مما اضطرب عقله وداعبت خياله أغرب فكرة تصورها مجنون، فقد قرر أنه سيكون فارساً متجولاً باحثاً عن المغامرات لينصر الضعفاء والمساكين فيبلغ بذلك المجد الخالد، فبدأ يجهز عدته وسلاحه، وأطلق على نفسه اسماً جديداً فأصبح اسمه دون كيشوت، ولم يتبق في اعتقاده سوى أن يبحث عن سيدة يحبها لأن الفارس الجوال إذا خلا من الحب غدا كالجسم بلا روح، ومن أجل أن يهديها الانتصارات على العمالقة والوحوش، كانت تلك السيدة قروية وسمح له خياله بأن يلقي عليها اسم الدوقة دولسيلين
في بادئ الأمر قام بمغامراته المجنونة وحده إيماناً منه بأنه فارس متجول من خلال اعتراض المارة أثناء تجواله والتعريف بنفسه بأنه فارس جوال يريد أن يقدم المساعدة للضعفاء، وبطريقة كوميدية يتعرض للضرب والسخرية من الآخرين، وقد حاولت ابنة أخيه بمساعدة الجيران أن تمنعه مما يقوم به لفرط الأذى الذي أصابه، حيث قاموا بحرق الكتب لكي يتخلى عن تخيلاته وتجواله، ولكن هذا لم يوقفه بل بحث عمن يرافقه، وكان ذلك جاره طائش العقل الذي أغراه بالكلام المنمق وأعطاه وعداً على أن يكون حاكماً لمقاطعة.
فترك سانشو امرأته وأولاده وتبع جاره بصفته مرافقاً وحاملاً سلاحه.
وفي أثناء تجوالهما رأى من بعيد 30 طاحونة أو ما يقاربها فتخيل بطلنا أنها عمالقة ويجب قتالها، فأكد له سانشو أنها ليست سوى طواحين الهواء فأسرع مقبلاً على الطواحين فألقته أرضاً.
فقال سانشو: ألم أقل لك يا سيدي أنها ليست عمالقة. فأسكته وقال له: لقد حوّل الساحر العمالقة إلى طواحين لتسلبني النصر الذي أريده، فصدقه سانشو.
واستمرت المغامرات الحمقاء حتى هُزم فارسنا واعترف في هزيمته وأقسم بأنه لن يحمل السلاح لمدة عام فعاد إلى قريته وأصيب بالحمى.
فأدرك حين ذاك أنه قد فقد عقله فأفاق من أحلامه ولكن بعد فوات الأوان، لقد مات من أثر إصابته بالحمى والمرض.
نالت شخصية دون كيشوت إعجاب العديد من الكُتاب، منهم الكاتب الروسي الشهير ديوستفسكي ونظر له بأنه فارس نبيل، في حين أظهر كاتبنا على لسان أبطال الرواية أن دون كيشوت مجنون مضطرب.
إذا أردنا تشخيص حالة دون كيشوت إذا عُرض على أخصائي نفسي، يمكن تشخيصه في بادئ الأمر بأنه مصاب بالفصام (شيزوفرنيا)، ومن أعراضها الهلوسات والأوهام، حيث يسمع ويرى المريض أشياء غير موجودة سوى في عقله، ويكون سبب هذا المرض إما وراثياً أو خللاً في الدماغ أو تعاطي المخدرات والمسكرات، ويتم علاجه من خلال تحويله إلى الطبيب النفسي فيعالجه بالأدوية، ويكون دور المرشد النفسي متزامناً مع الطبيب النفسي، من خلال إعطائه جلسات محددة باستخدام (العلاج المعرفي السلوكي)، وهو إحدى الأساليب الناتجة عن النظريات في علم النفس الحديثة التي بدورها تساعد المريض وذويه على التعامل مع هذا المرض النفسي المزمن الذي بالعادة يرافق المريض طيلة حياته.
وبما أن بطلنا أفاق وحده وأدرك خطأه فهو ليس مصاباً بالفصام، ذلك في فترات الفراغ الطويلة التي كان يصرفها بقراءة القصص والأساطير القديمة لوقت طويل ومتواصل دون نوم أُرهق عقله وأُصيب بتخبط بفكره، فخلط بين الواقع والخيال.
فالأرجح أنه مصاب بأحلام اليقظة وتعتب أحلام اليقظة اضطراب أقل خطورة من الفصام وتعني إشغال الذهن بتحقيق أشياء لا يستطيع تحقيقها في الواقع ولكن في خياله يمكن أن تُحقق.
تعتبر أحلام اليقظة daydreems أحياناً شيئاً إيجابياً، فإنها تُولد دافعية نحو الإنجاز بشرط عدم المبالغة والحفاظ على التوازن بين الواقع والخيال.
وللإجابة عن السؤال: هل دون كيشوت رجل مضطرب نفسياً أم فارس نبيل؟
يمكن أن نقول وبناءً على ما سبق نعم إنه مضطرب، ولكن ماذا تعني كلمة مضطرب في اللغة؟
تعني كلمة اضطرب أي "تَحرَّك على غير انتظام وضَرَبَ بَعضُه بَعضاً. اِختَلَّ وحَصَلت فيه فَوْضى"، فذلك المعنى في اللغة يجعلنا أن نفترض أن جميع البشر مضطربين نفسياً، فنحن دائماً نبحث عن الكمال في الآخرين وفي أنفسنا ولن نجده أبداً، إذاً فالجميع مضطرب ولكن بدرجات مختلفة، ونبرر ذلك بأنه نكون في لحظات أقوياء وواثقين وفي أوقات أخرى نشعر بالضعف والتردد، وأحياناً نكون في قيمة السعادة ولحظات أخرى نغرق بالأحزان، فإن التنقل بين المتضادات يحدث الاضطراب النفسي، ولكل شخص منا لديه قدرته وطريقته وأسلوبه بالحفاظ على مستوى معين من الصحة النفسية والتوازن النفسي.
ومع ذلك فإن دون كيشوت أثبت أنه فارس نبيل وشجاع أيضاً حينما اعترف بخطئه وسوء تصرفه، وعندما رجع له عقله قدم المساعدة والهدايا لأصدقائه ومعارفه تعبيراً عن نبله وكرمه، فضلاً عن مقاتلةِ الطواحين وتخيل الرعاة أنهم فرسان مقاتلون، ولم يستسلم حتى وهو على فراش الموت أي أن يموت قبل أن يوزع أملاكه على من يستحق وخص بذلك سانشو جاره ومرافقه كردٍّ لجميل مرافقته وتعرضه للمخاطر.
وكأنه يقول لنا بعد تجربته المريرة التي أنهت حياته: من أجل أن تكون نبياً وشجاعاً أنت لست بحاجة إلى أن تقاتل طواحين الهواء يكفي أن تعترف بأخطائك وأن تصوبها وأن تتقبل ذاتك كما هي.
ولكن للأسف مات قبل أن يحقق ما توصل إليه، مات بحسرته على الأحلام المهدورة التي تحطمت على صخرة الحقيقة والواقع الأليم.
ويقول بعض النقاد: لقد تأثر كاتب الرواية بالحضارة العربية الإسلامية من خلال الموريسكيين (العرب الذين بقوا في إسبانيا بعد سقوط الحكم العربي) وكان واضحاً في الرواية لظهور ملامح من أبطال القصص العربية والإسلامية كشخصية عنتر بن شداد والظاهر بيبرس.
وكأن ثيربانتس يسخر من هؤلاء الذي أضاعوا كرامتهم وأوطانهم وإرث أجدادهم وطردوا من بلادهم، فكرّمته إسبانيا واضعةً صورته على قطعة الـ50 سنتاً الجديدة تقديراً له ولسخريته، فجاء دون كيشوت يجسد قصة هؤلاء المهزومين ويرويها في عصر سقوط الأندلس وكأنه أراد أن يهرب من واقعه المهزوم بحثاً عن المجد بأحلام اليقظة، لكنه في آخر المطاف أفاق من أحلامه وعاد إلى واقعه دون هؤلاء الذين ما زالوا عالقين في عالم الأحلام حتى اللحظة.