهؤلاء لا يعانون من الفقر بل من الجوع، أي أنهم دون الفقراء!. وهناك 25 ألف شخص و10 آلاف طفل يموتون يومياً – وليس كل قرن من الزمن – من الجوع. والمصيبة أن ظاهرة الموت جوعاً – لا حباً – وصلت إلى دول لم تكن تعرفها من قبل. وتكفي الإشارة إلى أن الأسعار المرتفعة للمواد الغذائية التي تُرهق الأميركيين الأكثر غنى نسبياً مقارنة بغالبية دول العالم، هي مدمرة بالنسبة للبلدان الفقيرة، حيث تنفق العائلات أكثر من نصف دخلها على الغذاء.
تقول الأديبة الأميركية بيرل باكس : "إن الجوع يحول أي رجل إلى لص". ولكي يُبقي العالم على "الرجال" شرفاء، عليه الوصول بأسرع وقت ممكن، إلى حلول ناجعة لهذه الكارثة. وإحدى المشاكل التي تعمق هذه الكارثة، أن الدول المانحة تركز على العون الغذائي ( رغم قلته)، أكثر من اهتمامها في توفير المساعدات الخاصة بالتنمية. فالولايات المتحدة الأميركية أنفقت لوحدها – حسب الإحصائيات الرسمية - أكثر من 20 ضعفاً على العون الغذائي لإفريقيا، بدلاً من مساعدات التنمية!. وإذا كان العون الغذائي يؤدي إلى تهدئة الأوضاع السياسية ( ولا أقول الاقتصادية والمعيشية)، فإن التنمية تؤدي حتماً إلى الاستقرار السياسي والاقتصادي والمعيشي أيضاً. ومن المصائب أيضاً، أن الأزمة الاقتصادية العالمية، ضغطت بصورة تاريخية على الموازنات المخصصة للعون الغذائي نفسه. وهذا يكرس القضية كـ " كارثة كاملة"!. فالرغيف الكامل، "كش" حجمه إلى النصف، وفي كثير من الأحيان إلى الثلث. وليس مستبعداً في هذه العالم، وفي ظل الفشل في تأمين الغذاء، أن تُوزع الحبوب عداً .. لا كميةً!.
الأزمة العالمية، كانت بلاشك سبباً مباشراً لاستفحال أزمة الغذاء، ولكن السبب الرئيسي الأول، يعود إلى السياسات التي أبطأت النمو الزراعي في الدول الفقيرة، في العقدين الماضيين، وإلى تراجع الاستثمارات الأجنبية في الزراعة.
يقول مايكل بولان مؤلف كتاب "دفاعا عن الغذاء": " لقد خلقنا حالة سباق بين السيارات الأميركية السريعة، وهياكل الأطفال العظمية في إفريقيا.. ويمكننا أن نرى من الفائز". والحقيقة أنه لا فائز هنا. فـ " قنبلة الفقر والجوع"، لن تُحدث أضراراً في محيطها، بل ستنشر حممها وبراكينها في كل الأرجاء.
-------------------------
m@karkouti.net
لنكن صرحاء لبعض الوقت. لم تنفع قمم الغذاء والمؤتمرات المنبثقة عنها واللجان المُشَكلة منها، طوال العقود التي تلت الحرب العالمية الثانية، في الوصول إلى صيغة مُرضية، لعلاج أزمة الغذاء العالمي، مع التقدير – بالطبع – لحسن النوايا في هذا المجال ( وهي موجودة، بصرف النظر عن زخمها). وأقصى ما وفرته هذه المحافل الموسمية وأدواتها، أرضية هشة، لا تصمد أمام " أرق" الأزمات!. أرضية تتلاشى مع أول مشكلة، سواء أكانت بيئية أو بشرية أو اقتصادية أو سياسية. أرضية يغرق فيها المنقذون، فما بالنا بالمُنقَذين!. وسواء عُقدت هذه المؤتمرات أو لم تُعقد، فالأمر سيان. ففي الحالتين، الغذاء لن يتوفر، وإن توفر فإن لا يبلغ المستوى الآمن. وعندما انفجرت الأزمة الاقتصادية العالمية، لم يُصب الغذاء بمقتل فحسب، بل أصيبت كل المخططات الهادفة إلى إيجاد احتياطي غذائي معقول، وضربت احتياطياً غذائياً متواضعاً جداً كان موجوداً على الساحة. ولو أضفنا، الآثار الخطيرة للتغير المناخي، والكوارث الطبيعية التي تضرب مواقع الإنتاج الغذائي في العالم، فإننا أمام كارثة، ناتجة عن مسببات بشرية وبيئية واقتصادية.. بل وحتى سياسية. إنها كارثة كاملة، مثل الجريمة الكاملة. وعلى الرغم من التراجع المواضع لبعض أسعار المواد الغذائية – على المستوى العالمي – في العامين الماضيين، إلا أن هذا لم ينفع الفقراء، لأن الأزمة الاقتصادية العالمية قضمت مداخيلهم. فالذي كان يعيش على دولارين أميركيين في اليوم الواحد، أصبح يحيا على دولار واحد فقط!. أي أن الأسعار مهما تراجعت، لا تمثل فرصة مواتية وجيدة لهذا الفقير، لسد رمقه.
الذي يحدث بعد عامين تقريباً من اندلاع الأزمة الاقتصادية، أن أسعار المواد الغذائية ارتفعت بصورة كبيرة، دون ارتفاع دخل الفرد معها، وخصوصاً في البلدان الفقيرة. والحقيقة أن أحداً لا يستطيع أن يتنبأ بارتفاع المداخيل، في الوقت الذي لا يزال فيه العالم، يلمم جراح الأزمة، ولا يزال يسعى إلى وضع تصور معقول وواقعي للنظام الاقتصادي العالمي، تجنباً لأزمة جديدة ربما تكون أكثر "فجوراً" من تلك التي نحياها. وعلى هذا الأساس أطلقت الأمم المتحدة تحذيراً خطيراً، عن طريق مقررها أوليفييه دو شوتر المعني بقضايا الغذاء، الذي قال : "إن غالبية الدول الفقيرة معرضة لخطر أزمات غذاء بسبب أسعار المواد الغذائية الأساسية في السوق العالمية، حيث سجلت ارتفاعات كبيرة في سعر القمح، على أثر الجفاف الذي أدى إلى الحرائق في روسيا". وحسب شوتر، فإن ارتفاع الأسعار أدى – على سبيل المثال – إلى زيادة أسعار الخبر في بلد معدم كموزمبيق بنسبة 33 في المائة!.
لن أتحدث هنا عن تبعات ارتفاع الأسعار على الاستقرار الأمني والسياسي في أكثر من خمسين بلداً. فهذه لوحدها كارثة، تُراكم طاقتها للانفجار في أي لحظة، مع العلم بأنها انفجرت بالفعل في بعض الدول الفقيرة. وربما كانت الحكومة الموزمبيقية تحلت ببعض الحكمة، عندما تراجعت عن زيادة أسعار الخبز، ولكن بعد ماذا؟ بعد اندلاع احتجاجات أدت إلى مقتل 13 شخصاً و400 جريح و300 معقل!. وفي العالم العربي، حدث الأمر نفسه – ولو بصورة أقل عنفاً – في مصر. فيكفي مقتل شخص واحد فقط بسبب رغيف خبز، لتقترب الكارثة من الأبواب. وبالفعل أشارت تقارير صدرت في أعقاب قمة الأمن الغذائي العالمي، التي عقدت في روما قبل عامين تقريباً، برعاية منظمة الأمم المتحدة للأغذية والزراعة (فاو).. أشارت إلى أن ارتفاع أسعار الطعام بات يهدد بسقوط نظم الحكم في 50 دولة، وتوقع روبرت زوليك رئيس مجموعة الغذاء في البنك الدولي، "حدوث مزيد من أعمال الشغب المرتبطة بالطعام، وتفاقم الاضطرابات والمظاهرات، خاصة في النظم التي غابت فيها العدالة الاجتماعية، واتسعت فيها الفوارق الطبقية". ففي أعقاب ارتفاع أسعار المواد الغذائية، سقطت حكومتا هاييتي ومدغشقر، وبالتأكيد فإن تداعي الحكومات لن يتوقف عند هاتين الحكومتين.
نحن نعلم أنه في غضون عام واحد فقط من اندلاع الأزمة، ارتفع عدد الجياع في هذا العالم من 800 مليون نسمة إلى مليار و200 مليون . فهؤلاء لا يعانون من الفقر بل من الجوع، أي أنهم دون الفقراء!. وهناك 25 ألف شخص و10 آلاف طفل يموتون يومياً – وليس كل قرن من الزمن – من الجوع. والمصيبة أن ظاهرة الموت جوعاً – لا حباً – وصلت إلى دول لم تكن تعرفها من قبل. وتكفي الإشارة إلى أن الأسعار المرتفعة للمواد الغذائية التي تُرهق الأميركيين الأكثر غنى نسبياً مقارنة بغالبية دول العالم، هي مدمرة بالنسبة للبلدان الفقيرة، حيث تنفق العائلات أكثر من نصف دخلها على الغذاء.
تقول الأديبة الأميركية بيرل باكس : "إن الجوع يحول أي رجل إلى لص". ولكي يُبقي العالم على "الرجال" شرفاء، عليه الوصول بأسرع وقت ممكن، إلى حلول ناجعة لهذه الكارثة. وإحدى المشاكل التي تعمق هذه الكارثة، أن الدول المانحة تركز على العون الغذائي ( رغم قلته)، أكثر من اهتمامها في توفير المساعدات الخاصة بالتنمية. فالولايات المتحدة الأميركية أنفقت لوحدها – حسب الإحصائيات الرسمية - أكثر من 20 ضعفاً على العون الغذائي لإفريقيا، بدلاً من مساعدات التنمية!. وإذا كان العون الغذائي يؤدي إلى تهدئة الأوضاع السياسية ( ولا أقول الاقتصادية والمعيشية)، فإن التنمية تؤدي حتماً إلى الاستقرار السياسي والاقتصادي والمعيشي أيضاً. ومن المصائب أيضاً، أن الأزمة الاقتصادية العالمية، ضغطت بصورة تاريخية على الموازنات المخصصة للعون الغذائي نفسه. وهذا يكرس القضية كـ " كارثة كاملة"!. فالرغيف الكامل، "كش" حجمه إلى النصف، وفي كثير من الأحيان إلى الثلث. وليس مستبعداً في هذه العالم، وفي ظل الفشل في تأمين الغذاء، أن تُوزع الحبوب عداً .. لا كميةً!.
الأزمة العالمية، كانت بلاشك سبباً مباشراً لاستفحال أزمة الغذاء، ولكن السبب الرئيسي الأول، يعود إلى السياسات التي أبطأت النمو الزراعي في الدول الفقيرة، في العقدين الماضيين، وإلى تراجع الاستثمارات الأجنبية في الزراعة.
يقول مايكل بولان مؤلف كتاب "دفاعا عن الغذاء": " لقد خلقنا حالة سباق بين السيارات الأميركية السريعة، وهياكل الأطفال العظمية في إفريقيا.. ويمكننا أن نرى من الفائز". والحقيقة أنه لا فائز هنا. فـ " قنبلة الفقر والجوع"، لن تُحدث أضراراً في محيطها، بل ستنشر حممها وبراكينها في كل الأرجاء.
-------------------------
m@karkouti.net