ـ في الثالث من شهر حزيران (يونيو) الماضي، سقط أكثر من 60 شهيداً، برصاص عناصر الأجهزة الأمنية، أو أفراد كتائب الحرس الجمهوري، أو قطعان الشبيحة".
ـ وفي الأيام التالية كانت مواكب تشييع الشهداء تنقلب إلى تظاهرات عارمة، كما هي حال جميع المدن والبلدات والقرى السورية؛ لكنها في حماة ظلّت تكتسب بعدها الرمزي العميق، بالنظر إلى التاريخ الدامي الذي تحفظه المدينة لهذا النظام.
ـ ولعلّ هذا العامل الخاص هو الذي أجبر النظام على التراجع قليلاً، قبيل إعادة انتشار دبابات الحرس الجمهوري من داخل المدينة إلى تخومها، وسحب عناصر الأمن، فأخذت أعداد المتظاهرين تتضاعف كلّ يوم، وليس كلّ نهار جمعة فحسب، حتى أخذت ساحة العاصي تتحوّل تدريجياً إلى نظير لميدان التحرير القاهري.
ـ جمعة "إرحل" الماضية سجّلت انعطافة كبرى، إذْ احتشدت أعداد تتراوح بين 250 إلى 300 ألف متظاهر، وثمة مَنْ ذهب بالرقم إلى 400 ألف؛ وتعالت في الساحة أهازيج وهتافات من طراز جديد، شجاع وغير مسبوق في جسارته، أو بالأحرى تجاسره على رموز النظام. لقد بدا وكأنّ حماة، شهيدة العام 1982، تنتفض على تلك الذكرى الدامية، وتنهض من رمادها، مثل عنقاء أبيّة، حيّة وحيوية.
ـ كانت الحال أشدّ مضاضة من أن يحتملها النظام طيلة شهر، ولاح أنها أعلى قدرة على نقل الفيروس إلى أرجاء الوطن السوري بأسره، ثمّ إلى العالم الخارجي أيضاً، فتوجّب أن يعود أهل السلطة القهقرى إلى حيث مبتدأهم في خيارات الحلّ الأمني. وهكذا أصدر بشار الأسد مرسوماً بإعفاء محافظ حماة، أحمد خالد عبد العزيز، واستبداله بضابط أمن ("قوي الشكيمة"، كما قيل!)؛ وعاد بعض عناصر الأمن و"الشبيحة"، فسقط 20 شهيداً؛ وتقدّمت الدبابات إلى تخوم المدينة (صحيفة الـ"غارديان" البريطانية نقلت عن شاهد عيان أنه أحصى قرابة 90 دبابة تحكم الطوق على أطراف المدينة)؛ وقُطعت الكهرباء والمياه عن غالبية الأحياء.
ماذا سيفعل النظام، والحال هكذا؟ وإذا كانت نيّته ستقتصر على ترهيب المدينة عبر حصارها، بالدبابات والمدفعية وكتائب الحرس الجمهوري؛ ثمّ تنفيذ عمليات قنص وتصفيات جسدية واعتقالات، على أساس انتقائي؛ فما الذي يمكن أن تسفر عنه هذه الخيارات؟ وإذا انتقل القرار من الحصار إلى اقتحام المدينة، فهل ستنخرط كتائبه في حروب شوارع، من طرف واحد عملياً؟ وكيف يمكن لخطوة كهذه أن لا تكون مقامرة، خاسرة سلفاً، بالنظر إلى عواقبها المزدوجة: تصليب عزيمة الحمويين، وإطلاق طرائق مقاومة شعبية تعتمد أسلحة الحجارة والمتراس البسيط والعائق الترابي والإطارات المحروقة، فضلاً عن استنهاض تضامن السوريين مع المدينة وأهلها، من جهة أولى؛ والمجازفة بخسران المزيد من شرائح ما يُسمّى "الأغلبية الصامتة"، واستثارة سخطها على النظام، والذهاب أبعد في إقلاق سكينة الجيش النظامي (الظاهرية فقط، والتي قد تتبدّى في انشقاقات جديدة أو علائم أوضح حول رفض زجّ الجيش في وجه الشعب)، من جهة ثانية؟
ذلك لأنّ منطق الأوضاع الراهنة، على صعيد المجتمع والنظام والمشهد الإقليمي، فضلاً عن التطورات الهائلة في تناقل الصورة والخبر، ودرجات عزلة النظام على صعيد دولي، بصرف النظر عن ضعف الضغوطات أو شدّتها، وما إذا كانت منافقة أم شبه صادقة... كلّ هذه العوامل تشير إلى صعوبة (وليس، البتة، استحالة) أن يعيد النظام تكرار مذبحة 1982. وهنا تصبح استعادة تفاصيل تلك المجزرة واجباً وطنياً وكفاحياً وأخلاقياً سورياً، بصفة عامة، ومن أجل ترسيم سمات ملموسة وعادلة لسيرورات العدل والمصالحة في سورية المستقبل. هي، كذلك، استعادة تردّ إلى الحمويين واحداً من حقوقهم الأكثر جوهرية، في تثبيت ذاكرة الضحية قبل انتظار صفحها أو ركونها إلى التصالح مع الماضي، وفي وردّ مظالم مدينة لا تلتفت إلى الوراء إلا لانها تشخص إلى الأمام.
ففي الثاني من شهر شباط (فبراير) 1982، قامت كتائب مختارة من "سرايا الدفاع" التي كان يقودها رفعت الأسد، وكتائب مختارة من "الوحدات الخاصة" تحت قيادة اللواء علي حيدر، بمحاصرة المدينة طيلة 27 يوماً، وقصفها بالمدفعية الثقيلة والدبابات والطائرات، قبل اجتياحها واستباحتها وإيقاع عدد من الضحايا يتراوح بين 30 إلى 40 ألفاً من مواطنيها المدنيين، وخلّفت قرابة 15 ألف مفقود لم يتمّ العثور عليهم حتى اليوم، وهجّرت نحو 100 ألف. وثمة، بالطبع، تباين في الأرقام طبقاً للمصدر، ولكنّ منظمات حقوق الإنسان الدولية لا تهبط عن 25 ألف ضحية ("العفو الدولية"، مثلاً).
ومجزرة حماة كانت، من حيث الشكل، بمثابة الخطّ الأخير الفاصل في المعركة بين النظام والفصائل الإسلامية المسلحة، ولهذا وافق حافظ الأسد على إعطاء ضبّاط "سرايا الدفاع" و"الوحدات الخاصة" نوعاً من الـ"كارت بلانش" المطلق. وكان هذا إذناً صريحاً بأن تُستخدم كلّ الأسلحة، وكلّ طرائق القمع والردع والعقاب، حتى إذا اقتضى الأمر تهديم أحياء بأكملها (مثل البارودي، الكيلاني، الحميدية، الحاضر)، وما تقتضي العمليات قصفه من مساجد وكنائس.
أمّا من حيث المحتوى، فقد كانت المعركة أعمق، وأوسع نطاقاً. باتريك سيل (الكاتب البريطاني، ومؤلف سيرة عن حافظ الأسد هي بين الأشدّ تعاطفاً، والصديق المقرّب من النظام حتى عهد قريب على الأقلّ، والعارف بتاريخ سورية الحديث والمعاصر...) اعتبر أنّ فهم معركة حماة بوصفها الفصل الأخير في صراع طويل مفتوح، قد يفيد في تفسير وحشية العقاب الرهيب الذي فُرض على المدينة. فوراء النزاع المباشر كانت تكمن العداءات القديمة، متعددة المستويات، بين الإسلام والبعث، والسنّة والعلويين، والريف والمدينة (سيل، "الأسد: الصراع على الشرق الأوسط"، الطبعة الإنكليزية الأولى، ص 333).
ليست صائبة، بقدر ما هي استشراقية تنميطية، خلاصات سيل حول اعتبار المجزرة معركة بين سلسلة ثنائيات، ولكنّ حديثه الصريح عن وحشية العقاب يدلّ على الأهمية الحاسمة التي كان النظام قد أولاها لهذه المعركة. كانت حماة بمثابة الدرس الأقصى، والأقسى، للشارع السوري بأسره، إسلامياً كان أم علمانياً، على صعيد الجمهور العريض والأحزاب المعارضة، مثل النقابات والإتحادات المهنية ومجموعات المثقفين. وكانت حماة أمثولة، ودرساً، وقاعدة للتعامل المستقبلي مع أيّ تحرّك معارض، سواء أكان مسلّحاً أم سلمياً.
الأهمّ من هذا، والأكثر مأساوية في الواقع، أنّ أمثال سيل سوف يقولون فيما بعد (ضمناً، وليس صراحة!) إنّ معركة حماة حُسمت لصالح الحداثة والأنوار ضدّ الأصولية والطهورية. وكان سيل قد اعترف بأنّ أعداداً لا حصر لها من المساجد والكنائس والمواقع الأثرية الأخرى دُمّرت ونُهبت، بما في ذلك متحف قصر العظم الذي يعود للقرن الثامن عشر. وخلال نحو شهر من القتال هُدم تماماً قرابة ثلث قلب المدينة التاريخي.
بعد فقرة واحدة فقط سوف يروي سيل أنّ حماة كانت، في العام 1961، قد طردت باصاً يقلّ طلبة وطالبات من جامعة دمشق توقفوا في المدينة للراحة، وذلك لأنّ بعض الفتيات كنّ يرتدين البناطيل. وسوف يستخلص ما يلي: "بمعزل عن قتل العديد من الناس، كان دكّ المدينة في عام 1982 قد صُمّم بحيث يقصي هذه الطهورية (Puritanism) مرة وإلى الأبد. وفي إعادة بناء هذا المجتمع المهدّم بُذل جهد واعٍ لا يقتلع الماضي فحسب، بل يغيّر المواقف أيضاً".
لكنّ حماة لم تكن المجزرة الوحيدة، لكي يُقال إنها معركة ضدّ الطهورية. خيارات النظام في قمع المعارضة الإسلامية المسلحة نهضت، جوهرياً، على قمع روح المعارضة في الشارع السوري بأسره، من حلب إلى جسر الشغور إلى دير الزور إلى اللاذقية، انتهاء بمجزرة تدمر الشهيرة. وكانت الخيارات منتظمة في سياق منهجي متكامل، لم يكن القمع العسكري وتهديم المدن وتنفيذ المجازر الصغيرة في السجون والأحياء والشوارع سوى تتويجه الدموي العنيف.
وخلال المؤتمر القطري السابع لحزب البعث (كانون الأول/ ديسمبر 1979)، أعلن رفعت الأسد، عضو القيادة القطرية، أنّ مَن لا يقف مع الثورة يقف في صفوف أعدائها، ودعا إلى شنّ حملة تطهير وطني تتضمن إرسال المعارضين إلى معسكرات عمل وتثقيف في الصحراء. وكان رفعت الأسد يستبق حركة الإحتجاج الشعبي التي تبلورت في إطار الأحزاب المعارضة غير المنضوية في جبهة السلطة، وفي صفوف النقابات المهنية للأطباء وأطباء الأسنان والمهندسين والصيادلة والمحامين، الذين أعلنوا إضراباً ليوم واحد (31/3/1980) احتجاجاً على غياب الحريات وشراسة آلة القمع وانتهاك حقوق المواطن. وكان ردّ السلطة الفوري هو حلّ هذه النقابات واعتقال عدد من أبرز قياداتها، ثمّ شنّ حملة اعتقالات واسعة في صفوف أحزاب المعارضة.
وكان لا بدّ لهذه السياسات أن تنعكس بعمق في الاقتصاد والحياة المعيشية للمواطن السوري، فمرّت سورية في طور غير مسبوق من الإفقار (أكثر من 60 في المائة تحت خطّ الفقر)، والبطالة (بين 20 و38 في المائة)، واتساع الهوّة بين الأجور والأسعار، وتخريب القطاع الصناعي ومؤسسات القطاع العام إجمالاً، مقابل الإعتماد على الصناعات الإستخراجية والزراعات التصديرية. وجرى، بالتوازي، تعزيز التحالف بين الشرائح الأمنية ـ العسكرية العليا وممثّلي الرأسمالية الطفيلية، وبروز ظاهرة تماسيح الفساد (وليس القطط السمان وحدها!)، وارتفاع مديونية الدولة بأرقام قياسية، وتهريب الأموال الوطنية إلى الخارج (بين 70 و100 مليار دولار)...
وقد يقول قائل إنّ بشار الأسد هو وريث لهذه الحال عموماً، والمجزرة خصوصاً، فلم يشارك في صنعها، ولم تكن له سلطة القرار في الأساس. غير أنّ "درس حماة"، إذْ تُصنّف المجزرة على هذا النحو في الكثير من الأدبيات التي تدرس تاريخ سورية المعاصر، كانت واحدة من أبرز تعاليم "الحركة التصحيحية"، وأكثرها استيلاداً لفلسفة الإستبداد الوراثي، من جهة أولى؛ وإنتاجاً لطرائق الحفاظ عليه، ومواجهة أخطار الإنتفاض ضدّه، من جهة ثانية.
كان "درس حماة" هو الإستبداد في ذروة أدائه التطبيقي، فهو إرهاب الدولة ضدّ المجتمع، وقهر الإحتجاج عن طريق سياسة الأرض المحروقة، والمدن المستباحة، والتدمير العميم والمعمّم، والعقاب الجماعي، واستخدام كلّ وأي سلاح. وهو اشترط، أيضاً، عسكرة الدولة في مختلف المستويات، وإلغاء السياسة عن طريق التنكيل والإعتقال والطرد من الوظيفة، وإفقار المجتمع بحيث يكون البحث عن لقمة العيش هو الهاجس الوحيد؛ فضلاً عن الترهيب تارة، والترغيب طوراً، وإشاعة ثقافة الولاء والطاعة والوشاية. أليست هذه بعض سمات النظام الراهن، الذي كان ويظلّ امتداداً لتراث "الحركة التصحيحية"، بل يتبدى أسوأ منه في أمثلة عديدة؟
فارق 1982 عن 2011 هو، مع ذلك، الفيصل بين مدينة استُفردت حتى برهة الشهادة، وأخرى تتظاهر وتنتفض وتقاوم مع شقيقاتها مدن وبلدات وقرى سورية، وتعدّ ما تبقى من حشرجات نظام آخذ في الاحتضار، مثلما تستشرف ما يهلّ من بشائر فجر وشيك آتٍ، لا محالة.
ـ وفي الأيام التالية كانت مواكب تشييع الشهداء تنقلب إلى تظاهرات عارمة، كما هي حال جميع المدن والبلدات والقرى السورية؛ لكنها في حماة ظلّت تكتسب بعدها الرمزي العميق، بالنظر إلى التاريخ الدامي الذي تحفظه المدينة لهذا النظام.
ـ ولعلّ هذا العامل الخاص هو الذي أجبر النظام على التراجع قليلاً، قبيل إعادة انتشار دبابات الحرس الجمهوري من داخل المدينة إلى تخومها، وسحب عناصر الأمن، فأخذت أعداد المتظاهرين تتضاعف كلّ يوم، وليس كلّ نهار جمعة فحسب، حتى أخذت ساحة العاصي تتحوّل تدريجياً إلى نظير لميدان التحرير القاهري.
ـ جمعة "إرحل" الماضية سجّلت انعطافة كبرى، إذْ احتشدت أعداد تتراوح بين 250 إلى 300 ألف متظاهر، وثمة مَنْ ذهب بالرقم إلى 400 ألف؛ وتعالت في الساحة أهازيج وهتافات من طراز جديد، شجاع وغير مسبوق في جسارته، أو بالأحرى تجاسره على رموز النظام. لقد بدا وكأنّ حماة، شهيدة العام 1982، تنتفض على تلك الذكرى الدامية، وتنهض من رمادها، مثل عنقاء أبيّة، حيّة وحيوية.
ـ كانت الحال أشدّ مضاضة من أن يحتملها النظام طيلة شهر، ولاح أنها أعلى قدرة على نقل الفيروس إلى أرجاء الوطن السوري بأسره، ثمّ إلى العالم الخارجي أيضاً، فتوجّب أن يعود أهل السلطة القهقرى إلى حيث مبتدأهم في خيارات الحلّ الأمني. وهكذا أصدر بشار الأسد مرسوماً بإعفاء محافظ حماة، أحمد خالد عبد العزيز، واستبداله بضابط أمن ("قوي الشكيمة"، كما قيل!)؛ وعاد بعض عناصر الأمن و"الشبيحة"، فسقط 20 شهيداً؛ وتقدّمت الدبابات إلى تخوم المدينة (صحيفة الـ"غارديان" البريطانية نقلت عن شاهد عيان أنه أحصى قرابة 90 دبابة تحكم الطوق على أطراف المدينة)؛ وقُطعت الكهرباء والمياه عن غالبية الأحياء.
ماذا سيفعل النظام، والحال هكذا؟ وإذا كانت نيّته ستقتصر على ترهيب المدينة عبر حصارها، بالدبابات والمدفعية وكتائب الحرس الجمهوري؛ ثمّ تنفيذ عمليات قنص وتصفيات جسدية واعتقالات، على أساس انتقائي؛ فما الذي يمكن أن تسفر عنه هذه الخيارات؟ وإذا انتقل القرار من الحصار إلى اقتحام المدينة، فهل ستنخرط كتائبه في حروب شوارع، من طرف واحد عملياً؟ وكيف يمكن لخطوة كهذه أن لا تكون مقامرة، خاسرة سلفاً، بالنظر إلى عواقبها المزدوجة: تصليب عزيمة الحمويين، وإطلاق طرائق مقاومة شعبية تعتمد أسلحة الحجارة والمتراس البسيط والعائق الترابي والإطارات المحروقة، فضلاً عن استنهاض تضامن السوريين مع المدينة وأهلها، من جهة أولى؛ والمجازفة بخسران المزيد من شرائح ما يُسمّى "الأغلبية الصامتة"، واستثارة سخطها على النظام، والذهاب أبعد في إقلاق سكينة الجيش النظامي (الظاهرية فقط، والتي قد تتبدّى في انشقاقات جديدة أو علائم أوضح حول رفض زجّ الجيش في وجه الشعب)، من جهة ثانية؟
ذلك لأنّ منطق الأوضاع الراهنة، على صعيد المجتمع والنظام والمشهد الإقليمي، فضلاً عن التطورات الهائلة في تناقل الصورة والخبر، ودرجات عزلة النظام على صعيد دولي، بصرف النظر عن ضعف الضغوطات أو شدّتها، وما إذا كانت منافقة أم شبه صادقة... كلّ هذه العوامل تشير إلى صعوبة (وليس، البتة، استحالة) أن يعيد النظام تكرار مذبحة 1982. وهنا تصبح استعادة تفاصيل تلك المجزرة واجباً وطنياً وكفاحياً وأخلاقياً سورياً، بصفة عامة، ومن أجل ترسيم سمات ملموسة وعادلة لسيرورات العدل والمصالحة في سورية المستقبل. هي، كذلك، استعادة تردّ إلى الحمويين واحداً من حقوقهم الأكثر جوهرية، في تثبيت ذاكرة الضحية قبل انتظار صفحها أو ركونها إلى التصالح مع الماضي، وفي وردّ مظالم مدينة لا تلتفت إلى الوراء إلا لانها تشخص إلى الأمام.
ففي الثاني من شهر شباط (فبراير) 1982، قامت كتائب مختارة من "سرايا الدفاع" التي كان يقودها رفعت الأسد، وكتائب مختارة من "الوحدات الخاصة" تحت قيادة اللواء علي حيدر، بمحاصرة المدينة طيلة 27 يوماً، وقصفها بالمدفعية الثقيلة والدبابات والطائرات، قبل اجتياحها واستباحتها وإيقاع عدد من الضحايا يتراوح بين 30 إلى 40 ألفاً من مواطنيها المدنيين، وخلّفت قرابة 15 ألف مفقود لم يتمّ العثور عليهم حتى اليوم، وهجّرت نحو 100 ألف. وثمة، بالطبع، تباين في الأرقام طبقاً للمصدر، ولكنّ منظمات حقوق الإنسان الدولية لا تهبط عن 25 ألف ضحية ("العفو الدولية"، مثلاً).
ومجزرة حماة كانت، من حيث الشكل، بمثابة الخطّ الأخير الفاصل في المعركة بين النظام والفصائل الإسلامية المسلحة، ولهذا وافق حافظ الأسد على إعطاء ضبّاط "سرايا الدفاع" و"الوحدات الخاصة" نوعاً من الـ"كارت بلانش" المطلق. وكان هذا إذناً صريحاً بأن تُستخدم كلّ الأسلحة، وكلّ طرائق القمع والردع والعقاب، حتى إذا اقتضى الأمر تهديم أحياء بأكملها (مثل البارودي، الكيلاني، الحميدية، الحاضر)، وما تقتضي العمليات قصفه من مساجد وكنائس.
أمّا من حيث المحتوى، فقد كانت المعركة أعمق، وأوسع نطاقاً. باتريك سيل (الكاتب البريطاني، ومؤلف سيرة عن حافظ الأسد هي بين الأشدّ تعاطفاً، والصديق المقرّب من النظام حتى عهد قريب على الأقلّ، والعارف بتاريخ سورية الحديث والمعاصر...) اعتبر أنّ فهم معركة حماة بوصفها الفصل الأخير في صراع طويل مفتوح، قد يفيد في تفسير وحشية العقاب الرهيب الذي فُرض على المدينة. فوراء النزاع المباشر كانت تكمن العداءات القديمة، متعددة المستويات، بين الإسلام والبعث، والسنّة والعلويين، والريف والمدينة (سيل، "الأسد: الصراع على الشرق الأوسط"، الطبعة الإنكليزية الأولى، ص 333).
ليست صائبة، بقدر ما هي استشراقية تنميطية، خلاصات سيل حول اعتبار المجزرة معركة بين سلسلة ثنائيات، ولكنّ حديثه الصريح عن وحشية العقاب يدلّ على الأهمية الحاسمة التي كان النظام قد أولاها لهذه المعركة. كانت حماة بمثابة الدرس الأقصى، والأقسى، للشارع السوري بأسره، إسلامياً كان أم علمانياً، على صعيد الجمهور العريض والأحزاب المعارضة، مثل النقابات والإتحادات المهنية ومجموعات المثقفين. وكانت حماة أمثولة، ودرساً، وقاعدة للتعامل المستقبلي مع أيّ تحرّك معارض، سواء أكان مسلّحاً أم سلمياً.
الأهمّ من هذا، والأكثر مأساوية في الواقع، أنّ أمثال سيل سوف يقولون فيما بعد (ضمناً، وليس صراحة!) إنّ معركة حماة حُسمت لصالح الحداثة والأنوار ضدّ الأصولية والطهورية. وكان سيل قد اعترف بأنّ أعداداً لا حصر لها من المساجد والكنائس والمواقع الأثرية الأخرى دُمّرت ونُهبت، بما في ذلك متحف قصر العظم الذي يعود للقرن الثامن عشر. وخلال نحو شهر من القتال هُدم تماماً قرابة ثلث قلب المدينة التاريخي.
بعد فقرة واحدة فقط سوف يروي سيل أنّ حماة كانت، في العام 1961، قد طردت باصاً يقلّ طلبة وطالبات من جامعة دمشق توقفوا في المدينة للراحة، وذلك لأنّ بعض الفتيات كنّ يرتدين البناطيل. وسوف يستخلص ما يلي: "بمعزل عن قتل العديد من الناس، كان دكّ المدينة في عام 1982 قد صُمّم بحيث يقصي هذه الطهورية (Puritanism) مرة وإلى الأبد. وفي إعادة بناء هذا المجتمع المهدّم بُذل جهد واعٍ لا يقتلع الماضي فحسب، بل يغيّر المواقف أيضاً".
لكنّ حماة لم تكن المجزرة الوحيدة، لكي يُقال إنها معركة ضدّ الطهورية. خيارات النظام في قمع المعارضة الإسلامية المسلحة نهضت، جوهرياً، على قمع روح المعارضة في الشارع السوري بأسره، من حلب إلى جسر الشغور إلى دير الزور إلى اللاذقية، انتهاء بمجزرة تدمر الشهيرة. وكانت الخيارات منتظمة في سياق منهجي متكامل، لم يكن القمع العسكري وتهديم المدن وتنفيذ المجازر الصغيرة في السجون والأحياء والشوارع سوى تتويجه الدموي العنيف.
وخلال المؤتمر القطري السابع لحزب البعث (كانون الأول/ ديسمبر 1979)، أعلن رفعت الأسد، عضو القيادة القطرية، أنّ مَن لا يقف مع الثورة يقف في صفوف أعدائها، ودعا إلى شنّ حملة تطهير وطني تتضمن إرسال المعارضين إلى معسكرات عمل وتثقيف في الصحراء. وكان رفعت الأسد يستبق حركة الإحتجاج الشعبي التي تبلورت في إطار الأحزاب المعارضة غير المنضوية في جبهة السلطة، وفي صفوف النقابات المهنية للأطباء وأطباء الأسنان والمهندسين والصيادلة والمحامين، الذين أعلنوا إضراباً ليوم واحد (31/3/1980) احتجاجاً على غياب الحريات وشراسة آلة القمع وانتهاك حقوق المواطن. وكان ردّ السلطة الفوري هو حلّ هذه النقابات واعتقال عدد من أبرز قياداتها، ثمّ شنّ حملة اعتقالات واسعة في صفوف أحزاب المعارضة.
وكان لا بدّ لهذه السياسات أن تنعكس بعمق في الاقتصاد والحياة المعيشية للمواطن السوري، فمرّت سورية في طور غير مسبوق من الإفقار (أكثر من 60 في المائة تحت خطّ الفقر)، والبطالة (بين 20 و38 في المائة)، واتساع الهوّة بين الأجور والأسعار، وتخريب القطاع الصناعي ومؤسسات القطاع العام إجمالاً، مقابل الإعتماد على الصناعات الإستخراجية والزراعات التصديرية. وجرى، بالتوازي، تعزيز التحالف بين الشرائح الأمنية ـ العسكرية العليا وممثّلي الرأسمالية الطفيلية، وبروز ظاهرة تماسيح الفساد (وليس القطط السمان وحدها!)، وارتفاع مديونية الدولة بأرقام قياسية، وتهريب الأموال الوطنية إلى الخارج (بين 70 و100 مليار دولار)...
وقد يقول قائل إنّ بشار الأسد هو وريث لهذه الحال عموماً، والمجزرة خصوصاً، فلم يشارك في صنعها، ولم تكن له سلطة القرار في الأساس. غير أنّ "درس حماة"، إذْ تُصنّف المجزرة على هذا النحو في الكثير من الأدبيات التي تدرس تاريخ سورية المعاصر، كانت واحدة من أبرز تعاليم "الحركة التصحيحية"، وأكثرها استيلاداً لفلسفة الإستبداد الوراثي، من جهة أولى؛ وإنتاجاً لطرائق الحفاظ عليه، ومواجهة أخطار الإنتفاض ضدّه، من جهة ثانية.
كان "درس حماة" هو الإستبداد في ذروة أدائه التطبيقي، فهو إرهاب الدولة ضدّ المجتمع، وقهر الإحتجاج عن طريق سياسة الأرض المحروقة، والمدن المستباحة، والتدمير العميم والمعمّم، والعقاب الجماعي، واستخدام كلّ وأي سلاح. وهو اشترط، أيضاً، عسكرة الدولة في مختلف المستويات، وإلغاء السياسة عن طريق التنكيل والإعتقال والطرد من الوظيفة، وإفقار المجتمع بحيث يكون البحث عن لقمة العيش هو الهاجس الوحيد؛ فضلاً عن الترهيب تارة، والترغيب طوراً، وإشاعة ثقافة الولاء والطاعة والوشاية. أليست هذه بعض سمات النظام الراهن، الذي كان ويظلّ امتداداً لتراث "الحركة التصحيحية"، بل يتبدى أسوأ منه في أمثلة عديدة؟
فارق 1982 عن 2011 هو، مع ذلك، الفيصل بين مدينة استُفردت حتى برهة الشهادة، وأخرى تتظاهر وتنتفض وتقاوم مع شقيقاتها مدن وبلدات وقرى سورية، وتعدّ ما تبقى من حشرجات نظام آخذ في الاحتضار، مثلما تستشرف ما يهلّ من بشائر فجر وشيك آتٍ، لا محالة.