لكن الصورة لم تكُـن عادية في الواقع. السّـبب؟ طبيعة المكان الذي عُـقد فيه الحفل: مداخل الضاحية الجنوبية من بيروت، التي تُـعتبر المعقل الرئيسي لحزب الله اللبناني أو حتى عاصمته، التي توجد فيها مقرّاته العسكرية وهياكِـله المدنية والسياسية، وبالتالي، كان مستحيلاً أن يتمكّـن المعارضون السوريون من القِـيام بتظاهرتِـهم الفنية والثقافية من دون المُـوافقة التامة للحزب (حزب الله). صحيح أن أنصار النظام السوري نظّـموا تظاهرة مضادّة بالطبل والزمر وصُـور الرئيس بشار الأسد في الشارع المقابل مباشرة للمسرح الذي جرى فيه الحفل الفني المعارض، إلا أن هذا لم يؤدِّ لا إلى فضّ الحفل ولا إلى إسقاط المضمون الرّمزي للحدث، وهو أن حزب الله وافَـق للمرة الأولى على السماح للمعارضة السورية بالتحرّك داخل "مجاله الحيوي".
حَـرج إيراني
بالطَّـبع، وبسبب العلاقة الإستراتيجية والأيديولوجية الوثيقة بين حزب الله وبين إيران، دلّ هذا التطوّر على وجود تغيُّـر أيضاً في الموقف الإيراني: من الدّعم المُـطلق للنظام السوري واعتبار الانتفاضة جزءاً من "مؤامرة إمبريالية" ضدّه، إلى اتخاذ موقِـف أكثر توازناً، نسبياً، إزاء كلٍّ من المعارضة والنظام.
دوافِـع هذا التحوّل واضحة: شعور طهران بالحَـرج الشديد من عجْـز الرئيس بشار الأسد عن احتواء الإنتفاضة، سواء بالقوة أو عبْـر الإصلاحات الطفيفة، ولِـذا، فهي تُـحاول الآن القيام بخطوات تكتيكية للحدّ من الخسائر الفادِحة التي لحِـقت بصورتها وسُـمعتها في سوريا وبقية المنطقة العربية من جرّاء دعمها، العلني والسرّي المُـطلقيْـن، للنظام السوري.
أولى هذه الخطوات، تمثّلت في استقبال طهران لمُـمثلين عن المعارضة السورية، في مسعىً واضِـح للقيام بوساطة ما بين النظام والمنتفضين عليه، ثم في البيانات الصريحة للرئيس الإيراني أحمدي نجاد، الذي تحدّث عن الحاجة إلى "إصلاحات ضرورية" في سوريا، ولوزير الخارجية الإيراني علي أكبر صالحي، الذي دعا الأسد إلى "الإستجابة لمطالِـب شعبه الشرعية".
ويقول مسؤول إيراني سابق (في تصريحات نشرتها فايننشال تايمز بتاريخ 16 سبتمبر 2011): "إيران لا ترى مناصاً من دعْـم الإصلاحات في سبيل شراء الوقت، وكي لا تبدو أنها تقِـف ضد الرأي العام العربي"، وهذا رأي يحظى بتأييد المُـحلِّـلين السياسيين في المنطقة، الذين يقولون إن الانتفاضة السورية كشفَـت عن تناقُـضات فاقِـعة في موقف إيران من ثورات الربيع العربي، إذ هي أشادت بهذه الثورات، لكونها (كما قال مرشد الثورة خامنئي) "يقَـظة إسلامية تستوحي ثورة إيران عام 1979"، لكن، حين تعلّق الأمر بسوريا، تراجعت طهران عن هذا التَّـوصيف واعتبرت الثورة السورية "مُـؤامرة خارجية، هدفها دعْـم إسرائيل".
هذا الموقف ضعْـضع إلى حدٍّ بعيد النُّـفوذ السياسي والاستراتيجي الإيراني في الشرق الأوسط العربي، الذي لم تحقِّـقه طهران إلا بشقِّ النفس على مدى العقديْـن الماضييْـن وبتكلفة مالية واقتصادية باهظة، ودفع المنتفضين السوريين إلى طرْح شعارات علَـنية، تُـندِّد بإيران وحسن نصر الله، زعيم حزب الله، وتتِّـهمُـهما بدعْـم النظام، سياسياً وحتى بالرِّجال والعتاد.
.. وانقلاب دولي
بالطبع، هذا التغيّـر في موقف إيران لن يؤدِّي بأي حالٍ من الأحوال إلى تخلّـيها عن مواصلة دعْـم النظام السوري حتى الرّمق الأخير، ولا حتى إلى تأييد إصلاحات ديموقراطية جِـذرية في سوريا، قد تؤدّي في خاتمة المطاف إلى تنحِـية الأسد بالطُّـرق السلمية، إذ أن ذلك سيعني خسارة الركيزة الاستراتيجية الأولى للنفوذ الإيراني في المنطقة العربية.
ومع ذلك، هذا التطوّر الإيراني يوضِّـح مدى عُـمْـق ورْطة النظام السوري، حيث أن أقرب حلفائِـه غيْـر قادر، لا على تغطية نظريته حول كون الانتفاضة مؤامرة خارجية، ولا على دعم أسلوبه الدّموي العنيف في قمْـع الثورة الشعبية، الذي أدّى حتى الآن إلى مصرَع نحو 2600 شخص وإصابة عشرات الآلاف بجروح، هذا ناهيك عن عشرات آلاف المعتقلين في سُـجون أقِـيمت على عجَـل في طول البلاد وعرضها.
وجنباً إلى جنب مع هذا الحدث الإيراني، كان النظام الدولي يشهَـد تطوراً لا يقل خطورة لغيْـر صالح النظام السوري. فقبل أشهر قليلة فقط، كان التبايُـن واضحاً وجلِـياً في موقفَـيْ الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة من التطوّرات في بلاد الشام، إذ أن الأولى كانت تدعو إلى الدّفع باتجاه ترتيبات جديدة لتقاسُـم السلطة بين النظام السوري وبين المعارضة، فيما الثانية، كانت تحُـثُّ على ممارسة كلّ أنواع الضغوط على هذا النظام، للعمل إما على تغيير سلوكه أو حتى تغييره هو نفسه.
بيْـد أن هذا التبايُـن تبدّد مؤخّـراً وظهر بدلاً منه إجماع أوروبي – أمريكي، هو الأول من نوعه منذ نهاية الحرب الباردة، يدعو إلى ممارسة "الدبلوماسية القسرية"، بدلاً من "الدبلوماسية اللطيفة"، في مقاربة النظام السوري وبقية الأنظمة العربية. ويوضح راي تقية، المحلِّـل الأمريكي الإيراني الأصل، أن هذا الإجماع "يعني أننا ربما دخلنا في عصْـر جديد، حيث الولايات المتحدة وحلفاؤها الأوروبيون يُـمكنهم تحقيق أهدافهم القُـصوى في الشرق الأوسط، من خلال الوسائل الاقتصادية والسياسية، وحتى من دون استِـخدام القوة العسكرية" في بعض الأحيان. ويوضِّـح تقية طبيعة هذا الإجماع كالتالي: فيما كانت الولايات المتحدة تقبَـل الحاجة إلى إئتلافات دولية للتَّـعاطي مع المشاكل الإقليمية، كان يبرز على المسرح قادَة أوروبيون، على غِـرار الرئيس الفرنسي ساركوزي، يروْن أن الإغراءات المالية والكلمات المعسولة لن تغيِّـر شيئاً من سلوكيات الأنظمة السُّـلطوية والأيديولوجيات المتطرِّفة"، وهذا موقف عزَّزته إدارة أوباما واسنَـدته إلى المنظمات الدولية (الأمم المتحدة، المحاكم الدولية، منظمات حقوق الإنسان العالمية، إلخ). هذه الوحدة الغربية المستجدّة، عجَّلت وستعجل أكثر في سقوط الأنظمة السُّـلطوية العربية عبْـر وسيلتين إثنتين: قطْـع الصَّـنابير الاقتصادية والسياسية عنها، والتهديد في كل حين باستخدام القوة العسكرية (كما في ليبيا)، إذا ما قرّرت هذه الأنظمة استخدام كل أذرُعها العسكرية ضدّ شعوبها المنتفِـضة.
روسيا والصين
هذا عن الأوروبيين والأمريكيين في النظام الدولي. فماذا عن الصين وروسيا؟
قد لا تكون هاتان الدولتان مسرورَتيْـن بهذا التطابُـق الوِفاقي المُـستجَـد بين أوروبا وأمريكا، لكنهما ستكونان محكومتيْـن بمُـماشاته أو على الأقل بعدم الاصطِـدام به، وهذا يصحّ على وجه الخصوص بالنِّـسبة إلى الصين، على رغْـم صعودها الكاسِـح إلى قمرة القيادة العالمية وعلى رغْـم مصالحها النّـفطية والاقتصادية في منطقة الشرق الأوسط الكبير وإفريقيا، إذ أن بكين (بيجين) تَـعي تماماً الدّور المركزي للاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة في الأسواق العالمية، وتُـعطيه الأولوية القُـصوى على أيّ علاقات لها مع الأنظمة السُّـلطوية العربية. فلَـون القطة، كما اعتاد مهندس النهضة الصينية الراهنة دنغ هسياو بينغ، ليس هاماً، طالما أن هذه القطة تصيد الفئران (وهي هنا المصالح الاقتصادية الصينية).
وروسيا، قد لا تكون بعيدة عن الصين في هذا المِـضمار. فهي أيضاً، على سبيل المثال، فضَّـلت مصالحها الإقتصادية مع فرنسا على علاقاتها التاريخية مع نظام القذافي في ليبيا. وعلى رغم أن موسكو تدعَـم بقوة الآن النظام السوري، الذي وفّـر لها نُـقطة ارتكاز عسكرية بحْـرية في ميناء اللاذقية، ولا تزال تحميه من قرارات مجلس الأمن، إلا أنها لن تكون قادِرة على تبرير العُـنف الذي يمارسه هذا النظام ضدّ شعبه، طويلاً في المحافل الدولية، هذا ناهيك عن عدم وجود مصلحة اقتصادية أو حتى إستراتيجية لها في تحدّي الإجماع الأوروبي - الأمريكي الرّاهن حيال تطوّرات الشرق الأوسط. كل ما هناك، أن روسيا ستُـحاول من الآن فصاعداً لعب دوْر أكبَـر في سوريا (عبْـر محاولة الوساطة بين النظام والمعارضة)، ثم توظيف ذلك في لُـعبة موازين القوى مع الأوروبيين والأمريكيين، إذ من السَّـذاجة الإعتقاد بأن موسكو قد تقدِّم للغرب جَـلد الدُّب السوري مجاناً أو بأسعار رخيصة.
العيْـن والمخرَز
ماذا تعني كل هذه التطوّرات بالنسبة إلى النظام السوري؟ وليد المعلم، وزير الخارجية السوري، رد في وقت مبكّـر على هذا السؤال بالقول، أن النظام السوري "قادِرٌ على تناسي وجود أوروبا على الخريطة".
حسناً. ربما كان هذا ممكنا، لكن التناسي شيء والنسيان شيء آخر. فالتناسي فِـعل إرادي، فيما النسيان قد يكون مرضاً خطيرا، وهذا يصح على وجْـه الخصوص فيما يتعلّـق بوجود أوروبا، ليس فقط على الخريطة، بل أيضاً بوصفها الشريك التجاري الأكبر لسوريا في العالم والطرف الوحيد القادِر على إخراجها من عُـزلتها الدولية.
والآن، وبعد وِلادة "الوفاق" الأوروبي-الأمريكي الجديد ومع الإبتعاد التدريجي للصين وروسيا عن سوريا ومع حَـرج إيران ودخول تركيا القوي على خطّ الدعوة إلى تغيير النظام السوري، سيكتمل الطَّـوق الاقتصادي والسياسي والأخلاقي حول رقبة النظام السوري، وقد نشهد قريباً نتيجة لذلك، بدء تفكُّـك الطبقة الحاكمة السورية وتزايد وتائِـر الانشقاقات في الجيش السوري، لا بل يذهب راي تقية إلى حدّ القول بأن النظام السوري برمَّـته قد ينهار فجأة.
أجل. فالعيْـن، حتى لو كانت ثاقِـبة، لا تستطيع أن تُـقاوم مخرز هذا الضغط الدولي (والإقليمي) الهائل، في الوقت نفسه الذي تفقد فيه هذه العيْـن القُـدرة على مشاهدة ما يجري فوق 180 ألف كيلومتر مربّـع، هي مساحة سوريا.
حَـرج إيراني
بالطَّـبع، وبسبب العلاقة الإستراتيجية والأيديولوجية الوثيقة بين حزب الله وبين إيران، دلّ هذا التطوّر على وجود تغيُّـر أيضاً في الموقف الإيراني: من الدّعم المُـطلق للنظام السوري واعتبار الانتفاضة جزءاً من "مؤامرة إمبريالية" ضدّه، إلى اتخاذ موقِـف أكثر توازناً، نسبياً، إزاء كلٍّ من المعارضة والنظام.
دوافِـع هذا التحوّل واضحة: شعور طهران بالحَـرج الشديد من عجْـز الرئيس بشار الأسد عن احتواء الإنتفاضة، سواء بالقوة أو عبْـر الإصلاحات الطفيفة، ولِـذا، فهي تُـحاول الآن القيام بخطوات تكتيكية للحدّ من الخسائر الفادِحة التي لحِـقت بصورتها وسُـمعتها في سوريا وبقية المنطقة العربية من جرّاء دعمها، العلني والسرّي المُـطلقيْـن، للنظام السوري.
أولى هذه الخطوات، تمثّلت في استقبال طهران لمُـمثلين عن المعارضة السورية، في مسعىً واضِـح للقيام بوساطة ما بين النظام والمنتفضين عليه، ثم في البيانات الصريحة للرئيس الإيراني أحمدي نجاد، الذي تحدّث عن الحاجة إلى "إصلاحات ضرورية" في سوريا، ولوزير الخارجية الإيراني علي أكبر صالحي، الذي دعا الأسد إلى "الإستجابة لمطالِـب شعبه الشرعية".
ويقول مسؤول إيراني سابق (في تصريحات نشرتها فايننشال تايمز بتاريخ 16 سبتمبر 2011): "إيران لا ترى مناصاً من دعْـم الإصلاحات في سبيل شراء الوقت، وكي لا تبدو أنها تقِـف ضد الرأي العام العربي"، وهذا رأي يحظى بتأييد المُـحلِّـلين السياسيين في المنطقة، الذين يقولون إن الانتفاضة السورية كشفَـت عن تناقُـضات فاقِـعة في موقف إيران من ثورات الربيع العربي، إذ هي أشادت بهذه الثورات، لكونها (كما قال مرشد الثورة خامنئي) "يقَـظة إسلامية تستوحي ثورة إيران عام 1979"، لكن، حين تعلّق الأمر بسوريا، تراجعت طهران عن هذا التَّـوصيف واعتبرت الثورة السورية "مُـؤامرة خارجية، هدفها دعْـم إسرائيل".
هذا الموقف ضعْـضع إلى حدٍّ بعيد النُّـفوذ السياسي والاستراتيجي الإيراني في الشرق الأوسط العربي، الذي لم تحقِّـقه طهران إلا بشقِّ النفس على مدى العقديْـن الماضييْـن وبتكلفة مالية واقتصادية باهظة، ودفع المنتفضين السوريين إلى طرْح شعارات علَـنية، تُـندِّد بإيران وحسن نصر الله، زعيم حزب الله، وتتِّـهمُـهما بدعْـم النظام، سياسياً وحتى بالرِّجال والعتاد.
.. وانقلاب دولي
بالطبع، هذا التغيّـر في موقف إيران لن يؤدِّي بأي حالٍ من الأحوال إلى تخلّـيها عن مواصلة دعْـم النظام السوري حتى الرّمق الأخير، ولا حتى إلى تأييد إصلاحات ديموقراطية جِـذرية في سوريا، قد تؤدّي في خاتمة المطاف إلى تنحِـية الأسد بالطُّـرق السلمية، إذ أن ذلك سيعني خسارة الركيزة الاستراتيجية الأولى للنفوذ الإيراني في المنطقة العربية.
ومع ذلك، هذا التطوّر الإيراني يوضِّـح مدى عُـمْـق ورْطة النظام السوري، حيث أن أقرب حلفائِـه غيْـر قادر، لا على تغطية نظريته حول كون الانتفاضة مؤامرة خارجية، ولا على دعم أسلوبه الدّموي العنيف في قمْـع الثورة الشعبية، الذي أدّى حتى الآن إلى مصرَع نحو 2600 شخص وإصابة عشرات الآلاف بجروح، هذا ناهيك عن عشرات آلاف المعتقلين في سُـجون أقِـيمت على عجَـل في طول البلاد وعرضها.
وجنباً إلى جنب مع هذا الحدث الإيراني، كان النظام الدولي يشهَـد تطوراً لا يقل خطورة لغيْـر صالح النظام السوري. فقبل أشهر قليلة فقط، كان التبايُـن واضحاً وجلِـياً في موقفَـيْ الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة من التطوّرات في بلاد الشام، إذ أن الأولى كانت تدعو إلى الدّفع باتجاه ترتيبات جديدة لتقاسُـم السلطة بين النظام السوري وبين المعارضة، فيما الثانية، كانت تحُـثُّ على ممارسة كلّ أنواع الضغوط على هذا النظام، للعمل إما على تغيير سلوكه أو حتى تغييره هو نفسه.
بيْـد أن هذا التبايُـن تبدّد مؤخّـراً وظهر بدلاً منه إجماع أوروبي – أمريكي، هو الأول من نوعه منذ نهاية الحرب الباردة، يدعو إلى ممارسة "الدبلوماسية القسرية"، بدلاً من "الدبلوماسية اللطيفة"، في مقاربة النظام السوري وبقية الأنظمة العربية. ويوضح راي تقية، المحلِّـل الأمريكي الإيراني الأصل، أن هذا الإجماع "يعني أننا ربما دخلنا في عصْـر جديد، حيث الولايات المتحدة وحلفاؤها الأوروبيون يُـمكنهم تحقيق أهدافهم القُـصوى في الشرق الأوسط، من خلال الوسائل الاقتصادية والسياسية، وحتى من دون استِـخدام القوة العسكرية" في بعض الأحيان. ويوضِّـح تقية طبيعة هذا الإجماع كالتالي: فيما كانت الولايات المتحدة تقبَـل الحاجة إلى إئتلافات دولية للتَّـعاطي مع المشاكل الإقليمية، كان يبرز على المسرح قادَة أوروبيون، على غِـرار الرئيس الفرنسي ساركوزي، يروْن أن الإغراءات المالية والكلمات المعسولة لن تغيِّـر شيئاً من سلوكيات الأنظمة السُّـلطوية والأيديولوجيات المتطرِّفة"، وهذا موقف عزَّزته إدارة أوباما واسنَـدته إلى المنظمات الدولية (الأمم المتحدة، المحاكم الدولية، منظمات حقوق الإنسان العالمية، إلخ). هذه الوحدة الغربية المستجدّة، عجَّلت وستعجل أكثر في سقوط الأنظمة السُّـلطوية العربية عبْـر وسيلتين إثنتين: قطْـع الصَّـنابير الاقتصادية والسياسية عنها، والتهديد في كل حين باستخدام القوة العسكرية (كما في ليبيا)، إذا ما قرّرت هذه الأنظمة استخدام كل أذرُعها العسكرية ضدّ شعوبها المنتفِـضة.
روسيا والصين
هذا عن الأوروبيين والأمريكيين في النظام الدولي. فماذا عن الصين وروسيا؟
قد لا تكون هاتان الدولتان مسرورَتيْـن بهذا التطابُـق الوِفاقي المُـستجَـد بين أوروبا وأمريكا، لكنهما ستكونان محكومتيْـن بمُـماشاته أو على الأقل بعدم الاصطِـدام به، وهذا يصحّ على وجه الخصوص بالنِّـسبة إلى الصين، على رغْـم صعودها الكاسِـح إلى قمرة القيادة العالمية وعلى رغْـم مصالحها النّـفطية والاقتصادية في منطقة الشرق الأوسط الكبير وإفريقيا، إذ أن بكين (بيجين) تَـعي تماماً الدّور المركزي للاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة في الأسواق العالمية، وتُـعطيه الأولوية القُـصوى على أيّ علاقات لها مع الأنظمة السُّـلطوية العربية. فلَـون القطة، كما اعتاد مهندس النهضة الصينية الراهنة دنغ هسياو بينغ، ليس هاماً، طالما أن هذه القطة تصيد الفئران (وهي هنا المصالح الاقتصادية الصينية).
وروسيا، قد لا تكون بعيدة عن الصين في هذا المِـضمار. فهي أيضاً، على سبيل المثال، فضَّـلت مصالحها الإقتصادية مع فرنسا على علاقاتها التاريخية مع نظام القذافي في ليبيا. وعلى رغم أن موسكو تدعَـم بقوة الآن النظام السوري، الذي وفّـر لها نُـقطة ارتكاز عسكرية بحْـرية في ميناء اللاذقية، ولا تزال تحميه من قرارات مجلس الأمن، إلا أنها لن تكون قادِرة على تبرير العُـنف الذي يمارسه هذا النظام ضدّ شعبه، طويلاً في المحافل الدولية، هذا ناهيك عن عدم وجود مصلحة اقتصادية أو حتى إستراتيجية لها في تحدّي الإجماع الأوروبي - الأمريكي الرّاهن حيال تطوّرات الشرق الأوسط. كل ما هناك، أن روسيا ستُـحاول من الآن فصاعداً لعب دوْر أكبَـر في سوريا (عبْـر محاولة الوساطة بين النظام والمعارضة)، ثم توظيف ذلك في لُـعبة موازين القوى مع الأوروبيين والأمريكيين، إذ من السَّـذاجة الإعتقاد بأن موسكو قد تقدِّم للغرب جَـلد الدُّب السوري مجاناً أو بأسعار رخيصة.
العيْـن والمخرَز
ماذا تعني كل هذه التطوّرات بالنسبة إلى النظام السوري؟ وليد المعلم، وزير الخارجية السوري، رد في وقت مبكّـر على هذا السؤال بالقول، أن النظام السوري "قادِرٌ على تناسي وجود أوروبا على الخريطة".
حسناً. ربما كان هذا ممكنا، لكن التناسي شيء والنسيان شيء آخر. فالتناسي فِـعل إرادي، فيما النسيان قد يكون مرضاً خطيرا، وهذا يصح على وجْـه الخصوص فيما يتعلّـق بوجود أوروبا، ليس فقط على الخريطة، بل أيضاً بوصفها الشريك التجاري الأكبر لسوريا في العالم والطرف الوحيد القادِر على إخراجها من عُـزلتها الدولية.
والآن، وبعد وِلادة "الوفاق" الأوروبي-الأمريكي الجديد ومع الإبتعاد التدريجي للصين وروسيا عن سوريا ومع حَـرج إيران ودخول تركيا القوي على خطّ الدعوة إلى تغيير النظام السوري، سيكتمل الطَّـوق الاقتصادي والسياسي والأخلاقي حول رقبة النظام السوري، وقد نشهد قريباً نتيجة لذلك، بدء تفكُّـك الطبقة الحاكمة السورية وتزايد وتائِـر الانشقاقات في الجيش السوري، لا بل يذهب راي تقية إلى حدّ القول بأن النظام السوري برمَّـته قد ينهار فجأة.
أجل. فالعيْـن، حتى لو كانت ثاقِـبة، لا تستطيع أن تُـقاوم مخرز هذا الضغط الدولي (والإقليمي) الهائل، في الوقت نفسه الذي تفقد فيه هذه العيْـن القُـدرة على مشاهدة ما يجري فوق 180 ألف كيلومتر مربّـع، هي مساحة سوريا.