بقدر ما تحتاج صناعة الفسيفساء إلى جهد وخبرة وتقنية عالية في التنفيذ، يحتاج المشهد السياسي والأمني في الشمال السوري إلى جهود ومؤهلات مماثلة تقرأ مسار التحولات والمتغيرات بجوانبها السياسية والأمنية والاجتماعية، ومعرفة حجم الأخطار المحدقة والارتدادات المكلفة في حالة الفشل.
هناك رغبة تركية واضحة بالذهاب وراء الإعداد لخارطة أمنية سياسية جديدة في مناطق التواجد العسكري التركي في الشمال السوري، تأخذ بعين الاعتبار التحولات والمتغيرات المحلية والإقليمية، والقناعات التي تلتقي حول ضرورة إنهاء الأزمة التي طال أمدها في سوريا وحملت كثيرين أعباء باهظة لم يعد من الممكن إضافة الجديد إليها. لكن هناك أيضا من يشعر أن حساباته ومصالحه السياسية والعسكرية ستتضرر وتتراجع وتنتهي ربما لصالح البنية الجديدة، لذلك سيقاوم قدر المستطاع للتذكير بما يريد ومحاولة عرقلة تحرك يسحب من يده ما يملكه من أوراق. هذا إلى جانب وجود من يقلقه السير في مجهول سوري جديد يطيح بحلم وأهداف الثورة ويحمل الخيبة والفشل لصالح استمرارية النظام وإعلانه بين المنتصرين. لذلك مسؤولية أنقرة كبيرة هنا وهي تطلق خطتها في مناطق تواجدها في شمالي سوريا بهدف فتح الطريق أمام سيناريو جديد في التعامل مع مسار الأزمة السورية.
تمسك أنقرة بإعادة هيكلية البنى العسكرية والأمنية في مناطق تواجدها شمالي سوريا وبالتنسيق مع قوى المعارضة السورية، هدفه الاستعداد لمرحلة مفاوضات شاقة مع النظام، لا تريدها تركيا أن تتحول إلى أوراق قوة بيد النظام تُلعب ضدها.
هناك أهداف وقواسم مشتركة تجمع أنقرة وقوى الثورة السورية في الشمال وتأخذ بعين الاعتبار متطلبات المرحلة وضروراتها. الامتحان الصعب سيكون خلال عملية التقريب بين ما يريده كل طرف اليوم وما سيقدمه من مطالب هي حتما مغايرة لما كانت عليه قبل عقد مثلا.
من حق قوى المعارضة والفصائل العسكرية السورية في الشمال أن تقلق أمام سيناريو الحوار القائم بين أنقرة والنظام السوري. لكن من حق أنقرة أيضا أن تقلق حيال عملية تحريك النظام في دمشق لمشهد الوضع الأمني العسكري القائم في الشمال ضدها خلال عملية الحوار والتفاوض. عندما يعتقد فيدان أنه "إذا كان هناك حل على الطريقة التي تريدها تركيا، فإن سوريا ستكون قادرة على حل جميع المشكلات الأخرى بسهولة أكبر"، فهذا يعني أن تركيا تبحث عن فرص تفعيل الحوار السياسي المباشر بين النظام وقوى المعارضة السورية، في إطار منصة إقليمية جديدة تدعمها بعض العواصم العربية الفاعلة في الملف السوري.
تفعيل أنقرة لمنظومة عسكرية أمنية جديدة في مناطق نفوذها في الشمال بالتنسيق مع قوى المعارضة السورية مسألة مرتبطة مباشرة بسيناريوهات الحوار التركي مع النظام في دمشق واحتمالات النجاح والفشل التي تستدعي الجهوزية أمام الاحتمالين. لكن احتمال حصول تفاهمات مبدئية على تحولات ميدانية تتم بشكل تدريجي وتفتح الطريق أمام حوار سوري - سوري بغطاء عربي ودعم تركي روسي هو الأقرب اليوم.
تبحث أنقرة عن فرص تغيير الوضع الأمني العسكري القائم في شمال غربي سوريا. الهدف هو إنشاء هيكلية عسكرية أمنية جديدة تأخذ بعين الاعتبار متطلبات المرحلة القادمة، لكنها تريد أن يكون ذلك بقرار القيادات السورية الفاعلة هناك ومن خلال تفاهمات ميدانية سياسية بينها.
هدف أنقرة أيضا هو إنهاء وجود فصائل عسكرية صغيرة وضبطها تحت سلطة الجيش الوطني السوري أو تسريح عناصرها بعدما تحوّل بعضهم إلى عقبة في طريق المرحلة السياسية المقبلة. هدفها كذلك هو دفع القوى الفاعلة والمؤثرة على الأرض في الشمال الغربي نحو خيارات التنسيق والتعاون استعدادا لمرحلة سياسية جديدة في سوريا. وربما أيضا هناك أحد أهم أهداف تركيا وهو تحريك واشنطن نحو واقع سياسي جديد في سوريا قد يظهر قريبا إلى العلن، وهو ما حمل الدبلوماسي الأميركي ووكيل مستشار الخارجية الأميركية للشؤون السياسية والسفير الأميركي السابق في أنقرة جون باس قبل أيام إلى العاصمة التركية للقاء فيدان، والإعلان من دون تردد أن المحادثات تركزت على عملية التطبيع التركية المحتملة مع النظام السوري، وموضوع تسيير دوريات تركية روسية مشتركة في شمال شرقي سوريا والمطلب التركي المتعلق بضرورة إنهاء واشنطن دعمها لقسد المصنفة تركياً منظمة إرهابية امتدادية لحزب العمال الكردستاني.
حراك تركي سوري إقليمي مرتقب في الأيام المقبلة، لكن مفتاحه الحقيقي هو مواصلة الضغط على النظام لتنفيذ قرار مجلس الأمن الدولي 2254، وتسهيل العملية السياسية الانتقالية في سوريا، وهو ما جدد فيدان تمسك أنقرة به.
قد يبطىء التوتر الحاصل في شمالي سوريا ومنطقة ريف حلب الشمالي والشرقي بين بعض الفصائل بعد قرار وزارة الدفاع في الحكومة السورية المؤقتة بحلّ "لواء صقور الشمال" الحراك التركي الجديد، لكنه لن يحول دون مواصلة أنقرة وقوى المعارضة السورية تنفيذ الخطط الأمنية والعسكرية المتفق عليها، وهذا ما تعكسه أجواء المباحثات المكثفة بين أنقرة وهيئة التفاوض السورية، ولقاء بدر جاموس، مع نائب وزير الخارجية التركي نوح يلماز، والمدير العام لقسم سوريا في وزارة الخارجية التركية، مصطفى يورداكول قبل أيام.
لا تريد أنقرة فرض خياراتها ومواقفها على شركائها، لكنها لن تسمح بعرقلة تحركها المرتبط بوضع أمني ميداني اقتصادي سياسي يستدعي خطة جديدة بديلة في التعامل مع مسار الملف السوري ككل.
عندما يقول وزير الخارجية التركي هاكان فيدان أن ما قدمته تركيا لسكان الشمال السوري هو الذي حال دون انتقال ملايين جدد إلى داخل أراضيها طلبا للأمن والمعيشة، فهذا يعني أن ملف اللجوء والنزوح بين أولوياتها في الحوار مع النظام السوري. أنقرة لا تريد العودة إلى أجواء اشتعال الجبهات في سوريا، لكنها لا تريد وصول موجات لجوء جديدة إلى داخل أراضيها نتيجة لانفجار عسكري أمني في الشمال.
حديث فيدان عن الحوار السوري السوري وأهميته والذي لا بد أن يسبق أي تفاهمات تركية مع النظام، خطوة سياسية تهدف لمعرفة سلوك النظام وتصرفاته المحتملة، ومفتاح ذلك قد يكون حالة أمنية ميدانية جديدة في الشمال السوري يتم من خلالها إنجاز عمليات التموضع العسكري باتجاه الحل والدمج في صفوف الفصائل السورية في إدلب وجوارها. الجولاني قد يتعاون وينفتح على سيناريو من هذا النوع إذا ما شعر أن الثمن الذي سيدفعه قد يكون مكلفا، لكن ما سيقوله أكثر من لاعب محلي وإقليمي بهذا الخصوص مهم أيضا.
نتحدث عن تموضع عسكري وأمني جديد في الشمال السوري مرتبط بسيناريو التفاهمات بين أنقرة والنظام في دمشق، فأين موقع ودور وحصة طهران في كل ذلك؟
إخراج إيران من المشهد السوري يعني خسارتها لجبهة استراتيجية إقليمية دفعت كثيرا من أجل الوصول إليها. ما هي جائزة الترضية الإيرانية هنا؟ أم أن طهران ستكون هي من يدفع الثمن الأول والأكبر في التسوية السورية بما يرضي العديد من العواصم في المنطقة؟
قرار الرئيس الإيراني مسعود بزشكيان أن يكون العراق أول دولة يزورها يهدف لمقاومة هذا السيناريو وقطع الطريق عليه، عبر المصالحة وتعزيز النفوذ على جبهتي السليمانية وأربيل وتقاطعات الحدود هناك، بهدف حماية خط الرجعة في أية مقايضات سياسية قد يجريها مع واشنطن لتذكيرها بصعوبة إخراجها من سوريا تحت ذريعة أن مفتاح الجبهة العراقية هو بيد طهران قبل غيرها.
لكن وزير الخارجية التركي ألمح في تصريحاته الأخيرة أيضا أن لا انسحاب عسكريا تركيا من شمالي سوريا قبل التفاهم على خارطة الحل السياسي وحسم المشروع الأميركي في شرقي الفرات وسحب ميليشيات إيران وجنودها من الأراضي السورية وإسقاط مشروع ربط الحدود السورية العراقية بالسيناريو الإيراني بالتفاهم مع قسد والسليمانية. فهل يستطيع الأسد التفاهم مع أنقرة حول هذه المسائل؟
عودة الأسد إلى الحضن العربي لا تعني بالضرورة تبني الجامعة لمواقفه وسياساته. هو ربما احتمال منحه الوقت للذهاب إلى طاولة حوار مع أنقرة تتوج بتغيير سياسته الإيرانية. احتمال أن تدفع طهران ثمن التقارب التركي السوري وارد إذاً، وهو لن يبقى محصورا في سوريا وحدها. مقايضة إحراق الورقة الإيرانية في سوريا قد يكون الثمن الأول الذي سيدفعه النظام في سوريا على طريق تقديم التنازلات ليس لتركيا، بل
لصالح العديد من العواصم ولتسهيل مسار الحلحلة في ملف الأزمة السورية
---------------
موقع تلفزيون سوريا: