نظرا للصعوبات الاقتصادية التي رافقت الجائحة وأعقبتها اضطررنا لإيقاف أقسام اللغات الأجنبية على أمل ان تعود لاحقا بعد ان تتغير الظروف

الهدهد: صحيفة اليكترونية عربية بخمس لغات عالمية
الهدهد: صحيفة اليكترونية عربية بأربع لغات عالمية
عيون المقالات

عن الطغيان الذي زال وسوريا التي نريد

23/12/2024 - العقيد عبد الجبار العكيدي

لا منجا ولا ملجأ لمجرم الحرب بشار أسد

18/12/2024 - عبد الناصر حوشان

الفرصة التي صنعناها في بروكسل

26/11/2024 - موفق نيربية

المهمة الفاشلة لهوكستين

23/11/2024 - حازم الأمين

العالم والشرق الأوسط بعد فوز ترامب

17/11/2024 - العميد الركن مصطفى الشيخ

إنّه سلام ما بعده سلام!

17/11/2024 - سمير التقي


ترشيد الممارسات الأخلاقية للشباب في الفضاءات الرقمية




تتقصى الدراسة إشكالية الممارسات الأخلاقية التي تطرحها الفضاءات الرقمية وعلاقتها بالشباب. وتقوم رؤيتها على أن المفاهيم والقضايا المفصلية في هذه الفضاءات التفاعلية تكمن في الهوية، والخصوصية، والمصداقية، والمشاركة. وتهدف إلى استجلاء الطرق والآليات التي يتبنَّاها الشباب في إعادة تعريف هذه المفاهيم والقضايا وصياغة مضامينها عبر فعل الممارسة.


عندما أعلنت مجلة "تايم" (Time) أن الشخصية السنوية لعام 2006 هو "أنت" ، فإنها كانت تشير إلى واقع لا يمكن أن تُخْطِئَه العين؛ فكل من يُبْحِر في الإنترنت يمكن أن يكون "صحفيًّا"، أو "معلِّقًا سياسيًّا"، أو "ناقدًا أدبيًّا"، أو "مُنْتِجًا إعلاميًّا". ورغم أن المجلة لم تسوِّق مفهوم المشاركة في الفضاء الرقمي كظاهرة شبابية، فإن أغلبية "مواطني الديمقراطية الرقمية" الذين جرى الاحتفاء بهم كانوا ممن تقل أعمارهم عن 35 سنة. بالتزامن مع ذلك، فقد نشر الأكاديمي هنري جنكينس (Henry Jenkins) وزملاؤه كتابًا يُثمِّنون فيه "الثقافة التشاركية" القائمة على الإبداع والتقاسم والالتزام، والتي بدأت ملامحها تتجلى في العالم الرقمي وخاصة بين الشباب. وتدل النبرة الاحتفائية للكتاب على أن الشباب هم الأكثر قدرة على الاستفادة من الويب .

ترتبط الممارسات الأخلاقية في الفضاءات الرقمية بطبيعة الهويات الرقمية التي تتشكَّل في هذه الفضاءات؛ فمصير الخصوصية الفردية محكوم ببيئة تتعدَّد فيها المعلومات التي يمكن بثها والحصول عليها، كما أن دلالة الملكية الفكرية للمضامين في فضاء يتسم بتعدد منتجي المعلومات والمعرفة وعدم معرفة هوياتهم تظل أمرًا ضبابيًّا، دون أن ننسى أنماط تفاعل الأفراد مع بعضهم البعض، ومصداقية وموثوقية الأفراد والمؤسسات النشطة في الفضاءات الرقمية. وتقوم رؤية الباحث لإشكالية الممارسات الأخلاقية في الفضاءات الرقمية على أن المفاهيم والقضايا المفصلية في هذه الفضاءات التفاعلية تكمن في الهوية، والخصوصية، والمصداقية، والمشاركة. وإذا كنا نسلِّم بأهمية هذه المفاهيم في الفضاء المادي، إلا أنها ربما تحمل رهانات أخلاقية متمايزة في الفضاءات الرقمية. وعليه، فإن التساؤل النقدي يبدو أمرًا محبَّذًا وصحيًّا عندما يتعلق الأمر بطبيعة النماذج الذهنية أو الذهنيات الأخلاقية الجديدة التي تتشكَّل في هذه الفضاءات فيما يتعلق بالمفاهيم والقضايا الأربعة التي سبقت الإشارة إليها. ويمكن البدء في تلمُّس هذه الملامح من خلال التعرف على الآليات التي تأخذ بها فئة الشباب في التعامل مع هذه القضايا في الفضاءات الرقمية، وطبيعة هذه الفضاءات وما يرتبط بها من وعود ومخاطر.

يذهب الكثير من الباحثين إلى الاعتقاد بأن التقنيات الرقمية الجديدة قد فتحت آفاقًا غير محدودة في كل المجالات الحياتية، لكنها كغيرها من الآفاق تحمل معها الكثير من الفرص والآمال والمخاطر. ففي وجهها الأول، تساعد بل تُحفِّز هذه التقنيات على ثقافة المشاركة والتقاسم؛ حيث تتسع دائرة التفاعل الاجتماعي، ويجري تَثْمِين دور الأفراد ومساهماتهم بغضِّ النظر عن انتماءاتهم. وربما يشير احتفاء مجلة "تايم" الذي ذكرناه سابقًا إلى أن قدرة هذه التقنيات على تمكين الفرد العادي قد أصبحت واقعًا يمكن معاينته بسهولة. فقد وسَّعت هذه التقنيات هامش الفعل لدى الأفراد، وأخرجتهم من السلبية التي طالما طبعت علاقاتهم بما يستهلكون، وليس أدل على ذلك من الهوامش التي تمنحها المنصات الاجتماعية، على اختلاف أشكالها، لمستخدميها. بل إن البعض يذهب، ضمن رؤية احتفائية بهذه التقنيات، إلى أنها تشكِّل فضاءات تحتضن المجتمع المدني وتسهم في بروز الالتزام المدني، وتعميق الثقافة الديمقراطية. عمومًا، فإن هذه التقنيات يمكن أن تكون أدوات فاعلة في التمكين لثقافة المسؤولية الاجتماعية. أما الوجه الثاني للعملة، فهو أن هذه التقنيات يمكن أن تُوَظَّف في التسويق لرؤى وأفكار وممارسات قد تؤدي إلى خلق اختلالات اجتماعية، وخاصة تلك التي ترتبط بالبُعد الأخلاقي؛ حيث إن هناك عدة طرق قد يأخذ بها الرافضون للسَّوِيَّة الأخلاقية لإلحاق الأذى بأفراد المجتمع، كما أن غياب الوعي عند البعض الآخر قد يجعل منهم ضحايا لاختلال السلوك الأخلاقي في هذه الفضاءات الرقمية.

ويتجلى وجها العملة هذان، أي الفرص والمخاطر التي ترتبط بهذه الفضاءات الرقمية، في وجود خطابين متعارضين، يُطلِق عليهما البعض "الاعتقاد الرقمي" و"الهلع الأخلاقي". فالمتفائلون يرون أن التفاف الملايين من الأفراد حول الكثير من القضايا الإنسانية والاجتماعية وتفاعلهم معها يُعتبر مثالًا حيًّا ومُعبِّرًا عن هذه "الديمقراطية الناشئة" التي تحتضنها الفضاءات الرقمية، بينما يعتبر المتشائمون هذه الفضاءات بيئة فوضوية تفتقد إلى الضوابط الاجتماعية؛ فهي أقرب إلى الحالة الطبيعية الهوبزية (نسبة إلى توماس هوبز) منها إلى الحالة المثالية لجان جاك روسو. هذان الخطابان، المتفائل والمتشائم، يحاكيان بل إنهما يعبِّران عمَّا كان ولا يزال سائدًا من تباين و"عراك" حول تأثير وسائل الإعلام التقليدية على الأطفال.

وككل الفضاءات التي سبقتها، فإن الفضاءات الرقمية بدأت تخضع تدريجيًّا للتنظيم والضبط، لكن ملامح هذا التنظيم لم تتجلَّ بعد في كليتها، في ظل عدم وضوح الرؤية بخصوص الرابحين والخاسرين في هذا الشأن. ولا يخرج التنظيم، غالبًا، عن صيغتين: الأولى حكومية أو عمومية؛ حيث يسعى المُشَرِّع إلى وضع آليات تضبط وصول الشباب إلى المضامين الرقمية التي تحفل بها الفضاءات الرقمية. أما الصيغة الثانية، فهي تشبه التنظيم الذاتي، وتهدف إلى وضع مبادئ أو دليل سلوك في الفضاء الرقمي. بيد أن هناك لاعبًا آخر لا يمكن تجاهله، وهو القطاع التجاري الذي يتنامى اهتمامه بالفضاءات الرقمية، والمدى والدور الذي سيلعبه في عمليه التنظيم، والانعكاسات الأخلاقية المترتبة على ذلك.

والسؤال المحوري الذي يفرض نفسه في هذا السياق يتعلق بالصيغة التنظيمية الأفضل التي يمكن تبنِّيها، وتتيح للمجتمعات الجمع بين فضائل ومزايا الفضاءات الرقمية وعدم الوقوع في الممارسات والسلوكيات غير الأخلاقية، وهذا هو الرهان أو المحك الحقيقي. وحتى نضمن أن تتطور الفضاءات الرقمية بشكل صحي، فإن ترسيخ ودعم السلوك الأخلاقي أو الممارسة الأخلاقية للشباب داخل هذا الفضاءات، أو بعبارة أفضل: خلق "ذهنية أخلاقية"، يعتبر عاملًا محوريًّا في نجاح هذه الاستراتيجية.

1. اعتبارات منهجية

تتقصى هذه الدراسة إشكالية الممارسات الأخلاقية التي تطرحها الفضاءات الرقمية وعلاقتها بالشباب، وتتبنَّى مفهوم السلوك الافتراضي المقبول أو الحسن باعتباره يحيل إلى سلوك تفاعلي ذي مغزى بالنسبة للشخص، وينمُّ عن التزام ومسؤولية تجاه الغير سواء كان هذا الغير مجموعة صغيرة أو المجتمع ككل؛ حيث يحصل التفاعل. كما نحاول التدليل على أن الفضاءات الرقمية وكل المزايا التشاركية القائمة والمحتملة التي ترتبط بها، تُمثِّل فضاءات تحكمها خمسة متغيرات غالبًا ما تلعب دورًا محوريًّا في إنتاج السلوك المقبول. تتمثَّل هذه المتغيرات في: تكنولوجيات شبكات التواصل الاجتماعي، والتربية الرقمية، ومؤشرات التمركز حول الذات، مثل: النمو الإدراكي والأخلاقي، والمعتقدات، والقيم، وثقافة الأقران الواقعية والافتراضية، وأخيرًا الدعم الأخلاقي سواء من خلال وجود مرشدين من البالغين، أو من خلال المضامين التربوية التي يتعرض لها الشباب.

وتهدف الدراسة إلى:

- التعرف على الأبعاد والمعالم الأخلاقية للفضاءات الرقمية وواقع الأخلاقيات الرقمية.

- استجلاء طبيعة المفاهيم والقضايا المفصلية في الفضاءات الرقمية التفاعلية، والمتمثلة في الهوية، والخصوصية، والمصداقية، والمشاركة.

- الكشف عن المتغيرات التي غالبًا ما تلعب دورًا محوريًّا في إنتاج السلوك الافتراضي المقبول، والذي يحيل إلى سلوك هادف ومسؤول اجتماعيًّا.

- التدليل على أن المواقف الأخلاقية للشباب تتشكَّل من خلال كيفية إدارتهم لهوياتهم وخصوصياتهم ومصداقيتهم وعلاقاتهم مع الآخرين.

- ترشيد سلوكيات الشباب في الفضاءات الرقمية، وذلك من خلال تقديم رؤية متوازنة تجمع بين إبراز وعود التكنولوجيا والفضاءات الرقمية ومخاطرها عليهم.

- تبيان ضرورة مؤازرة مؤسسات التنشئة الاجتماعية والسياسية للشباب ومساعدتهم على التزود بمهارات معرفية وأخلاقية وقيم وأهداف توجِّه سلوكياتهم إلى ما فيه مصلحتهم ومصلحة المجتمع.

- تقديم رؤية نقدية للكثير من المفاهيم والقضايا الأخلاقية وعلاقتها بممارسات الشباب في الفضاءات الرقمية وكيفية ترشيدها.

- تقييم المزايا والمخاطر الأخلاقية التي تبرز إلى السطح في هذه الفضاءات الرقمية وموقع الشباب منها.

تنتمي هذه الدراسة إلى فئة البحوث النوعية وتحديدًا "الأنموذجين الإرشاديين، التفسيري والتأويلي، وفهمهما العالم بأنه يُشَكَّل اجتماعيًّا من خلال اللغة، وأن التحليل يتعامل مع التَّمْثِيلات الثقافية باعتبارها نصوصًا". وقد استخدم الباحث منهجية مركَّبة في معالجة موضوع البحث؛ إذ أخذ بالأسلوب الوصفي في تناول الكثير من محاوره، كما استثمر المنهج الاستنباطي التحليلي والتركيبي في مقاربة العديد من المفاهيم والقضايا التي تضمنها البحث، والذي يتأسَّس على الحفر المعرفي في المفاهيم، وتقصِّي مدلولاتها في فضاءات الممارسة. كما استفاد من مصادر مطبوعة وإلكترونية متنوعة وثرية، والمتابعة المستمرة لما يُنشر حول الموضوع، وانتفع بالكثير من التفاعلات مع زملائه حول موضوع الدراسة.

الشباب الرقمي

ترتبط العبارات التي بدأ بها الباحث هذه الدراسة بالقضايا التي تبرز في الفضاءات الرقمية، كما أنها تحيل إلى الأنشطة التي يقوم بها "أبناء العصر الرقمي" (Digital natives)؛ وهو مصطلح يشير إلى أولئك الذين وُلدوا في العصر الرقمي ويميلون إلى التفاعل مع مستحدثات هذا العصر أكثر من الآخرين. وتركز الدراسة على هذه الفئة باعتبار كثافة تفاعلها مع الفضاءات الرقمية، كما أن مزايا ومخاطر الفضاءات الرقمية تبدو أكثر حضورًا بالنسبة لهذه الفئة من المجتمع التي تملك مهارات تقنية عالية، وتُمضي أوقاتًا طويلة في الإبحار في الفضاءات الرقمية، وتؤدي أدوارًا جديدة في هذه الفضاءات. فهذه الفئة الشبابية عمومًا يمكن أن تكون الأكثر تأهيلًا لاستخدام هذه الفضاءات، وبالتالي فإنها ربما تكون الأكثر ميلًا لارتكاب أفعال يُجَرِّمُها المجتمع والقانون، أو ربما تكون ضحية لبعض الممارسات غير السَّوِيَّة وغير المقبولة.

وقد دلَّت الدراسات النفسية حول النمو الأخلاقي على أن القدرات المرتبطة باتخاذ القرار الأخلاقي تتطور مع الزمن وتتأثر بالسياقات الاجتماعية والخبرات الشخصية. وتركز غالبية الدراسات حول النمو الأخلاقي على القرارات الفردية في علاقة الأفراد بمحيطهم القريب. لكننا نعرف القليل عن طبيعة المواقف الأخلاقية وتطورها عندما يتعلق الأمر بفضاءات عامة، مثل الفضاءات التفاعلية أو العلاقة بالمؤسسات. وبما أن الشباب يميل إلى المشاركة في هذه الفضاءات التفاعلية الرقمية في سنٍّ مبكرة، فإن الكثير من الأسئلة المرتبطة بقدراتهم الإدراكية تفرض نفسها، خاصة ما يرتبط بقدراتهم على تمييز الرهانات الأخلاقية للفضاء الرقمي. وهو ما يستدعي إعادة النظر في الأطر التقليدية النفسية للنمو الأخلاقي وذلك على ضوء الخصائص التي تميز الفضاءات الرقمية والانغماس الكبير للشباب في هذه الفضاءات في سنٍّ مبكرة.

2. الحدود الأخلاقية في الفضاءات الرقمية

هل يقوم الشباب بإعادة صياغة مفاهيم مثل الهوية والخصوصية والمصداقية والمشاركة وهم يتفاعلون في الفضاءات الرقمية؟ إذا كان الأمر بهذا الشكل، فكيف يحدث ذلك؟ ولماذا؟ وما النتائج المترتبة على هذا الأمر؟ سنقوم، في هذا الجزء من الدراسة بالنظر في هذه المفاهيم؛ حيث سنبحث في مفهوم الهوية (الذات وكيف تجري إدارتها في هذه الفضاءات)، والخصوصية (الاختيارات الشخصية في الكشف عن المعلومات الشخصية)، والمصداقية (جدارة الشخص بالثقة وتقييمه لاستحقاق الآخرين لثقته)، والمشاركة (مجموع العلاقات الاجتماعية للفرد، وسلوكه وعضويته في المجموعات).

أولًا: "لعبة" الهوية

يعتبر علماء النفس أن فترة المراهقة تعتبر مرحلة محورية في تَشَكُّل الهوية. ففي هذه المرحلة العمرية، يبدأ الأفراد في التعرف على ذواتهم وبناء تصورات محدَّدة عنها؛ حيث يتزايد وعيهم بالمجتمع بما في ذلك قيمه ومعاييره وتوقعاته. ويرى هؤلاء أن الآلية الأكثر حضورًا في القيام بذلك تتمثَّل في الاستكشاف؛ إذ يقوم المراهق "بتجريب" وتقمص هويات متعددة وعينه على المجتمع لمعرفة ردود أفعاله. وهو ما دفع أحد الباحثين إلى وصف المراهقة بأنها "توقُّف نفسي واجتماعي مؤقت"، أي "توقُّف مؤقت" أو فضاء للراحة يتيح للمراهق حرية "تجريب" الكثير من الهويات وذلك ضمن سياقات تتسم بانخفاض سقف المخاطر. ويفترض أن ينتج عن هذا التجريب هوية توافقية تكون مقبولة من المراهق والمجتمع. وقد أكدت التفاعليةُ الرمزية الطبيعةَ الاجتماعية للهوية؛ حيث تعتبر أن الذات تتطور وتتمظهر ويُعاد تشكيلها باستمرار ضمن السياقات الاجتماعية المختلفة. إن تَشَكُّل الهوية لا يمثِّل فقط مشروعًا فرديًّا بل إنه مشروع اجتماعي يرتبط تحقيقه بالحصول على الموافقة أو المشروعية الاجتماعية، كما أن له تبعات اجتماعية، وفرصًا ومخاطر ذات طبيعة أخلاقية.

إن استكشاف الذات وبناءها يحدث عبر التعبير عن الذات، والتأمل الذاتي، والتغذية المرتدة التي يحصل عليها الفرد من الآخرين. ففي الواقع المادي، غالبًا ما يستكشف الشباب هوياتهم عبر طرق متعددة؛ حيث يحدث ذلك مثلًا من خلال اللباس أو تبني مواقف الثقافات المهمشة، أو الإقبال على أنشطة غير صفية تمكنهم من تنمية موهبة، أو شغف أو أيديولوجيا ما. ويمكن أن يمارسوا التأمل الذاتي من خلال أنشطتهم اليومية، ويحصلوا على تغذية مرتدة خلال تفاعلاتهم الوجهية مع أصدقائهم، وأقرانهم والكبار أيضًا. لكن استكشاف الهوية في طبيعتها المادية يظل محصورًا في عدد من الطرق. فالشباب، لا يمكنهم، مثلًا، أن يغيِّروا حجم أو شكل أجسامهم بسهولة، كما أنهم مقيدون أيضًا بعدد الفرص والأدوار الاجتماعية التي يمنحها لهم المجتمع. إذًا، فالحصول على تغذية مرتدة من الآخرين يمثِّل مظهرًا ومصدرًا محوريًّا في الحصول على الموافقة أو الرفض الاجتماعي فيما يتعلق باستكشاف الهوية عبر التجريب المتكرر لمختلف الهويات. لكن يبقى أن التغذية المرتدة، في الواقع المادي، تبقى محدودة؛ إذ إنها تظل محصورة في المقربين كالأصدقاء والأقران وأفراد العائلة.    

أما الفضاءات الرقمية، فإنها تمنح الشباب هوامش جديدة لاستكشاف هوياتهم. وقد وصفت شيري تركل (Sherry Turkle) الإنترنت بأنها فضاء خصب للشباب يمكِّنهم من توسيع الدائرة الزمنية لذلك "التوقُّف المؤقت" الذي أشرنا إليه سابقًا. "فبتحرُّرهم" من الإكراهات المادية والاقتصادية والاجتماعية، أصبح بإمكانهم تجريب أو تقمُّص هويات متعددة في محيط تقل فيه المخاطر والرهانات الأخلاقية كما يعتقدون. ففي كتابها الرائد ، تصف تركل كيف يُقبل الأفراد في الفضاءات الرقمية على تبنِّي أسماء وأساليب تعبيرية وشخصيات مختلفة للتعبير عن "ذواتهم" الرقمية. وقد تضاعف عدد االفضاءات الرقمية خلال السنوات كثيرًا مقارنة بتسعينات القرن العشرين، وهو ما أتاح ظهور أشكال كثيرة من التعبير عن الذات وهوامش كبيرة للتفكير فيها. فبإمكان الشباب اليوم الحصول على تغذية مرتدة حول تجاربهم الهوياتية من جمهور أكبر بكثير مما كانت عليه الحال في الواقع المادي. ورغم هذه الفرص الواسعة في تبنِّي هويات مختلفة في الفضاءات الرقمية، فقد وجد الكثير من الباحثين أن الشباب يميلون إلى إعادة إنتاج الأشكال المادية للتعبير عن الذات، والتي رأينا صورًا منها فيما سبق. وقد ذهبت دانا بويد (Danah Boyd) إلى التأكيد على أن الشباب الرقمي يحتاج إلى صيغ تعبيرية جديدة للخروج إلى حيز الوجود

- وعود الهوية الرقمية

يمكن للهوية الرقمية أن تساعد في صيرورة بناء الهوية وذلك من خلال توفير أدوات جديدة وهوامش تعبيرية متنوعة للتعبير عن الذات، والتأمل الذاتي والحصول على تغذية مرتدة من الآخرين. فالفضاءات الرقمية تتيح هوامش للتعبير الإبداعي عن الذات أو ممارسة لعبة الهويات. فالمراهق يمكن أن يُكَيِّف صفحته الشخصية في منصات التواصل الاجتماعي من خلال اختيار الصور، والموسيقى، والنصوص المفضلة لديه. كما يمكنه التعبير عن مشاعره وجوانب من شخصيته التي يمنعه الخجل، مثلًا، من التعبير عنها في الواقع المادي. فالأشكال التعبيرية التي يأخذ بها والطرق التي يختارها للتفاعل مع الآخرين يمكن أن تكون تعبيرات حقيقية عن ذاته أو تصورات عن "ذات ممكنة" يقوم ببنائها بوعي ويتطلَّع إلى أدائها في الواقع. ونظرًا لانخفاض سقف الرهانات المرتبطة بالفضاءات الرقمية، كما يتصورها الشباب، فإن هؤلاء ربما يتعاملون معها كأنها فضاءات "آمنة" لاستكشاف وتجريب هويات متعددة، وبالتالي يُسقطون الحذر في التفاعل مع الآخرين، بل يمكن أن يذهبوا أبعد من ذلك من خلال اختيارهم بدائل افتراضية (Avatars) والتعامل مع الآخرين على أساسها. إن مثل هذه الوضعيات؛ حيث يجري أخذ دور الآخر، يمكن أن تساعد المراهق في فهم من هو وماذا يريد أن يكون، كما يمكن أن تخلق انطباعات إيجابية عند الآخرين، وتزيد الاحترام والتسامح. هذه القدرة على تقمص ذوات الآخرين تعتبر شرطًا أساسيًّا للسلوك والتفكير الأخلاقي.

إن حاجة الفرد إلى إخراج هويته الرقمية إلى حيز الوجوديمكن أن تشجع على التأمل الذاتي، وهذا التأمل أو التفكير يمكن أن يؤدي إلى رفع سقف الوعي بالدور الشخصي للذات ومسؤولياتها تجاه ذاتها والجماعة التي تنتمي إليها والآخرين عمومًا. فالطبيعة المدروسة والمتأنية للتصورات التي يحملها الفرد عن ذاته الرقمية يمكن أن تسهِّل في بناء الهوية وذلك من خلال دفع هذا الفرد إلى تبيين من هو وماذا يريد أن يكون، وما المعتقدات والقيم التي يأخذ بها في تنمية ذاته. فالفرد يمكن أن يتأمل ويفكر، من خلال مجموع اختياراته (صور، نصوص، موسيقى، أفلام، كتب، ألعاب... إلخ)، في تجاربه وتفاعلاته وكيف ترتبط هذه الأخيرة ببعضها البعض وما هي دلالاتها بالنسبة للذات وللآخرين. بعبارة أقل تجريدًا، فإن المراهق يُعبِّر عن ذاته الرقمية من خلال مجموع الصور التي "تُزَيِّن" حسابه الشخصي، ومواقعه المفضلة، والمعلومات الشخصية التي اختار أن يتقاسمها مع الآخرين. فمن خلال تجريب هويات متنوعة، يمكن للمراهق أن يدرك، عن وعي، طبيعة المسؤوليات التي ترتبط بهوية ما، ومدى توافق هذه الهوية مع مسؤولياته تجاه ذاته والآخرين، وتماثُلها مع توقعات الآخرين (بمن في ذلك الأبوان والأصدقاء الافتراضيون). 

وتمثِّل الفضاءات الرقمية فرصًا مهمة لحصول الشباب على تغذية مرتدة من الآخرين؛ حيث تساعد هذه التغذية الأفراد على المواءمة بين تصوراتهم عن ذواتهم والتصورات التي يحملها المجتمع عنهم. وتشير إحدى الباحثات إلى أن الفضاءات الرقمية تمثِّل مساحة مهمة للمراهق لإسماع صوته، والأهم من ذلك أن هذه التغذية يمكن أن تكون حول مختلف الهويات التي تتقمَّصها الذات. فإذا كانت هذه التغذية إيجابية، فإنها يمكن أن تكون مصدرًا لثقة الفرد في ذاته لإدماجها في هويته في الواقع المادي، أما إذا كانت سلبية، فإنها تتيح له إعادة النظر في هذه الهويات بحرية دون التعرض للإحراج أو التجريح كما يحصل في الواقع المادي، بشرط ألا يكتشف الآخرون تجاربه الرقمية. وبهذا الشكل، فإن شعور الشباب بقبول الآخرين لذواتهم بتجلياتها المختلفة، يحفِّزهم على "تمديد ذواتهم" والقبول بها كما هي. فامتلاك هذه الشرعية الاجتماعية التي تتسع تدريجيًّا في الفضاءات الرقمية يمكن أن تَحُولَ دون حصول الاغتراب الاجتماعي والنفور والأضرار الاجتماعية، مثل خطابات الكراهية والعنف.

- مخاطر الهوية الرقمية

رغم أن "لعبة" الهوية في الفضاءات الرقمية يمكن أن تكون مفيدة لأصحابها، فإن أشكال التعبير عن الذات، والتأمل الذاتي، والتغذية المرتدة يمكن أن تُقوِّض بناء الهوية عند الأفراد بدل تعزيزها. فالشباب الذين يفشلون في بناء شعور متناغم ومستقل بالذات، يتهرَّبون من التزامات مهمة تجاه ذواتهم؛ إذ يمكن أن يلجأوا إلى طرق عدة لتجاوز ذلك، ورغم هذا يكونون غير قادرين على تحمُّل أدوارهم ومسؤولياتهم الاجتماعية. فبناء أو تَشَكُّل الهوية، كما أشرنا إلى ذلك سابقًا، يمثِّل سيرورة اجتماعية؛ حيث إن نجاحه أو فشله يؤثر في الآخرين بشكل سلبي أحيانًا. فقد يحصل الضرر الاجتماعي عندما تتحوَّل عملية تجريب الهويات إلى خداع أو تضليل للآخرين، وعندما يجري البحث عن هويات ضارة وتبنِّيها عن قصد. وهناك مخاطر أخرى ترتبط بالذات وبالآخرين وإن بشكل غير مباشر عندما تصبح هويات الشباب مُتَشَظِّية، ويطغى الترويج للذات على التأمل الذاتي، أو عندما يعتمد الشباب اعتمادًا كليًّا على التغذية المرتدة من الآخرين.

فالكثير من الفضاءات الرقمية، مثل سكند لايف (Second Life)، تتيح للشباب إمكانية استكشاف وتبنِّي هويات مؤذية، مثل هوية المغتصب، والقاتل، رغم أن هوياتهم المادية يمكن أن تكون مختلفة تمامًا عن ذلك. أما بالنسبة لأولئك الذين يكونون محور ممارسة عنفية أو كتابات عدوانية، فإن هذه الممارسات الافتراضية يمكن أن تخلق لديهم شعورًا بالخوف والرهبة في الواقع المادي. وقد لجأت الكثير من المجموعات الرقمية إلى تبنِّي مجموعة من المعايير الأخلاقية التي يلتزم بها أعضاء المجموعة. لكن بعض الملتحقين الجدد بهذه المجموعات قد يعتقدون أن حدود لعبة الهويات غير واضحة المعالم، وهو ما يجعل الآخرين عرضة لهفوات غير مقصودة بالضرورة أو لعنف رمزي.

ويشير الكثير من الدلائل إلى أن الهويات الرقمية للشباب غالبًا ما تكون انعكاسًا لسمات محورية في هوياتهم المادية. لكن الأمر ليس كذلك مع كل الشباب؛ حيث يمكن أن تتباين الهويتان المادية والرقمية بشكل كبير. في هذا الصدد، تشير تركل إلى أنه "في غياب مبادئ ضابطة، فإن الذات تدور في كل الاتجاهات. فالتعددية لا يمكن أن تكون قابلة للحياة إذا كانت تعني الانتقال من هوية إلى أخرى دون تواصل بين هذه الهويات" ؛ فالهدف الأساس في استكشاف المراهق لهويته، كما يذكر إيريك إيركسون (Erik Erikson)، هو بناء ذات متناغمة ومتماسكة وليس هويات مُتَشَظِّية ومتنافرة.

وتكمن إحدى المخاطر الأخرى المحتملة للعبة الهوية الرقمية في التركيز على الجوانب الأدائية؛ فالتأمل الذاتي الذي تتيحه الفضاءات الرقمية يمكن تقويضه عندما يجري تَثْمِين الأداء الظاهري أمام الجمهور بدل الالتفات إلى الفحص الذاتي. فقد استخدم إرفينغ غوفمان (Erving Goffman) المجاز المسرحي لوصف كيف يرتبط الأفراد ببعضهم البعض كممثِّلين في مسرحية يعرف كل منهم دوره بالتحديد. وبالمثل، فإن العنصر الأدائي في عرض الذات يمكن أن يجري تضخيمه في الفضاءات الافتراضية؛ إذ يميل الكثير من الشباب، عند إنشاء صفحاتهم أو مدوناتهم الشخصية أو فتح حساباتهم مثلًا، إلى بنائها بشكل مدروس واستراتيجي؛ فيلجؤون، من خلال توظيف معارفهم الثقافية، إلى بناء هوياتهم الرقمية، مستحضرين أفضل السبل لجذب الجمهور، في نفس الوقت الذي يسقطون فيه الجوانب الذاتية التي لا تتوافق مع الأداء الذي يتطلعون إليه، ويضخِّمون تلك التي تخدم هذا الغرض. فقد يكون الأداء ذا دلالة بالنسبة لصاحبه، لكنه مع ذلك يظل موجَّهًا إلى العالم الخارجي وتتحكَّم فيه رموز ثقافية خارجية وليست مرتبطة بالذات. وهو ما يثير الكثير من الأسئلة حول مدى صدق الفرد في الدخول في تأمُّل ذاتي حقيقي وعميق، خاصة عندما يقوم بصرف الكثير من الوقت والجهد في أداء دور أمام الآخرين يتوافق مع قصدية معينة. هذا الميل إلى تعظيم الأداء يمكن أن يؤدي إلى التضحية بالحقيقة؛ فقد يؤدي حرص المراهق على تقديم نفسه بشكل بطولي إلى تضخيم مغامراته العاطفية، مثلًا، والتعرض بشكل سلبي لأولئك الذين لا يشاركونه نفس الرؤية، وهو ما يطرح مسألة الخصوصية.

ثانيًا: الخصوصية  

عندما يتعلق الأمر بموضوع الخصوصية، فإن الكثير من الأسئلة تتزاحم في الذهن: ماذا تعني إدارة الفرد لخصوصيته الرقمية بشكل أخلاقي؟ كيف تتيح الفضاءات الرقمية التفكير الأخلاقي في موضوع الخصوصية؟ وكيف تُقوِّضه؟ ما حجم المعلومات وطبيعتها التي يمكن تقاسهما في هذه الفضاءات؟ هل يحرص الشباب الذين يتقاسمون تجاربهم الشخصية الرقمية على حماية هوياتهم وهويات الآخرين؟ وما مدى فاعلية الإجراءات التي يأخذون بها في تحقيق هذا الأمر؟ هل من المعقول أن يتوقع الشباب قدرًا من الخصوصية عندما يتعلق الأمر بحياتهم الرقمية؟ على من يقع اللوم عندما يتمكَّن جمهور ما غير مستهدف من الاطلاع على مغامرات وحميميات مراهق ما؟ وما انعكاسات ذلك على الحياة المادية للمراهق على المدى البعيد؟

- الخصوصية في الحياتين، المادية والرقمية

يحيل مفهوم الخصوصية إلى طريقة تعامل الأفراد مع المعلومات والبيانات الشخصية للآخرين في السياقات الاجتماعية المختلفة. فالخصوصية، في الحياة المادية، تعني حجب أو إخفاء المعلومات الشخصية عن الآخرين. فكل ما هو خصوصي يحتفظ به الفرد لنفسه، أو يمكن أن يتقاسمه مع من يثق فيهم. وغالبًا ما يجري التذكير بالحق في الخصوصية لحماية المعلومات الحساسة للأفراد، مثل العلاقات الحميمية، والملف الطبي...إلخ.

وبما أن الفضاءات الرقمية تتيح تقاسم المعلومات الشخصية مع جمهور واسع، فإنها تجعل الموضوعات المتعلقة بالخصوصية أكثر حضورًا، وتدفعنا إلى إعادة النظر في فهمنا التقليدي للخصوصية. وقد ميَّزت بويد أربع خصائص للإنترنت يمكن أن تؤثر في الخصوصية، من بينها الديمومة (بقاء ما يجري نشره بشكل دائم)، والقابلية للبحث (يمكن البحث عن أي شخص والعثور على "جسمه" الرقمي)، والاستنساخ (يمكن نسخ ولصق معلومات من سياق إلى آخر)، والجمهور غير المرئي (من غير الممكن معرفة هوية جمهور المتابعين).

إن تقاسم المعلومات في الفضاءات الرقمية لا يعني بالضرورة عدم اهتمام الشباب بخصوصيتهم أو خصوصية الآخرين، بل يشير إلى أن الشباب ينظر إلى الخصوصية بشكل يختلف عن الأجيال السابقة. فالخصوصية بالنسبة للكثير من هذه الفئة الاجتماعية، لا تتعلق بإخفاء المعلومات الشخصية، بل تعني البحث عن أفضل السبل لإدارتها (طبيعة المعلومات التي يتم تقاسمها، وكيف يتم عرضها، ومن يحق له الاطلاع عليها). ويمكن الحديث في هذا السياق عن وجود ثقافة الكشف المدروس التي يتبناها الكثير من الشباب في الفضاءات الرقمية، حيث يُمكِن تَلمُّس ملامحها في القيم والمعايير والممارسات الخاصة التي ترتبط بحياتهم الرقمية.

ويشير الحضور القوي لاستراتيجيات الخصوصية إلى أن الكثير من الشباب يقوم بإدارة خصوصيته الرقمية بوعي، لكن هذا هو أحد وجهي العملة. أما الوجه الثاني فهو أن الكثير من الدلائل تؤكد أن العديد أيضًا من الشباب لا يُولُون استراتيجيات الحماية أهمية كبيرة؛ إذ تذكر دراسة مسحية لمعهد بيو للدراسات الأميركي أن مستخدمي الإنترنت أصبحوا واعين بشكل متزايد بأنهم يتركون "آثارًا" رقمية خلال إبحارهم في عوالمها، لكن القليل منهم من يأخذ باستراتيجيات الحماية للحد من وصول الآخرين إلى معلوماتهم الشخصية. ويمكن تفسير هذا التراخي بعوامل عدة؛ إذ يُعزى بعضه إلى عدم المبالاة، وبعضه الآخر إلى تبنِّي البعض الآخر، بشكل واع، مجموعة من الافتراضات والمعايير حول طبيعة الجمهور. فحسب القواعد المعيارية مثلًا، يسود الاعتقاد، عند الشباب، بأن المعلومات التي يجري تقاسمها في الفضاءات الرقمية يجب عدم نشرها في سياقات تواصلية أخرى دون إذن، وهو ما يمكن أن يكون سببًا في عدم الأخذ باستراتيجيات الخصوصية. ويمكن أن نلاحظ في هذا السياق أن مفهوم الخصوصية ينقل مسؤولية إدارة المعلومات الشخصية بشكل أخلاقي من الشخص المعني إلى الجمهور أو المتابعين، لكن المتغيِّر المجهول يظل مدى وعي هذا الجمهور بذلك.

- وعود الخصوصية الرقمية والكشف الرقمي

تحمل ثقافة الكشف أو الإفصاح الكثير من الوعود للشباب، بما في ذلك توسيع دائرة التَّمكين، وخلق مجموعات دعم حول قضايا مشتركة، وتنمية شعور أخلاقي أوسع بالمسؤولية فيما يتعلق بالخصوصية. والشيء الأهم في هذا السياق هو كيف يمكن القيام بذلك (الكشف الرقمي)، جزئيًّا أو كليًّا، وبطريقة سرية، والحصول على تغذية مرتدة إيجابية ومريحة، تسهم في عملية التَّمكين. فيمكن أن يشعر الشباب بهذا التَّمكين من خلال القدرة على سرد قصصهم والتفكير في الصراعات التي تتخلَّل حياتهم الرقمية في فيسبوك مثلًا وغيره من المنصات الرقمية. فالتغذية المرتدة الإيجابية يمكن أن ترفع درجة ثقة الشباب في أنفسهم وتحفِّزهم على مواصلة القيام بما يرونه نافعًا لهم وللآخرين، بل يمكن لهذا النوع من التغذية فتح مسارات لم تكن على أجندة شاب ما، مثل التحول من التصوير الفوتوغرافي أو التصوير المرئي كهواية إلى التصوير كمصدر للدخل، وربما أصبح هذا الشاب مصدر إلهام للآخرين.

ومن محاسن الثقافة الرقمية للكشف أيضًا أن بعض الشباب طوَّروا أخلاقيات حقيقية للخصوصية ساعدتهم على التَّحكُّم في عرض أنفسهم والتعامل مع المعلومات الشخصية للآخرين بشكل مسؤول. فالكثير من الشباب الذي يكشفون عن معلومات شخصية في الفضاءات الرقمية يفترضون أن جمهور متابعيهم سيتعامل مع الأمر بمسؤولية. هذه الافتراضات يمكن أن تكون ساذجة وتعرِّضهم إلى مخاطر كثيرة، لكن إذا حدث خلق وعي لديهم بهذه المخاطر يمكن أن تساعد الشباب ومستخدمي الفضاءات الرقمية عمومًا على تبنِّي أخلاقيات المسؤولية.

- الخصوصية الرقمية والخداع

هناك مخاطر عديدة مصاحبة لثقافة الكشف؛ إذ يمكن للشباب أن يتسبَّبوا في إيذاء أنفسهم وإيذاء الآخرين، ويحصل ذلك بسبب عدم إدراكهم لانعكاسات نشر وتقاسم معلومات شخصية مع آخرين في الفضاءات الرقمية. فالخداع أو التضليل الذي يلجأ إليه البعض لحماية أنفسهم يمكن أن تكون له نتائج سلبية أيضًا. فالافتراضات التي يؤسِّس عليها بعض الشباب علاقتهم بجمهور متابعيهم فيما يتعلق بهوياتهم الرقمية يمكن أن تعرِّضهم وتعرِّض أصدقاءهم لمخاطر كثيرة؛ إذ تشير بويد إلى أن الكثير من الشباب يقومون بإنشاء حسابات شخصية وهمية على فيسبوك مثلًا لبعض أصدقائهم ويضيفونهم كمتابعين لهم، وذلك لتضخيم شعبيتهم، ويَنْسُبُون إلى هؤلاء، من خلال الهويات الرقمية المُضَلِّلَة التي يخلقونها، ما يتطلعون إلى نشره. فيجري نشر تفضيلات أصدقائهم مثلًا بخصوص موضوعات بعينها باسم هذه الهويات، وهو ما يمكن أن يسيء إلى سمعة الأشخاص المعنيين، وينعكس سلبًا على مستقبلهم المهني مثلًا، إذا ما عرف أصحاب العمل المحتملون هذه الأشياء.

أما الخطر الآخر المرتبط بالخصوصية فهو الخداع. وإذا كان الكثير من الشباب يلجأ إلى الخداع الرقمي لحماية خصوصيته، فإنه كممارسة حمائية ليس مدانًا، بل إن الكثير من الآباء يشجعون أبناءهم على ذلك. وضمن هذه الرؤية، فإن هذه الممارسة يمكن أن تكون من السبل الآمنة للحضور الرقمي دون التعرض للمخاطر المحتملة للفضاءات الرقمية. فغياب التواصل المواجهي، يجعل إمكانية الخداع أمرًا أيسر بكثير، ورغم ذلك فإن التمييز بين الخداع "المحمود" والمذموم ليس بالأمر السهل بالنسبة للشباب في الفضاءات الرقمية؛ حيث لا يجري إدراك النتائج الآنية للسلوك بسهولة. فادِّعاء أو تقمُّص شخصية خبير في ميدان ما، أو شخصية صديق ما، مثلًا، يمكن أن تكون ضارة بالآخرين، وحتى لو كان هذا الضرر غير مرئي أو غير محتمل بالنسبة للشخص الذي يقوم بذلك ، بل إن الأمر قد يكون أبعد من ذلك، كما تؤكد بويد

ويرتبط بهذا البُعد عدم معرفة المسافة الفاصلة بين الهوية الرقمية للشباب وجمهور متابعيهم، وهي من السمات الخطيرة للفضاءات الرقمية كما يرى روجر سيلفرستون (Roger Silverstone)(42). فاستراتيجيات إدارة الخصوصية كوجود حسابين مختلفين والخداع تسهم في استمرار مشكلة المسافة الجغرافية والاجتماعية غير المعروفة بين المتفاعلين رقميًّا. وينتج عن هذا الوضع، حسب نفس الباحث، "ثنائية قطبية... فغير المألوف يجري دفعه سواء إلى نقطة تتجاوز الغرابة أو الطبيعة البشرية، أو يجري تقريبه إلى درجة يصبح فيها من الصعب التمييز بينه وبين ذواتنا"وكلتا الحالتين ربما تؤديان إلى سلوكيات غير أخلاقية.

- أخلاقيات الخصوصية الرقمية

تحمل ثقافة الكشف الرقمية الكثير من الوعود والمخاطر بالنسبة للشباب. فمن ناحية، يمكن للتقاسم الواعي للمعلومات الشخصية وحسن إدارتها أن يسهم في دعم الشباب وتمكينهم، وبناء جماعات داعمة تحتضن أولئك الذين يعانون من متاعب حياتية خاصة، وتحفيز الأخذ بأخلاقيات الخصوصية. ومن ناحية، فإن التقاسم الزائد وغير المضبوط لهذه المعلومات يمكن أن تكون له انعكاسات سلبية بعيدة المدى بالنسبة للشباب وأصدقائهم الذين يكونون موضوعًا لأحاديثهم في الفضاءات الرقمية أو أولئك الذين ينتحلون شخصياتهم. كما أن الخداع باسم حماية الذات يمكن أن يكون مصدرًا للكثير من الإرباك والمخاطر للشباب والجمهور. ويمكن تحقيق الوعود المرتبطة بهذه الفضاءات العامة وتحاشي مخاطرها، إذا ما راعى الشباب تبعات تقديم أو عرض الذات على ضوء خصائص الديمومة، والقابلية للبحث، والاستنساخ، والجمهور غير المرئي التي أشرنا إليها سابقًا ، والتي تميز الفضاءات الرقمية.

ثالثًا: المصداقية والخبرة في الفضاءات الرقمية

السؤال الذي يتبادر إلى الذهن عندما يتعلق الأمر بالمصداقية يتمثَّل في مدى مساهمة المؤهلات والخبرة في العالم المادي في إضفاء المصداقية على ممارسات الفاعلين في الفضاءات الرقمية. ما الأضرار التي قد يُلْحِقُها الخداع والتضليل بخصوص المؤهلات والخبرة بتناغم المجموعات الرقمية؟ ما الذي يدفع الأفراد إلى خداع الآخرين عندما يتعلق الأمر بخبراتهم المهنية؟ ما الأضرار الناتجة عن ذلك؟ ومن هم المتضرِّرون؟

يجري التعبير عن المصداقية في العالم المادي من خلال المؤهلات والكفايات التي يملكها الفرد عبر المسار الدراسي والتأهيل والتدريب العملي والسمعة. ويستغرق ترسيخ مدى كفاءة الفرد وقتًا، لكنه بمجرد أن يتحقَّق، يمكن الاعتماد عليه كمعيار للكفاءة، غير أن المصداقية تحكمها أيضًا استقامة الشخص ونزاهة دوافعه. يمكن لشخص ما، في أي سياق مهني مثلًا، أن يكون ذا كفاءة عالية ويحظى بالتقدير في محيطه المهني، لكنه ربما يفتقد إلى المصداقية إذا كان يأتي بأفعال تنافي المهنة وأخلاقياتها. ولئن كان من الصعب الكشف عن الدوافع، فإنها تشكِّل بُعدًا مهمًّا في المصداقية؛ إذ إن هناك أفرادًا يملكون نوايا حسنة، لكنهم لا يملكون المؤهلات أو الكفاءة المطلوبة للعمل أو الكتابة حول موضوع ما في مجلة متخصصة في مجال ما (بعض الأفراد يقدمون أنفسهم، في الفضاءات الرقمية، خبراء في مجالهم، لكن يتبيَّن، لاحقًا، أنهم ليسوا كذلك؛ إذ لا يحملون أي مؤهل دراسي أو خبرة مهنية). 

وتؤثِّر بعض خصائص الفضاءات الرقمية، خاصة غياب المعالم أو الإشارات البصرية، على مدى قدرتنا على التَّعرف على المصداقية الرقمية وتقييمها. ففي الفضاءات الرقمية؛ حيث "تقل الحواجز المانعة من المشاركة" ، يمكن للأفراد مهما كانت خلفياتهم، وكفاءاتهم ودوافعهم، وسواء كانوا خبراء أو أفراد عاديين، صادقين أو مخادعين، إسماع أصواتهم في سياقات رقمية متعددة. وترتبط أهمية التأكد من مصداقية المشاركين بالسياق الذي يحتضن التفاعل؛ فتزويد المرضى مثلًا بتوجيهات طبية، باعتباره يخضع للكفاءة والتأهيل، أمر في غاية الأهمية. ويمكن أن يكون مستوى المصداقية أقل أهمية في سياقات أخرى، مثل الألعاب الإلكترونية حيث يغلب الطابع التخيلي، أو لنقل: إن طريقة التعامل مع المصداقية في هذا السياق تجري بشكل مختلف.

- المصداقية الرقمية والتمكين

يحيل التصور الرقمي للمصداقية إلى وعود متمايزة بالنسبة للشباب والمجموعات الافتراضية التي ينتمون إليها؛ إذ يمكن تقوية الشباب من خلال الفرص التي تتيحها لهم مساهماتهم في التأكيد على خبرتهم. فكل من يملك إمكانية الوصول إلى الإنترنت، يمكنه أن يسهم في المناقشات التي تحتضنها الجماعات الرقمية؛ إذ يمكن اعتبار هذه الجماعات فضاءات للأُلفة والتوافق؛ حيث يمكن للمشاركين أن يلتقوا حول موضوع أو اهتمام مشترك بغضِّ النظر عن العمر والنوع والعِرق ومؤشرات الانتماء الأخرى؛ فلا يجري منع الأفراد من المشاركة بحجة عدم امتلاكهم المؤهلات والتدريب اللازمين. وعليه، فالشباب يقدِّمون أنفسهم كخبراء بناء فقط على كفاءاتهم في هذا المجال أو ذاك. فمن خلال التحاور والإبداع الجماعي القائم على المساواة، يمكن للشباب أن يعيشوا ما يسميه بعض الباحثين "التربية الجماعية"

ويتيح الانفتاح الذي تتسم به الفضاءات الرقمية للشباب اكتشاف مجالات ومساحات تمكِّنهم من تحسين مهاراتهم دون المرور بالضرورة بالآليات التقليدية، مثل التعليم والتدريب وما يرتبط بهما من تكلفة ووقت؛ إذ يمكن اعتبار التدوين وتعديل الألعاب الإلكترونية مثلًا كشكل من أشكال التدريب المهني الذي يهيئ الشباب لدخول مجالات جديدة، مثل الإعلام والهندسة، ربما لم تكن حاضرة في أذهان الأشخاص المعنيين قبل الانغماس في أنشطتهم الرقمية. ففرص التفاعل مع أفراد يملكون معارف وخبرات أفضل يمكن أن تؤدي إلى خلق وتراكم الخبرات في مجال ما، وتيسير تنمية المهارات، وتغذية المهارات الأساسية للتعامل مع الآخرين بما في ذلك العمل الجماعي. فالفضاءات الرقمية تتيح للشباب، منذ المراحل العمرية المبكرة، فرص القيام بأدوار جديدة يمكن أن تؤهلهم ليصبحوا مهنيين بارعين، ومتعاونين أكْفاء، ومواطنين راشدين أيضًا.

- المصداقية الرقمية والمساءلة

قد يشعر الشباب، في الفضاءات الرقمية، بالرغبة في تمويه هويتهم (من هم؟ وما أعمارهم؟ وأين يوجدون؟ وماذا يفعلون؟)، وخلفياتهم (ما الأعمال التي قاموا بها؟ وما مؤهلاتهم ومهاراتهم؟) لاعتقادهم بصعوبة التأكد من هوياتهم الفعلية. فالمؤشرات أو المعالم الرقمية التي يمكن الاستدلال بها على مصداقية الشخص لا يمكن الاعتماد عليها؛ إذ إنها خادعة أو مُضَلِّلة. ويمكن للشخص أن يُضمِّن ملفه الشخصي معلومات تفيد أن مؤهلاته المهنية معتمدة من جهة الاختصاص دون أن يقدم ما يثبت ذلك. وقد يحصل مثل هذا التمويه في الواقع المادي دون أن يجري الانتباه إليه لفترة طويلة، لكن حصوله في الفضاءات الرقمية؛ حيث تقل المساءلة، يبدو احتمالًا غير مستبعد.

ويخلق التباين بل الانفصال بين المصداقية الفعلية والمصداقية الرقمية الافتراضية الكثير من التوتر؛ إذ يمكن منع شخص ما، في الواقع المادي، من تقديم خدماته في مجال ما، ولو بشكل مجاني، نظرًا لعدم توفره على مؤهلات معتمدة. لكن الأمر يكون مختلفًا بعض الشيء في الفضاءات الرقمية؛ إذ يمكن لنفس الشخص أن يقدم هذه الخدمات دون الحاجة بالضرورة إلى تقديم مؤهلاته الرسمية؛ حيث يجري الحكم على جودة هذه الخدمات من طرف الأشخاص الذين يستفيدون منها. مع ذلك، فإن مفهوم المصداقية في الواقع المادي، سيؤثر على سلوك الشخص المعني في الفضاءات الرقمية. فقد يكون الشخص واعيًا بمتطلبات الاعتماد المهني في هذا المجال أو ذاك (الطبي أو الرياضي مثلًا)، وعليه، فقد يعتقد أنه من الضروري تقديم نفسه، في الفضاءات الرقمية، لطالبي النصيحة أو التوجيه كحامل لهذه المؤهلات، يدفعه إلى ذلك إدراكه سهولة تمويه هويته. لذلك، فإن الصدق والشفافية فيما يتعلق بمدى خبرة الفرد تصبحان أمرًا محوريًّا في الفضاءات الرقمية.

ولتحاشي مثل هذه الوضعيات وغيرها، فإن وجود بعض آليات المساءلة في الفضاءات الرقمية، سيدفع الأشخاص إلى التعامل بمسؤولية فيما يتعلق بطرق عرضهم لذواتهم في مثل هذه الفضاءات. وفي هذا السياق، فإن وجود مُوجِّهين ومرشدين من الكبار يأخذون بأيدي الشباب يمكن أن تكون له فوائد جمة. لكن تحقق ذلك، يستدعي الحد من التباين في فهم الكبار للفضاءات الرقمية وطريقة انغماس الشباب فيها؛ حيث يمكن أن يشكِّل هذا التباين حجر عثرة في نجاح هذا التوجيه. وإذا لم يجد أكثر مرتادي هذه الفضاءات معرفة وخبرة طريقة في إدارة مصداقيتهم بأنفسهم، فإن "الخطر" الأكبر الذي يتهدَّدهم هو أن تقوم أطراف خارجية باستحداث آليات تنظيمية تتضمن وضع قواعد مُقَيِّدة، وحواجز تقنِّن الوصول إلى الكثير من الفضاءات الرقمية، وهو ما يمكن أن يؤدي إلى خنق هذه الثقافة التشاركية الناشئة.

- أخلاقيات المصداقية الرقمية

تمنح الثقافة التشاركية الشباب فرصًا غير مسبوقة لإبراز وتنمية معارفهم ومهاراتهم والقيام بأدوار ريادية كقادة وخبراء، وبالتالي كسب مصداقية في سنٍّ مبكرة نسبيًّا. بالتوازي مع ذلك، فإن الغياب النسبي لآليات المساءلة يدفع البعض إلى ممارسة الخداع. فالرغبة في المشاركة في بعض الفضاءات الرقمية والتصورات التي يرسخها العالم المادي، عبر المنظمة التربوية والاجتماعية عمومًا، عن أهمية المؤهلات قد تقود بعض الشباب إلى تمويه أو تقديم صورة غير دقيقة عن مؤهلاتهم. إن هذا السلوك، الذي قد تكون دوافع أصحابه نوايا حسنة، يعتبر سلوكًا مخادعًا، ويمكن أن يحمل الكثير من المخاطر للمخادِع والمخادَع. فالمصداقية الحقيقية تتأسَّس على الصدق والشفافية فيما يتعلق بالدوافع والكفاءة وحدودها. فالشباب الذين يدركون المسؤوليات والالتزامات المصاحبة للمصداقية ربما يكونون الأقدر والأجدر في الحفاظ عليها وتَثْمِينها واحتضانها سواء في العوالم الرقمية أو العالم المادي.

رابعًا: المشاركة بين العالم المادي والفضاءات الرقمية   

عند مقاربة هذا المفهوم في السياقات الرقمية، فإن هناك مجموعة من الأسئلة تتدافع في الذهن: ما دلالة المشاركة الأخلاقية في الفضاءات الرقمية؟ ما المعايير السلوكية التي يجب أن تقود سلوك الشباب عند استخدامهم لموقع مثل يوتيوب؟ ما القواعد الأخلاقية التي يجب أن تحكم عملية خلق وتقاسم المضامين؟ هل تسهم الفضاءات الرقمية في خلق فرص جديدة للمشاركة في الشأن العام؟ ما الأشكال التي يأخذ بها الشباب في القيام بدور المواطن في الفضاءات الرقمية؟ هل هناك مسؤوليات خاصة تقتضيها المُوَاطَنة الرقمية؟

وتتربَّع المشاركة على قمة الموضوعات الأخلاقية في الفضاءات الرقمية. وتركز على أدوار ومسؤوليات الأفراد في المجموعات التي ينتمون إليها، والمجتمع والعالم. وغالبًا ما تظهر في أشكال متعددة، مثل: الاتصال، والإبداع، والتقاسم، واستخدام المعلومات والمعرفة في كل مناحي الحياة الاجتماعية، والسياسية والاقتصادية وغيرها. سنركز هنا على ثلاثة أبعاد للمشاركة: دخول فضاء رقمي ما وأهم المهارات والأدوار المطلوبة للمشاركة، ومعايير السلوك في هذه الفضاءات، والمشاركة الاستباقية القائمة على المبادرة، مثل المساهمة في خلق المضامين والاهتمام بالشأن العام.

تختلف المشاركة في الشأن العام حسب الفترات التاريخية والمناطق الجغرافية. فمثلًا عندما طاف الفرنسي، ألكسيس دو توكفيل (Alexis de Tocqueville)، بالولايات المتحدة أدهشته كثرة الجمعيات التطوعية؛ فقد ذكر أن أغلب الجمعيات ترحب بالمشاركين بغضِّ النظر عن أوضاعهم الاجتماعية أو مؤهلاتهم. وتمثِّل هذه الجمعيات، في رأيه، أفضل حل لمواجهة ظاهرة العزلة التي تميز المجتمعات الديمقراطية، كما أنها تساعد في قياس مقدار قوة الحكومات. ويشارك الشباب، في الشأن العام، عبر المسارات التي غدت اليوم تقليدية، كالأنشطة التي تقوم بها الجمعيات الطلابية، ومؤسسات خدمة المجتمع، والأحزاب السياسية. وتتطلب هذه المشاركات الوجود في عين المكان، وتخصيص حيز زمني للقيام بذلك. وتتيح الفضاءات الرقمية، بالنظر إلى الآليات المرنة التي تحكمها، أشكالًا جديدة وغير متزامنة للمشاركة؛ حيث يمكن للجميع الحصول على نافذة لإسماع أصواتهم، وهو ما يراه البعض مساهمة مهمة في إعادة بعث أو إحياء نموذج الجمعيات التطوعية الذي أشار إليه توكفيل. 

وتتيح الفضاءات الرقمية لكل فرد يتوفر على إمكانية الوصول إلى تكنولوجيات الاتصال القيام بدور المشارك بغضِّ النظر عن المكان؛ إذ قد يكون مكانًا خاصًّا كالبيت أو عامًّا كالمدارس والمكتبات، إضافة إلى المهارات التقنية والاجتماعية. كما أن المعايير الأخلاقية في هذه الفضاءات أقل وضوحًا؛ حيث إن الكثير من المشاركين يعارضون فكرة بناء معايير خوفًا من تأثيرها سلبًا على حرية التعبير. وعلاوة على ما تقدم، فإن هناك ميزة أخرى لهذه الفضاءات الرقمية تتجلي من خلال الويب 2.0 وتتيح للمستخدمين تعديل المضامين المعروضة. فالمشاركة لا تقتصر على أولئك الذين يملكون مؤهلات ومواصفات خاصة (عِرق، سن، نوع...إلخ). وعليه، فهذه الفضاءات الرقمية تمنح مرتاديها إمكانية الذهاب أبعد من استهلاك ما هو مطروح والتفاعل معه، وذلك من خلال المبادرة إلى خلق مضامين متنوعة، قد تكون إعلامية، أو أدبية، أو موسيقية، وغيرها.

- مزايا المشاركة الرقمية

غالبًا ما يجري تَثْمِين وعود المشاركة في الفضاءات الرقمية والإعلاء من شأنها؛ فالمزايا والفوائد التي يحصل عليها الفرد قد تكون معارف أو مهارات، أو شعورًا بالقوة والتَّمكين أو التأثير، والتعرض إلى وجهات نظر متعددة. أما بالنسبة للمجموعات التي تتردَّد على هذه الفضاءات، فتستفيد من تعدُّد العضوية وتقاسم المعلومات، وكذلك الأمر بالنسبة للمجتمع عمومًا؛ حيث تكون الاستفادة على مستوى "صحافة المواطن"، والالتزام بالقضايا المجتمعية، والمشاركة الديمقراطية. وعليه، فليس غريبًا أن تثير هذه الإمكانيات والوعود المحايثة لهذه الفضاءات العامة الافتراضية الكثير من الإثارة والتشويق والاحتفاء

أ- يوفر الانفتاح الذي تتميز به الفضاءات الرقمية للشباب فرصًا كثيرة للقيام بأدوار تمنحهم الشعور بالقوة والتَّمكين؛ إذ يمكن لشاب ما خلق مجموعة حوارية وإدارة الحوار حول موضوع ما، أو المساهمة في وضع معايير سلوكية لمنتدى حواري حول قضية سياسية، أو القيام بدور المرشد أو الموجِّه لمجموعة من أقرانه أو لمجموعة من كبار السن ممن لا يملكون مهارات كافية للإبحار في الفضاءات الرقمية. فهذه الفرص في القيام بدور القائد والموجِّه والمعلم يمكن أن تسهم في بناء مهارات أساسية وخلق شعور قوي لدى الشباب بالتأثير في البيئة التي يتفاعلون معها.

ب- بغضِّ النظر عن المؤهلات الرسمية والمواصفات المرتبطة بالعرق والسن مثلًا، فإن الشباب من كل الخلفيات الاجتماعية والثقافية يمكنهم أن يسهموا في خلق وتقاسم الكثير من المضامين المعرفية والإعلامية. مثلًا من الثمار التي غالبًا ما ترتبط بهذا الانفتاح الذي يميز الفضاءات الرقمية "إعلام المواطن" أو "صحافة المواطن"؛ حيث تحيل هذه العبارة إلى مجموع الأنشطة "الإعلامية والصحفية" التي يقوم بها أفراد عاديون يستخدمون هواتفهم الذكية في تصوير الأحداث التي يشهدونها وينشرونها في مواقع التواصل الاجتماعي، مثل يوتيوب، رغم أنهم لا يملكون تأهيلًا أكاديميًّا في مجال الإعلام. ويقود المواطن العادي هذا الاتجاه الذي يسعى إلى التخفيف من الطابع المركزي للأخبار؛ حيث تسيطر المؤسسات على جمع ونشر الأخبار، وإضفاء طابع محلي على المضامين.

ج- تسهم فرص الحضور والمشاركة الرقمية للشبان في تعبئتهم للعمل الاجتماعي والسياسي؛ فقد أشار أحد الباحثين إلى إمكانية ظهور نموذج جديد للالتزام المدني (الالتزام 2.0) من خلال الفضاءات الرقمية؛ تحتضنه وتعمل على دعمه ثقافة التقاسم والتشارك باعتبارها نقطة الانطلاق في التأسيس لديمقراطية تشاركية، كما يرى جنكينس فثقافة التشارك، حسب هذا الباحث، تعتبر مصدرًا للقوة؛ لأنها تمكِّن الشباب من المبادرة والفعل، ومن ثم الشعور بأن ما يقومون به يؤثر في محيطهم؛ إذ يمكن للمشاركة حتى في الفضاءات التي لا تتسم بالطابع السياسي المباشر، مثل فيسبوك وورلد أوف ووركرافت (World of Warcraft)، أن تمنح الفرد شعورًا متزايدًا بالفاعلية، وهو أمر على غاية كبيرة من الأهمية؛ لأن هذا الشعور يعتبر محفِّزًا رئيسًا في الالتزام الاجتماعي والسياسي؛ الأمر الذي دفع جنكينس إلى الاعتقاد بأن هذا الشعور الجماعي القوي الذي يعيشه الكثير من الشباب في ظل هذه الثقافة يمكن أن يقودهم إلى إدراك أهمية العلاقات المدنية والتزاماتهم نحو الجماعات التي ينتمون إليها.

- المشاركة الرقمية والعنف الرمزي

قد يندفع بعض الشباب الذين لا يشاركون في هذه الفضاءات أو الذين يشعرون بالإقصاء إلى إنتاج خطابات تحث على الكراهية، وخلق الفوضى في الفضاءات الحوارية، وإفساد عملية التبادل بطرح آراء لا تتعلق بموضوعات النقاش، أو أي شكل آخر من أشكال السلوك غير المقبول. وقد يشجعهم على ذلك إمكانية إخفاء الأشخاص لهوياتهم الفعلية، ونقص التفاعل المواجهي، دون أن ننسى طبيعة الزمن في هذه الفضاءات نفسها. فالمضايقات الرقمية في المؤسسات التعليمية، خاصة الجامعات، مثلًا في ازدياد مستمر، ومع ذلك فإن هذه المؤسسات تتردد في التدخل لوضع حد لها؛ حيث إن الفضاءات الرقمية تقع خارج مجال صلاحيتها. فالكثير من الشباب لا يشعرون بأهمية مشاركتهم كمواطنين يتحملون مسؤولية سلوكياتهم، وكيف لهم أن يدركوا ذلك وهم ينظرون إلى الأمر وكأنه لعبة. فهذا الشعور بعدم المسؤولية والحرية "المطلقة"، وغياب قواعد واضحة للسلوك، يمكن أن يؤدي إلى خلق الكثير من الاختلال والفوضى في الفضاءات الرقمية. فغياب آليات واضحة للمساءلة والمحاسبة، أو عدم إدراك الشباب لها رغم وجودها، يعني ببساطة حرمان ضحايا السلوكيات غير المقبولة من أية آلية لحمايتهم.

من الاحتمالات الخطيرة المرتبطة بالمشاركة في الفضاءات الرقمية التزام بعض الأفراد ببعض الجماعات التزامًا يكاد يكون عقائديًّا، ومن ثم يحرمون أنفسهم من الاستفادة من فرص التفاعل مع رؤى وآفاق متنوعة قد تكون حاضرة في جماعات أخرى. وبما أن المستخدمين غالبًا ما يلجؤون إلى شَخْصَنَة أو تخصيص اختياراتهم الاستهلاكية للمعلومات والمعارف، فإن ذلك يمكن أن يؤدي إلى نوع من البَلْقَنَة والتَّشَظِّي. فاكتفاء هؤلاء المستخدمين بمصادرهم الإخبارية المفضلة، يمكن أن يؤدي إلى عزلهم ومن ثم حرمان أنفسهم من معطيات ووجهات نظر مغايرة وقيِّمة. كما أن استغراق "المواطنين الصحفيين" في الالتزام المفرط بالقضايا المحلية قد يكون على حساب اهتمامهم بقضايا أكبر. وقد يقوم هؤلاء بأنشطة دون الشعور بالمساءلة أو الوعي بمسؤولياتهم تجاه الجماعات التي ينتمون إليها. فمصطلح المواطن في "إعلام المواطن" يحيل، ضمن هذه الرؤية، إلى الشخص الذي يقوم بنشاط "إعلامي"، وليس إلى مفهوم المواطنة أو مسؤوليات ذلك المواطن. 

أخيرًا، من المخاطر المهمة المرتبطة بالمشاركة في الفضاءات الرقمية، الافتراض السائد بأن الثقافة التشاركية مرادف للالتزام المدني والمشاركة الديمقراطية، أو أنها تؤدي على أقل تقدير إلى تكريسهما. فإذا سلَّمنا بأن الفضاءات الرقمية يمكن أن تسهم في تنشيط الحياة الديمقراطية، فإن ذلك لا يعني بالضرورة أن هذا الأمر قد تحقَّق بالفعل أو في طريقة إلى التحقق بسهولة، فدون ذلك عقبات كثيرة. فالمشاركة في هذه الفضاءات قد تقود الكثير من الناس إلى الانسحاب من المشاركة في الحياة السياسية بسبب الشعور بالإحباط من السياسة وفساد أحوالها وعدم فاعليتها وابتعادها عن تطلعاتهم. ولا يُشكِّل الشباب استثناء في هذا السياق، فإذا تبيَّن لهم أنهم فاعلون فقط في الفضاءات الرقمية، فإن ذلك قد يقودهم إلى النفور من الحياة السياسية أو النظام السياسي القائم مثلهم في ذلك مثل الكثير من فئات المجتمع الأخرى.. وإذا كنَّا لا نشك في أن هذه الفضاءات الرقمية قد احتضنت الكثير من الشباب وأتاحت لهم تعلُّم الكثير من المعارف والمهارات، فإن نقل هذه المعارف والمهارات من السياق الرقمي إلى السياق المادي لن يكون مباشرًا وسيحتاج إلى تَبْيِئة.

- أخلاقيات المشاركة الرقمية

تكمن أهم مزايا الفضاءات الرقمية ومخاطرها في آن واحد في انفتاحها. فمن ناحية، تمكِّن هذه الفضاءات الشباب من القيام بأدوار مهمة، وتتيح لهم التفاعل مع رؤى وآفاق أرحب وأوسع. ومن ناحية ثانية، فإنها حاضنة للكثير من العنف الرمزي الذي يكون مصدره الكثير من الشباب وذلك دون الشعور بالمساءلة والمحاسبة. كما أن الكثير منهم تنحصر تفاعلاتهم، في هذه الفضاءات، في مجموعة ضيقة من الجماعات التي تتقاسم معهم نفس الاهتمامات. ومن ثم، فإن من النتائج المحتملة للمشاركة قد يكون التَّشَظِّي والانقسام بدل ترسيخ قيم التسامح الاجتماعي والمسؤولية بين الأفراد والجماعات. وسواء أدرك الشباب ذلك أم لم يدركوه، فإن اضطلاعهم بأدوار في الفضاءات الرقمية، كأن يكون الواحد منهم عضوًا في فيسبوك، أو مدوِّنًا، أو مواطناً صحفيًّا، أو منتج مادة فيلمية على يوتيوب، أو مادة فوتوغرافية على إنستغرام، يستلزم تحمل مسؤوليات مرتبطة بهذه الأنشطة.

فالسياقات والمحيط الذي يحيا فيه الشباب يمكن أن يُهَيِّئَهُم، وربما يخذلهم، لخوض تجربة الفضاءات الرقمية بوعي واقتدار والاستفادة من الفرص التي تتيحها لهم؛ إذ يحتاج الشباب، كحد أدنى، إلى الوصول للتكنولوجيات الرقمية وامتلاك المهارات التقنية الأساسية لاستخدامها. وليس هناك أفضل لضمان ذلك، على الأقل من الناحية المثالية، من السياقات والوضعيات التربوية التَّعَلُّمِيَّة (المدرسة وغيرها)، حيث إن هناك ثراءً في التأهيل والخبرة والتوجيه؛ إذ يلعب الموجِّهون أو المرشدون دورًا مهمًّا في نقل مهاراتهم وخبراتهم التقنية والاجتماعية إلى الشباب؛ حيث يرشدونهم إلى إدراك أن مشاركاتهم لا تقتصر على استخدام الفضاءات الرقمية، بل تسهم في تشكيل هذه الفضاءات وتحديد هويتها، وهو ما يذهب إليه جينكينس وزملاؤه؛ حيث يرون أن التربية على تكنولوجيات الاتصال الرقمية لا تنحصر في المهارات التقليدية (مثل الوصول والكتابة والبحث)، بل تتعداها إلى المهارات الاجتماعية والأخلاقية.

خاتمة

"يميل البعض إلى التفكير في الفضاء الإلكتروني كفضاء لا قيمة له، وكشكل من أشكال الهروب من الواقع، أو لهو عبثي. والأمر ليس كذلك البتة. فتجاربنا في هذا الفضاء تعتبر ألعابًا جادة وخطيرة؛ فالتقليل من شأنها يعرِّضنا للخطر. يجب أن نفهم ديناميات التجربة الافتراضية لنعرف مَنْ منَّا يمكن أن يكون معرَّضًا للخطر من ناحية، ونستثمر هذه التجارب في حياتنا أفضل استثمار من ناحية أخرى؛ إذ لا يمكننا استخدام هذه التجارب في إثراء الواقع الفعلي دون فهم عميق لذواتنا المتعددة والتي تصحبنا في الفضاء الافتراضي. إذا استطعنا تنمية وعينا والتعرف على شخصياتنا القابعة وراء الشاشة، فربما نجحنا في توظيف تجاربنا الافتراضية لإحداث تحولات شخصية".

تحث هذه الدعوة، أو إن صحَّ التعبير "المناشدة"، التي أطلقَتْها "تركل" على ضرورة التعامل مع العوالم الافتراضية بجدية عند صدور كتابها "الحياة على الشاشة: الهوية في عصر الإنترنت". ربما لم يتوقَّع الكثيرون، في تلك الفترة، أن تتعاظم أهمية التفاعلات الافتراضية، وأن تصل إلى المستوى الذي وصلت إليه اليوم، وتحتل هذه المساحة في حياتنا اليومية، بل وأن تصبح جزءًا من طقوسنا وروتينياتنا اليومية. هذه "المناشدة" تجد صداها اليوم في مجموعة واسعة من الأنشطة التي تستحوذ على اهتمام الشباب والكبار بشكل منتظم.

لقد حرصت هذه الدراسة على تقديم رؤية نقدية للكثير من المفاهيم والقضايا الأخلاقية وعلاقتها بممارسات الشباب في الفضاءات الرقمية وكيفية ترشيدها، واستأنست في ذلك بمجموع القراءات العالِمة، والمقاربات النظرية للدراسات الثقافية، والأنثروبولوجيا، وعلم النفس، وعلم الاجتماع، والدراسات الإعلامية. وقد توصلت إلى أن المسألة الخلافية، في الفضاءات الرقمية، تتمحور حول المفاهيم والقضايا الآتية: الهوية، والخصوصية، والمصداقية، والمشاركة، والتي يتمثَّلها "الشباب الرقمي" بشكل متمايز. وقد بيَّنت، من خلال مجموع الفضاءات التي ينشط فيها الشباب كشبكات التواصل الاجتماعي، والمدونات، والألعاب والأشكال الأخرى من الجماعات الرقمية، بروز مجموعة من المعايير المحددة التي تدور حول التمثُّل الذاتي والتعبير عن الذات، والكشف عن المعلومات الشخصية، والإبداع، وتقاسم المضامين، والسلوك تجاه الآخرين. وأظهرت أن بعض هذه المعايير، مثل خداع الهوية أو اللجوء إلى تبنِّي هوية مخادعة، سواء بهدف حماية الذات أو اللعب، تحمل رهانات أخلاقية، وتفترض بروز "عقليات أخلاقية" متمايزة.  

هذا التمايز يقتضي ترشيد ممارسات الشباب في الفضاءات الرقمية، من خلال الأخذ بمفهوم السلوك الافتراضي المقبول أو الحسن الذي يحيل إلى سلوك هادف ومسؤول اجتماعيًّا يتبنَّاه صاحبه خلال التفاعل مع الآخرين. لكن بالنظر للطبيعة التطورية والخلافية لبعض القضايا كالخصوصية مثلًا، فإنه ربما من السابق لأوانه تحديد ما تحيل إليه عبارات مثل: السلوك المسؤول أو الأخلاقي وما يشكِّل نقيضها، أي السلوك غير المسؤول وغير الأخلاقي، عند المشاركة في التفاعلات التي تحتضنها الفضاءات الرقمية؛ إذ إن هناك متغيرات عديدة قد تسهم في تحديد النموذج الذهني أو الموقف الأخلاقي الذي قد يتبنَّاه شاب ما حول مثل هذه القضايا.

لقد سعت الدراسة إلى تقديم رؤية متوازنة تجمع بين إبراز وعود التكنولوجيا والفضاءات الرقمية ومخاطرها على الشباب، وذلك بهدف تهيئة الشباب ليكونوا أكثر إنتاجية وإبداعًا دون التضحية بالأبعاد الأخلاقية عند حضورهم ومشاركتهم في هذه الفضاءات. وقد بيَّنت أن العبء الأكبر في هذه التجربة يتحمَّله حاليًّا الشباب. فالبنية الحالية للفضاءات الرقمية تبدو للشبان خالية من الإكراهات، وهو ما يتيح لهم القيام بكل أنواع الممارسات بشكل غير مسبوق، والشعور بالإفلات من المساءلة والمحاسبة. وتجاوزًا لهذا الوضع، ومن أجل خلق ممارسة راشدة وصحية، من الضروري مؤازرة مؤسسات التنشئة الاجتماعية والسياسية للشباب ومساعدتهم على التزود بمهارات معرفية وأخلاقية وقيم وأهداف توجِّه سلوكياتهم إلى ما فيه مصلحتهم ومصلحة المجتمع.


د. الصادق رابح
الاربعاء 6 يناير 2021