نظرا للصعوبات الاقتصادية التي رافقت الجائحة وأعقبتها اضطررنا لإيقاف أقسام اللغات الأجنبية على أمل ان تعود لاحقا بعد ان تتغير الظروف

الهدهد: صحيفة اليكترونية عربية بخمس لغات عالمية
الهدهد: صحيفة اليكترونية عربية بأربع لغات عالمية
Rss
Facebook
Twitter
App Store
Mobile



عيون المقالات

العالم والشرق الأوسط بعد فوز ترامب

17/11/2024 - العميد الركن مصطفى الشيخ

إنّه سلام ما بعده سلام!

17/11/2024 - سمير التقي

( ألم يحنِ الوقتُ لنفهم الدرس؟ )

13/11/2024 - عبد الباسط سيدا*

طرابلس "المضطهدة" بين زمنين

13/11/2024 - د.محيي الدين اللاذقاني

اليونيسيف ومافيا آل كابوني دمشق

12/11/2024 - عبد الناصر حوشان

هل يشعل العراق حرباً إقليمية؟

09/11/2024 - عاصم عبد الرحمن


“ذئب العائلة”: صهيب أيّوب يفتح في روايته صناديق طرابلس السّفليّة






بين الخانكة وحارة الدكرمنجي وبناية اللعبي في طرابلس اللبنانية، تدور رواية صهيب أيوب المرصوفة في طبقات متراصّة تخفي بينها أسراراً وحكايا. نكتشف في كلّ طبقة شخوصاً وعوالم وأحداثاً لا تنتهي.طبقات اجتماعية اقتصادية وشاعرية وفلسفية لبشر يعيشون تحت التحت كأنّهم يختنقون في قبور مفتوحة… يتنفّسون، يأكلون ويشربون، لكنّهم أموات. لا يعرفون من العيش سوى الشعور بالخوف الذي يرافق كلّ شخصيات الرواية الكُثر… تماماً كما كان يشعر بطل الرواية حسن السبع المراهق الأبكم، المهمل والمنسيّ والمتروك لأقبية المدينة وشوارعها وصيّاديها.


 بين الخانكة وحارة الدكرمنجي وبناية اللعبي في طرابلس اللبنانية، تدور رواية صهيب أيوب المرصوفة في طبقات متراصّة تخفي بينها أسراراً وحكايا.

التّحرّر من الخوف يبدأ بالموت

يولد الخوف مع شخصيات صهيب أيوب (حسن، شمسة، خضر، وداد، جلنار، زياد، دولتشي فيتا)، وتتناقله الأجيال، ولا يتخلّصون منه إلا عبر الموت، الخلاص الأكبر من هذا الواقع المظلم الكئيب ومن الألم. شمسة الآتية من عالم البدو إلى طرابلس تروي: “فجأة، جاءتها رائحة جسمه (الهاء عائدة إلى الزوج حمد الخضر الذي هربت منه). شمّت رائحة خوفها. حين جاؤوا بها عروساً قبل سنوات تسرّبت رائحته إلى جسمها، عاشت في جلدها، كأنّها كانت تبحث عن بيت ووجدته فيها… خرجت الرائحة من جسمه الذي بدا قصيراً ودخلت فستانها… أصابها الخرس ليلة عرسها… نقلها إخوتها في شاحنة زيّنت بشلوح الآس، تلك التي ترمى على القبور، كأنّها اختيرت عمداً… أنزلوها في مخيّمها الجديد. تركوها كأنّهم تركوا غَنَمة”!

هناك الخوف العامّ من الآخر، سواء كان فكرة أو شخصاً أو مجتمعاً أو مكاناً. فيقول حمد الخضر مثلاً: “ظننّا حين كنّا صغاراً أنّ العالم ينتهي خلف الغابة، أي أنّه لا يعود عالمنا نحن بل عالم الوحوش التي تخيفنا في الليل”.

يولد الخوف مع شخصيات صهيب أيوب (حسن، شمسة، خضر، وداد، جلنار، زياد، دولتشي فيتا)، وتتناقله الأجيال، ولا يتخلّصون منه إلا عبر الموت

 كنا من حيث لم ننتبه نقفل على رغبتنا في الخوف… حين كبرت أدركت أن الخوف نرثه عن والدَينا كما نرث لون عيوننا… وكما نرث عنهما الحقد أيضاً. لذا نتمسّك بخيط الحقد ونمده من جيل الى جيل”. دولتشي فيتا الرجل بهيئة امرأة التي عشقها زياد السبع ابن شمسة وحمد وماتت قتلاً، تسأل نفسها: “من شو بخاف؟ بخاف من كل شي ومن ولا شي”. أما وداد النابلسي التي أتت الى بناية اللُعبي بعدما قُتل زوجها الشيوعي، فهي تعرف جيداً أن لا شيء سيريحها من “وحوش العالم السفلي” إلا النوم الى الأبد: “حين سقطتُ على حافة الطاولة المرمريّة كنت فقط أتحرّر”.

يعتبر أيوب أنّ “الخوف في كتاباته كما في حياته الشخصية هو المحرّك أكثر ممّا هو عامل سلبي، محرّك ومحرّض لنظرة الفرد إلى معاناته وأحلامه ورغباته لأنّ الرغبة الآتية من الخوف تختلف عن تلك الآتية من الشوق أو من أيّ عنصر آخر”.

يعتبر أيوب أنّ “الخوف في كتاباته كما في حياته الشخصية هو المحرّك أكثر ممّا هو عامل سلبي

يُعمّر صهيب أيوب روايته طوبةً طوبة. هي رواية عمودية لمدينة تحت الأرض تعتمد في بنائها وغناها على الشخصيات التي يرسم الكاتب لكلّ منها عالماً قائماً بحدّ ذاته وخلفيّة سياسية وأنتروبولوجية ونفسيّة، وأحلاماً وحيوات بعد الموت، وأمكنة هي جزء لا يتجزّأ من الشخصية، فيتورّط القارئ لفكّ ألغازها.

رواية تشبه الألعاب الالكترونية التي كلما فتح القارئ فيها صندوقاً مُقفلاً، يجد في قلبه صندوقاً آخر وحكايا مكثّفة تروح وتجيء بالزمن بين الواقع والمتخيّل، بين عالم اليقظة وعالم الأحلام، بين الحياة والموت. والتكثيف يذكّر هنا بأدب عتيق رحيمي ومحمد رشدي وحنا مينا، يمنح الرواية جمالية وتشويق وبالتالي متعة في القراءة. فالكاتب انطلق بحسب تصريحه لـ “أساس” من بنايته التي ترعرع فيها في طرابلس وما عاشه في طفولته، لينتقل الى التخييل. أما إعطاء هذه المساحة للحلم وعلاقته بالواقع، الذي قلّما نجده في الأدب العربي، فهو “متأثّر فيه بكتابات الفيلسوف الفرنسي غاستون باشلار عن عالم أحلام اليقظة التي تعطي أهمية لعالم الحقيقة والتذكّر.

يتلصّص حسن السبع على المدينة بصمت. يعرف القاصي والداني، الزاني والقاتل، السارق وابن الحرام، المسلّح والطائفي المتزمّت، الفاسد والحرامي، المعنّف والوحش

المدينة المتلصّصة على العيش

يتلصّص حسن السبع على المدينة بصمت. يعرف القاصي والداني، الزاني والقاتل، السارق وابن الحرام، المسلّح والطائفي المتزمّت، الفاسد والحرامي، المعنّف والوحش. حسن هو المدينة المقهورة الصامتة المسكوت عنها التي تبلع الموس بعدما تشهد على الجرائم التي تدور بكنفها. حسن المدينة العارفة بكل شيء لكنها لا تقوى على الكلام. تشعر بأنين المرض والمقهورين وتنصت لآلام النُسوة والمتحوّلين والمثليين والمتحابين والهاربين، وتحفظ أسرارهم. حسن هو المدينة المقموعة المنسيّة من أقرب الأقربين، من أهلها وناسها، كأنّها تعيش على الهامش كما يعيش المراهق، ولولا البحر ومراسي الصيادين وأخبار الجارات لاختنق. حسن هو المدينة الساحلية التي لم تتحرّر من الريف والجماعات القادمة إليها من البدو الرحّل وأهل القرى النائية والمدن السورية القريبة الذين نقلوا إليها ماضيهم فتراكمت الحكايات فوق بعضها. المدينة التي يموت أهلها غرقاً في الزوارق ولا يعرفون السباحة مثل حسن الذي يعيش مع الصيّادين ولم يتعلّم العوم، يصطاد السمك ولا يأكله. هو جسد له اسم ولون عيون، لكنّه مكتوم القيد، وهي قضية شائعة في طرابلس.

كلّ هذا العالم المستمدّ من الواقع، يتخيّله صهيب أيوب مشبّعاً إيّاه بالعواطف، ليحكي عن مدينة تضجّ بكلّ شيء، من الجرائم إلى بيوت الدعارة والسكارى والمسلّحين والحروب الشخصية والأهلية والحزبية إلى المساجد والمتّقين والكنائس والمسيحيين والشيوعيين.

ينجح أيوب في أن يخلق من عتمات العالم السفلي لطرابلس لوحات ومشاهد سينمائية ودرامية مشوّقة بوليسية تارة ورومانسية تارة أخرى

الخيال والهرب من وحشيّة الواقع

الكتابة لدى صهيب أيوب ملاذاً للخيال لتحمّل منفاه الفرنسي القسري وهرباً من عالم متوحّش وعدميّ جامد عاشه في المدينة، مدينته أو عالمه الذي لا يكفّ عن الكتابة عنه. وبين طيّات روايتَيه الأولى “رجل من ساتان” والثانية “ذئب العائلة”، تخرج مخيّلته من رحم هذه الوحشية التي عاشها وعايشها، ومن رحم عشقه للمدينة ووحدته فيها على الرغم من كلّ الضوضاء والحكايا المتناثرة خلف أبوابها المغلقة وفي زواياها المعتمة.

فهو يحوّل خساراته ومصائبه الشخصية كما خسارات ومصائب تلك الطبقات الاجتماعية التي يغوص في عوالمها، الى كنز من الحكايا… كخسارات بطلاته النسائية في “ذئب العائلة” اللواتي لم يستسلمن وحوّلن عتماتهنّ الى أضواء تنير على الأقل يومياتهن المأسوية وتُبعد عنهنّ ولو قليلاً من الظلم.

هكذا ينجح أيوب في أن يخلق من عتمات العالم السفلي لطرابلس لوحات ومشاهد سينمائية ودرامية مشوّقة بوليسية تارة ورومانسية تارة أخرى، لكنّها في جميع الأحوال مشحونة بعواطف ومشاعر لا تهدأ، فيورّط القارئ معه في البحث عن أماكن وشخصيات وأحداث وتفاصيل بين أزمنة مختلفة وبين أجيال ثلاثة أو أربعة مختلفة، ليكتشف خفايا هذا العالم المزدوج بين الواقعية السوداوية الساحرة وخيال الكاتب الذي يجمح أحياناً نحو العنف والوحشية كالتي نراها في أفلام مارتن سكورسيزي.

الكتابة لدى صهيب أيوب ملاذاً للخيال لتحمّل منفاه الفرنسي القسري وهرباً من عالم متوحّش وعدميّ جامد عاشه في المدينة،

رغم واقعيته الأليمة والعنيفة ووصفه العالم السفلي للأحياء الفقيرة في مدينة طرابلس اللبنانية، إلا أن نصّ أيوب يضجّ بالعواطف والمشاعر خصوصاً النسائية. يسرّ أيوب لـ”أساس”: “عمتي بدرية هي أول حكّاءة في حياتي، تحكي لي حكايات الضيعة في عكار، وخالتي أمينة التي أتت من اللاذقية علّمتني كيف تروى حكايات طرابلس”.

الكتابة بإحساس امرأة

بطلات صهيب أيوب دائماً نساء. وشمسة وسعدية ودولتشي فيتا ووداد النابلسي نماذج عن هؤلاء. يكتب بإحساس امرأة مرهفة ويتطرّق إلى دواخل النساء وحاجاتهنّ ونظرتهنّ إلى الحياة والرجل والعائلة والشارع، بصدق وشفافية. لكنّ نساء صهيب القويّات والمناضلات من أجل أبسط أمور البقاء على قيد الحياة، والمتضامنات بعضهنّ مع بعض كما فعلت شمسة ووداد النابلسي، هنّ في النهاية خاسرات ويتوارثن خساراتهنّ. يرافقهنّ الخوف والقسوة وهنّ في بطون أمهاتهنّ حتى الممات. تختفي ثلاث منهنّ وتُقتل شمسة ودولتشي فيتا ولا نعرف ماذا يحلّ ببعضهنّ إذ يسردن حكاياتهنّ تارة بعد الموت وتارة أخرى من عالم الأحلام.

بطلات صهيب أيوب دائماً نساء. يكتب بإحساس امرأة مرهفة ويتطرّق إلى دواخل النساء وحاجاتهنّ ونظرتهنّ إلى الحياة والرجل والعائلة والشارع

نساء أيوب لسن جميعاً مضحّيات وكلاسيكيات، بل منهنّ العاملات في الدعارة، ومنهنّ العازبات والأرامل وغير المتزوّجات، والثائرات على الواقع والهاربات من الظلم والعنف والزواج القسري والمبكر مثل شمسة. أمّا الأمّ فيفرش لها أيوب مساحة كبيرة ناسجاً منها خزّان عواطف عبر وصف العلاقة بينها وبين أولادها وتأثيرها في حياتهنّ، سواء لدى البطلين الرئيسين شمسة وحسن السبع، أو لدى المفتّش أو الأب زياد السبع أو الجدّ حمد الخضر.

“حين تموت أمّهاتنا نصير جثثها الحيّة، نتحوّل إلى أجسام ضئيلة تخفي في جلودها الأسى”، تقول شمسة. ويروي حمد: “كنت مثل أمّي جثّة يُنكّل بها وتقطع بأيدي الآخرين، لكنّها كلّما شعرت بضرباتهم، عاشت، كأنّنا كنّا نحيا معاً من الأذى ونتغذّى منه…”.
 


رنا نجار - اساس ميديا
الاربعاء 14 غشت 2024