هذا يعني أن السياسي بوسعه رتق الخرق وفتقه، ولكنه قد يقع في الأولى وهو يريد الثانية، لأن الناس مجبولون على الاعتراض الفطريّ عندما تتدخل السياسة في مشاعرهم الدينية. هذا يعني أن التدخل السياسي لحلّ الأزمات المذهبية يجب أن يكون حذقاً ومدروساً على ضوء شواهد التاريخ وعلوم الاجتماع وطباع الجمهور،أو فمن الأفضل ألا يكون.
خطاب خادم الحرمين الشريفين في مجلس الشورى قبل أسابيع ورد فيه توجيه سياسي عام دون تخصيص وهو ((الوطن للجميع))، وكأنما تعمّد هذا الخطاب الملكيّ أن يتجنب التخصيص واقتراح الآليات وفرض الآراء وعياً بالدرس التاريخي الذي ورثناه عن الدولتين الأموية والفاطمية. فأي خطاب لو جاء لينتصر لفئة، حتى لو كانت تستحق النصرة، أو يعاتب فئة، حتى لو كانت تستحق العتب، لربما ازدادت الآراء تشنّجاً والماء عكراً، وراحت القوى الثقافية المستفيدة من الصراع المذهبي تؤجج النار كمحاولة لإفشال المساعي السياسية بطريقة ناعمة، وهذا يحدث كثيراً.
حلقة برنامج (جاءنا البيان التالي) الماضية التي استضيف فيها الشيخان سعد البريك وحسن الصفّار بدأت كأجمل ما يمكن أن تبدأ به حلقة كهذه تتحدث عن التعايش بين المذاهب، ولكنها سرعان ما انزلقت إلى نفس أسطوانة (المناظرة) المشروخة ،وكأن بعض الأطراف لا يتحمل أن يتكلم بلغة التعايش واحترام الآخر أكثر من نصف ساعة، ثم تنفد طاقته تماماً ويعود إلى نغمة التنابز الطائفي، وتقاذف الحجج، والمرافعات العقدية، وثقافة (ألقمه الحجر...الخ).
بدأت الحلقة بتنظير حضاري رائع عن ثقافة التعايش، وكيف أنها تنص على ألا يجبر طرفٌ الآخر على التبرؤ من آرائه عدا تلك التحريضية التعبوية التي تستهدف الآخرين، وكيف أن التعايش أيضاً يكفل للجميع حق تحصين الجماعة وتثقيفها دون استهداف الجماعة الأخرى دعوياً أو التحرش بها وعظياً. كلامٌ نظريٌّ جميل لم يملك أحد أن يخرج من إطاره المزخرف لاسيما بعد أن استهلّ مقدم الحلقة الدكتور عبدالعزيز قاسم إياها بكلمة (الوطن للجميع) التي صرّح بها خادم الحرمين الشريفين. وليته كرر طرحها مرة كل نصف ساعة ليذكر الناسين، من ضيوف ومتصلين، بأن الحلقة تتناول (التعايش) الذي أهم شروطه هو قبول الآخر كما هو دون أي محاولة لتعديله حتى يتسق مع الأغلبية، أو دفعه ليتنازل عن جملة من آرائه حتى يصبح مؤهلاً للقبول. وهذا ما وقع فيه أحد الضيفين فعلاً عندما استرسل، بفصاحته اللطيفة، في تبيان ما يجب على الطرف الآخر البراءة منه حتى يُقبل، وما يجب أن يغيّره في مذهبه وطائفته ومرجعيته حتى يصبح مواطناً كاملاً، بينما وقع الضيف الآخر بين نارين: إما أن يسرد هو أيضاً طلبات التعديل والتغيير التي يريدها من الطرف الآخر فيخرج من موضوع الحلقة وينقض فكرة التعايش، أو يستجيب لمطالبات الطرف الآخر فيظهر وكأنه لاجئ سياسي يقف على الحدود محاولاً إقناع الضابط بالسماح له بالدخول إلى (وطنه)!
أحد المتصلين أعلن بصراحة أن خطاب (الوطن للجميع) يتحمله السياسي، وأنه كطالب علم ليس عليه الالتزام بهذا. وكأن السعي وراء إرساء ثقافة التعايش الوطني تتعارض مع قيم العلم. هذا العلم العريض لم يضف صاحبه إلى الحلقة أكثر من تربصاتٍ سطرية بتلك المقولة هنا وذلك الرأي هناك، ثم عرضها كلائحة اتهام على ضيف تلفزيوني في محكمة لم يقمها أحد، وفي سياقٍ لم يُطرق منذ بدأت الحلقة. هذا يعني أن هناك رسوخاً عجيباً لثقافة المناظرة وتفنيد الحجج يقابله ضعفٌ كبير لثقافة الحوار وتأسيس التعايش، حتى لدى الأكاديميين العتاة، ورؤساء الأقسام في الجامعات الإسلامية الكبرى!
مجريات هذه الحلقة، والخطاب الذي بدأت به والمصير الذي انتهت إليه، تدفعنا للتساؤل عن مدى تأثير خطاب ((الوطن للجميع)) على هذه الحلقة. بمعنى آخر، لو أن هذه الحلقة سبقت الخطاب الملكي بشهر تقريباً هل كانت ستظهر بهذا الشكل؟ هل كنا سنسمع ذلك التنظير الجميل حول ثقافة التعايش واحترام الآخر دون سعي إلى تغييره أو تعديله ليتفق مع الأغلبية؟ هل كانت آراء الضيوف والمتصلين والمقدّم ستكون بهذه النبرة التي تحاول (وليس بالضرورة أن المحاولة نجحت!)، أقول: تحاول التناغم مع الخطاب الملكي أم أنها ستعود إلى سابق عهدها من المناظرة والتعبئة والاتهام ونبش الآثار وتقليب التاريخ بعود الفتنة؟
أياً كانت الإجابات على هذه الأسئلة، تظلّ الإرادة السياسية نقطة البداية الأهم في مشروع التعايش الوطني. لا نتوقع بطبيعة الحال أن تنزل ثقافة التعايش علينا من السماء فجأة، فتتشربها القلوب، وتمارسها الجوارح، وتحدث تعديلات سحرية في منظومة مجتمعنا لتحقق مفهوم (الوطن للجميع) بين يوم وليلة. لقد دفعت دولٌ أخرى لذلك ثمناً غالياً، وتحملت صفعات تاريخية، ودماءً غزيرة، ونضالاً عسيراً، والكثير الكثير من الوقت قبل أن تخلص أخيراً إلى هذه الثقافة بوصفها مصيراً إنسانياً، وليس ضرورة سياسية مؤقتة. ورغم ذلك تظلّ حالة غير مكتملة التحقق كما نشهد اليوم من انتهاكات لهذه الثقافة في أوروبا. وبالتالي فإن الوصول إلى نفس النتيجة بطرق سلمية وسلسة يتطلب عملاً شاقاً، ولكن، وحتى لو لمسنا عقبات كونية الأزلية التي تقف أمام (ثقافة التعايش) قد تعيق الجهود الثقافية ولكنها لا تعيق الجهود السياسية. فأن ينحاز الناس إلى جماعات ومذاهب شأنٌ لا يمكن التحكم فيه، ولكن أن يكون هناك انحياز منظّم يرتكز على إجراءات تكرّس الفرقة والتفضيل، فهذا ما يمكن معالجته ارتكازاً على التوجيه العام ((الوطن للجميع))، مهما حاول البعض أن يضعوا حدوداً لمفهوم الجميع هنا
خطاب خادم الحرمين الشريفين في مجلس الشورى قبل أسابيع ورد فيه توجيه سياسي عام دون تخصيص وهو ((الوطن للجميع))، وكأنما تعمّد هذا الخطاب الملكيّ أن يتجنب التخصيص واقتراح الآليات وفرض الآراء وعياً بالدرس التاريخي الذي ورثناه عن الدولتين الأموية والفاطمية. فأي خطاب لو جاء لينتصر لفئة، حتى لو كانت تستحق النصرة، أو يعاتب فئة، حتى لو كانت تستحق العتب، لربما ازدادت الآراء تشنّجاً والماء عكراً، وراحت القوى الثقافية المستفيدة من الصراع المذهبي تؤجج النار كمحاولة لإفشال المساعي السياسية بطريقة ناعمة، وهذا يحدث كثيراً.
حلقة برنامج (جاءنا البيان التالي) الماضية التي استضيف فيها الشيخان سعد البريك وحسن الصفّار بدأت كأجمل ما يمكن أن تبدأ به حلقة كهذه تتحدث عن التعايش بين المذاهب، ولكنها سرعان ما انزلقت إلى نفس أسطوانة (المناظرة) المشروخة ،وكأن بعض الأطراف لا يتحمل أن يتكلم بلغة التعايش واحترام الآخر أكثر من نصف ساعة، ثم تنفد طاقته تماماً ويعود إلى نغمة التنابز الطائفي، وتقاذف الحجج، والمرافعات العقدية، وثقافة (ألقمه الحجر...الخ).
بدأت الحلقة بتنظير حضاري رائع عن ثقافة التعايش، وكيف أنها تنص على ألا يجبر طرفٌ الآخر على التبرؤ من آرائه عدا تلك التحريضية التعبوية التي تستهدف الآخرين، وكيف أن التعايش أيضاً يكفل للجميع حق تحصين الجماعة وتثقيفها دون استهداف الجماعة الأخرى دعوياً أو التحرش بها وعظياً. كلامٌ نظريٌّ جميل لم يملك أحد أن يخرج من إطاره المزخرف لاسيما بعد أن استهلّ مقدم الحلقة الدكتور عبدالعزيز قاسم إياها بكلمة (الوطن للجميع) التي صرّح بها خادم الحرمين الشريفين. وليته كرر طرحها مرة كل نصف ساعة ليذكر الناسين، من ضيوف ومتصلين، بأن الحلقة تتناول (التعايش) الذي أهم شروطه هو قبول الآخر كما هو دون أي محاولة لتعديله حتى يتسق مع الأغلبية، أو دفعه ليتنازل عن جملة من آرائه حتى يصبح مؤهلاً للقبول. وهذا ما وقع فيه أحد الضيفين فعلاً عندما استرسل، بفصاحته اللطيفة، في تبيان ما يجب على الطرف الآخر البراءة منه حتى يُقبل، وما يجب أن يغيّره في مذهبه وطائفته ومرجعيته حتى يصبح مواطناً كاملاً، بينما وقع الضيف الآخر بين نارين: إما أن يسرد هو أيضاً طلبات التعديل والتغيير التي يريدها من الطرف الآخر فيخرج من موضوع الحلقة وينقض فكرة التعايش، أو يستجيب لمطالبات الطرف الآخر فيظهر وكأنه لاجئ سياسي يقف على الحدود محاولاً إقناع الضابط بالسماح له بالدخول إلى (وطنه)!
أحد المتصلين أعلن بصراحة أن خطاب (الوطن للجميع) يتحمله السياسي، وأنه كطالب علم ليس عليه الالتزام بهذا. وكأن السعي وراء إرساء ثقافة التعايش الوطني تتعارض مع قيم العلم. هذا العلم العريض لم يضف صاحبه إلى الحلقة أكثر من تربصاتٍ سطرية بتلك المقولة هنا وذلك الرأي هناك، ثم عرضها كلائحة اتهام على ضيف تلفزيوني في محكمة لم يقمها أحد، وفي سياقٍ لم يُطرق منذ بدأت الحلقة. هذا يعني أن هناك رسوخاً عجيباً لثقافة المناظرة وتفنيد الحجج يقابله ضعفٌ كبير لثقافة الحوار وتأسيس التعايش، حتى لدى الأكاديميين العتاة، ورؤساء الأقسام في الجامعات الإسلامية الكبرى!
مجريات هذه الحلقة، والخطاب الذي بدأت به والمصير الذي انتهت إليه، تدفعنا للتساؤل عن مدى تأثير خطاب ((الوطن للجميع)) على هذه الحلقة. بمعنى آخر، لو أن هذه الحلقة سبقت الخطاب الملكي بشهر تقريباً هل كانت ستظهر بهذا الشكل؟ هل كنا سنسمع ذلك التنظير الجميل حول ثقافة التعايش واحترام الآخر دون سعي إلى تغييره أو تعديله ليتفق مع الأغلبية؟ هل كانت آراء الضيوف والمتصلين والمقدّم ستكون بهذه النبرة التي تحاول (وليس بالضرورة أن المحاولة نجحت!)، أقول: تحاول التناغم مع الخطاب الملكي أم أنها ستعود إلى سابق عهدها من المناظرة والتعبئة والاتهام ونبش الآثار وتقليب التاريخ بعود الفتنة؟
أياً كانت الإجابات على هذه الأسئلة، تظلّ الإرادة السياسية نقطة البداية الأهم في مشروع التعايش الوطني. لا نتوقع بطبيعة الحال أن تنزل ثقافة التعايش علينا من السماء فجأة، فتتشربها القلوب، وتمارسها الجوارح، وتحدث تعديلات سحرية في منظومة مجتمعنا لتحقق مفهوم (الوطن للجميع) بين يوم وليلة. لقد دفعت دولٌ أخرى لذلك ثمناً غالياً، وتحملت صفعات تاريخية، ودماءً غزيرة، ونضالاً عسيراً، والكثير الكثير من الوقت قبل أن تخلص أخيراً إلى هذه الثقافة بوصفها مصيراً إنسانياً، وليس ضرورة سياسية مؤقتة. ورغم ذلك تظلّ حالة غير مكتملة التحقق كما نشهد اليوم من انتهاكات لهذه الثقافة في أوروبا. وبالتالي فإن الوصول إلى نفس النتيجة بطرق سلمية وسلسة يتطلب عملاً شاقاً، ولكن، وحتى لو لمسنا عقبات كونية الأزلية التي تقف أمام (ثقافة التعايش) قد تعيق الجهود الثقافية ولكنها لا تعيق الجهود السياسية. فأن ينحاز الناس إلى جماعات ومذاهب شأنٌ لا يمكن التحكم فيه، ولكن أن يكون هناك انحياز منظّم يرتكز على إجراءات تكرّس الفرقة والتفضيل، فهذا ما يمكن معالجته ارتكازاً على التوجيه العام ((الوطن للجميع))، مهما حاول البعض أن يضعوا حدوداً لمفهوم الجميع هنا