كل هذا يعطي أول انطباع بأن شيئاً ما غير عادي يحُضر. والسؤال هل هي ذروة لعبة عض الأصابع وتجسيداً عملياً للعبة حافة الهاوية، أم أنه الانتقال إلى ديبلوماسية العنف؛ أي الحرب.
في السياسة لا تبدو الأفعال حمقاء أو مجنونة.
منذ ما بعد الحرب العالمية الثانية راكم العالم لغة للعقلانية السياسية بعد أن كانت النازية والفاشية توصفان بأنهما ضربان من ضروب اللاعقلانية الخارجة عن السياق التاريخي للفعل السياسي، في أوروبا ومن ثم بإضافة الولايات المتحدة الأمريكية إلى الجوقة نفسها.
لم تحدث منذ الحرب العالمية الثانية حرب إلا تحت عنوان قاعدة كلاوزفيتش الشهيرة: "الحرب امتداد للسياسة وإن بوسائل أخرى"؛ أي أن لا حرب للحرب ولا حرب بدون دوافع سياسية.
الحرب على العراق حملت – بالتأكيد – جرعة من الإيديولوجيا، ولكن أهدافاً سياسية - دولية في منظومة الانتقال من نظام ما بعد الحرب العالمية الثانية إلىنظام ما بعد سقوط البرجين، كانت في عمق الحملة المذكورة. ومع ذلك لم تكن حرباً هوجاء بلا حسابات: تأكد الأمريكيون أن لا أسلحة دمار شامل عبر زيارات البعثات الدولية وعبر هانز بليكس قبل أن تبدأ الحرب على دولة بلا أسلحة دمار شامل ومحاصرة عبر أكثر من عقد حتى الاستنزاف.
هكذا هو حال (الحرب) الأمريكية. يدخلها الأمريكيون متأخرين (كما في الحرب العالمية الأولى) أو بعد أن يتعب الرئيسيون فيها (في الحرب العالمية الثانية)، ويضربون في أضعف نقطة (كما في ضرب اليابان بقنبلتين نوويتين وقت كانت تطلب شروط الاستسلام!!!).
هذه هي قواعد اللعبة باختصار شديد. فهل يمكن للحديث عن ضربة توجه لإيران أن يكون في نفس السياق؟ صعب جداً القبول بهذا النوع من العبث السياسي.
إيران دولة قارية بتعداد سكاني كبير وأجهزة التخصيب والطرد المركزية موزعة على 169 موقعاً. وفضلاً عن كل هذا، فإنها تمتلك القدرة على الصد (نسبياً) والرد (بشكل واسع).
الحرب ليست الضربة؛ إنها الضربة + اليوم التالي. أي ماذا بعد الضربة؟ أي عمل عسكري هو ذريعة بدء الحرب واختيار توقيتها + مسارها (بنك الأهداف وضمان رد الطرف الآخر وبنك أهدافه وطبيعة الرد على الرد) + إستراتيجية الخروج.
يستطيع أي طرف أن يضمن ذريعة الحرب وبنك أهدافه (جزئياً) ولكنه لا يستطيع أن يضمنها كلياً ولا يستطيع أن يعرف بنك أهداف الطرف الإيراني وخيارات الرد المباشر وغير المباشر، العسكري منه،والعسكري منه بالوكالة ولا يستطيع أن يعرف المساحة المتوقعة لساحة العمليات ودائرتها الإيرانية... والأخطر أنه لا يضمن استراتيجية الخروج.
هذا بالحساب الاستراتيجي العالي والتقليدي. والإجابة عنه تستدعي التوقف ملياً عند قدرة الأمريكيين على القيام بعمل كهذا يضمن المباغتة ومنع الرد والإحاطة بالدائرة العملياتية واستراتيجية الخروج.
يستطيع الإيرانيون أن يصدوا جزءاً من الهجوم وأن يوسعوا دائرة العمليات لتشمل جزءاً من الخليج ومضيق هرمز. إغلاق المضيق بإغراق ناقلة أو أكثر للنفط كاف لرفع أسعار النفط إلى حد خرافي (من يتحمل هذا في العالم الصناعي). والدائرة ستشمل – بالتأكيد – الـ 140 ألف جندي أمريكي الموجودين في العراق بشكل مباشر أو غير مباشر (من يتحمل جزءاً من الشيعة بالعراق يتحولون إلى توسيع دائرة المواجهة مع الامريكيين مقاومة ًفي هذا الاتجاه؟). وقد تصل الدائرة إلى إسرائيل.
أمر أكيد أنه أقرب إلى حرب إقليمية-دولية. تبدأ... (نعم)، مسارها مضمون... (لا). وحتما إستراتيجية الخروج غير مضمونة بالمطلق. إنها الحرب التي ستستمر.
هنالك سيناريو يتم تداوله حالياً. يقول السيناريو أن الولايات المتحدة لن تقوم بعمل عسكري ضد إيران تحسباً لتوسيع دائرة الرد نحوها وهي تحت المرمى الإيراني. وأن الإدارة الأمريكية وصلت إلى قناعة بأن لا فائدة من الحوار مع إيران وأنها تحت الضغط الإسرائيلي قد أوكلت العملية إلى إسرائيلي وأن المعونة اللوجستية ستكون أمريكية وبريطانية!.
على ماذا يستند هذا الاحتمال التنبؤي؟ لا شيء يبدو مقنعاً في الحسابات (التقليدية) العالية. في الحسابات التقليدية: هذا السيناريو أقرب إلى الحرب النفسية منه إلى إمكانية الحدث واقعياً.
هذا السيناريو سنناقشه على علاّته بتساؤلات على النحو الآتي:
لماذا لا توسع إيران دائرة عملياتها ولا تخلط الأوراق؟ ألا يفيدها هذا داخلياً وخارجياً ويدفع الأطراف الدولية والإقليمية إلى الضغط على واشنطن وبالتالي إسرائيل لوقف دائرة الإضراب على قاعدة توحي أن إيران انتصرت سياسياً؟.
ثم هل تضرب دولة لديها أسلحة دمار شامل كيميائية على الأقل. أوليست الأسلحة التي من هذا النوع لمنع الحروب على مالكيها؟ وهل تتحمل إسرائيل الرد؟
يقولون هذه ستكون فرصة كي يفشل الهجوم في تحقيق أهدافه فتعلن إيران عن مشروعها النووي العسكري وتدخل في المعادلة النووية الدولية فتعلن إسرائيل عن أنها دولة نووية وتدخل المنطقة تحت مظلة المشروع الأمريكي لإزالة السلاح النووي.وتبدأ عملية سلام شاملة ووو...
من يصدق أن الردع النووي يُزال من العالم ومن المنطقة طالما أنه البديل من الحروب والمؤسس للاستقرار كما حدث مع عالم الكبار بعد الحرب العالمية الثانية. والأهم هل يمكن أن يُضبط مثل هذا السيناريو وألا يتسع وتكون نتائجه كارثيه؟ والسؤال الأخطر هو هل هو بمثابة اتفاق جنتل مان على الوصول إلى تسويات تاريخية بعد حرب مدروسة؟. نوع من التحليلات البوليسية التي لا أستسيغها لأنها خارج ما أفهمه من السياسة.
نوع من الخيال البوليسي في العمل السياسي لا يمكن تصديقه لأنه كاللعب بالنار، ولأنه لا يمكن ضبط أبعاده كلها ونتائجه المترتبه عليه.
لا نميل إلى هذا النوع من التحليلات.
كل المبررات واهية (بالحسابات التقليدية). أما إذا كانت الحسابات غير تقليدية، فهذا خارج حدود معطياتنا، وهو مادة من مواد الخيال، وهو ما لا نعتمده ولا نملك إزاءه إلى القول: هذا ضرب من معادلات بوليسية من طراز غريب. وسنكون كمن ودعنا عالم السياسة المعروف نمطياً لدينا إلى عالم آخر لا نعرفه.
__________
* مدير مركز المعطيات والدراسات الإستراتيجية بدمشق
في السياسة لا تبدو الأفعال حمقاء أو مجنونة.
منذ ما بعد الحرب العالمية الثانية راكم العالم لغة للعقلانية السياسية بعد أن كانت النازية والفاشية توصفان بأنهما ضربان من ضروب اللاعقلانية الخارجة عن السياق التاريخي للفعل السياسي، في أوروبا ومن ثم بإضافة الولايات المتحدة الأمريكية إلى الجوقة نفسها.
لم تحدث منذ الحرب العالمية الثانية حرب إلا تحت عنوان قاعدة كلاوزفيتش الشهيرة: "الحرب امتداد للسياسة وإن بوسائل أخرى"؛ أي أن لا حرب للحرب ولا حرب بدون دوافع سياسية.
الحرب على العراق حملت – بالتأكيد – جرعة من الإيديولوجيا، ولكن أهدافاً سياسية - دولية في منظومة الانتقال من نظام ما بعد الحرب العالمية الثانية إلىنظام ما بعد سقوط البرجين، كانت في عمق الحملة المذكورة. ومع ذلك لم تكن حرباً هوجاء بلا حسابات: تأكد الأمريكيون أن لا أسلحة دمار شامل عبر زيارات البعثات الدولية وعبر هانز بليكس قبل أن تبدأ الحرب على دولة بلا أسلحة دمار شامل ومحاصرة عبر أكثر من عقد حتى الاستنزاف.
هكذا هو حال (الحرب) الأمريكية. يدخلها الأمريكيون متأخرين (كما في الحرب العالمية الأولى) أو بعد أن يتعب الرئيسيون فيها (في الحرب العالمية الثانية)، ويضربون في أضعف نقطة (كما في ضرب اليابان بقنبلتين نوويتين وقت كانت تطلب شروط الاستسلام!!!).
هذه هي قواعد اللعبة باختصار شديد. فهل يمكن للحديث عن ضربة توجه لإيران أن يكون في نفس السياق؟ صعب جداً القبول بهذا النوع من العبث السياسي.
إيران دولة قارية بتعداد سكاني كبير وأجهزة التخصيب والطرد المركزية موزعة على 169 موقعاً. وفضلاً عن كل هذا، فإنها تمتلك القدرة على الصد (نسبياً) والرد (بشكل واسع).
الحرب ليست الضربة؛ إنها الضربة + اليوم التالي. أي ماذا بعد الضربة؟ أي عمل عسكري هو ذريعة بدء الحرب واختيار توقيتها + مسارها (بنك الأهداف وضمان رد الطرف الآخر وبنك أهدافه وطبيعة الرد على الرد) + إستراتيجية الخروج.
يستطيع أي طرف أن يضمن ذريعة الحرب وبنك أهدافه (جزئياً) ولكنه لا يستطيع أن يضمنها كلياً ولا يستطيع أن يعرف بنك أهداف الطرف الإيراني وخيارات الرد المباشر وغير المباشر، العسكري منه،والعسكري منه بالوكالة ولا يستطيع أن يعرف المساحة المتوقعة لساحة العمليات ودائرتها الإيرانية... والأخطر أنه لا يضمن استراتيجية الخروج.
هذا بالحساب الاستراتيجي العالي والتقليدي. والإجابة عنه تستدعي التوقف ملياً عند قدرة الأمريكيين على القيام بعمل كهذا يضمن المباغتة ومنع الرد والإحاطة بالدائرة العملياتية واستراتيجية الخروج.
يستطيع الإيرانيون أن يصدوا جزءاً من الهجوم وأن يوسعوا دائرة العمليات لتشمل جزءاً من الخليج ومضيق هرمز. إغلاق المضيق بإغراق ناقلة أو أكثر للنفط كاف لرفع أسعار النفط إلى حد خرافي (من يتحمل هذا في العالم الصناعي). والدائرة ستشمل – بالتأكيد – الـ 140 ألف جندي أمريكي الموجودين في العراق بشكل مباشر أو غير مباشر (من يتحمل جزءاً من الشيعة بالعراق يتحولون إلى توسيع دائرة المواجهة مع الامريكيين مقاومة ًفي هذا الاتجاه؟). وقد تصل الدائرة إلى إسرائيل.
أمر أكيد أنه أقرب إلى حرب إقليمية-دولية. تبدأ... (نعم)، مسارها مضمون... (لا). وحتما إستراتيجية الخروج غير مضمونة بالمطلق. إنها الحرب التي ستستمر.
هنالك سيناريو يتم تداوله حالياً. يقول السيناريو أن الولايات المتحدة لن تقوم بعمل عسكري ضد إيران تحسباً لتوسيع دائرة الرد نحوها وهي تحت المرمى الإيراني. وأن الإدارة الأمريكية وصلت إلى قناعة بأن لا فائدة من الحوار مع إيران وأنها تحت الضغط الإسرائيلي قد أوكلت العملية إلى إسرائيلي وأن المعونة اللوجستية ستكون أمريكية وبريطانية!.
على ماذا يستند هذا الاحتمال التنبؤي؟ لا شيء يبدو مقنعاً في الحسابات (التقليدية) العالية. في الحسابات التقليدية: هذا السيناريو أقرب إلى الحرب النفسية منه إلى إمكانية الحدث واقعياً.
هذا السيناريو سنناقشه على علاّته بتساؤلات على النحو الآتي:
لماذا لا توسع إيران دائرة عملياتها ولا تخلط الأوراق؟ ألا يفيدها هذا داخلياً وخارجياً ويدفع الأطراف الدولية والإقليمية إلى الضغط على واشنطن وبالتالي إسرائيل لوقف دائرة الإضراب على قاعدة توحي أن إيران انتصرت سياسياً؟.
ثم هل تضرب دولة لديها أسلحة دمار شامل كيميائية على الأقل. أوليست الأسلحة التي من هذا النوع لمنع الحروب على مالكيها؟ وهل تتحمل إسرائيل الرد؟
يقولون هذه ستكون فرصة كي يفشل الهجوم في تحقيق أهدافه فتعلن إيران عن مشروعها النووي العسكري وتدخل في المعادلة النووية الدولية فتعلن إسرائيل عن أنها دولة نووية وتدخل المنطقة تحت مظلة المشروع الأمريكي لإزالة السلاح النووي.وتبدأ عملية سلام شاملة ووو...
من يصدق أن الردع النووي يُزال من العالم ومن المنطقة طالما أنه البديل من الحروب والمؤسس للاستقرار كما حدث مع عالم الكبار بعد الحرب العالمية الثانية. والأهم هل يمكن أن يُضبط مثل هذا السيناريو وألا يتسع وتكون نتائجه كارثيه؟ والسؤال الأخطر هو هل هو بمثابة اتفاق جنتل مان على الوصول إلى تسويات تاريخية بعد حرب مدروسة؟. نوع من التحليلات البوليسية التي لا أستسيغها لأنها خارج ما أفهمه من السياسة.
نوع من الخيال البوليسي في العمل السياسي لا يمكن تصديقه لأنه كاللعب بالنار، ولأنه لا يمكن ضبط أبعاده كلها ونتائجه المترتبه عليه.
لا نميل إلى هذا النوع من التحليلات.
كل المبررات واهية (بالحسابات التقليدية). أما إذا كانت الحسابات غير تقليدية، فهذا خارج حدود معطياتنا، وهو مادة من مواد الخيال، وهو ما لا نعتمده ولا نملك إزاءه إلى القول: هذا ضرب من معادلات بوليسية من طراز غريب. وسنكون كمن ودعنا عالم السياسة المعروف نمطياً لدينا إلى عالم آخر لا نعرفه.
__________
* مدير مركز المعطيات والدراسات الإستراتيجية بدمشق