وتبريراً لتشاؤمي، كانت حجتي ستكون:
أولاً: في سياق مكافحة الشيوعية، اضطرت أوروبا، بدعم أميركي، لبناء علاقات عمل شبه اشتراكية للضمان الاجتماعي من صحة وتعليم وبطالة إلخ. وكان ذلك ممكناً في ظل الحرب الباردة. لكنه سرعان ما انهار أمام منافسة الصين والدول البازغة، بأجورها المنخفضة وضماناتها الاجتماعية شبه المعدومة.
ثانياً، حين اصطفت على شفا الانهيار الاقتصادات الأوروبية الأضعف، من اليونان إلى قبرص إلى هنغاريا، والآن إيطاليا وإسبانيا الخ، احتاج الأمر إلى قرار سياسي. لكن القرار لم يكن أوروبياً، بل كان قرار صاحب الجبروت الاقتصادي وبيت المال في برلين، الذي يرفض كفالة هذه الدول الكسولة. وفيما كان يشكل إطلاق آليات التضخم الأمل الوحيد للاقتصادات الأوروبية الضعيفة والغارقة في الديون، في منافسة العملاق الألماني، كانت ألمانيا تتمسك بعقيدة اقتصادية متصلبة، تكفر التضخم منذ أزمة فايمار عام 1920 (بينما تبني الولايات المتحدة نموها عبر مقص التضخم وإدارة المال كدين عام). وبالطبع كان التضخم سيعني أن يمول الاقتصاد الأقوى نهوض الاقتصادات الأضعف. فـ"كيف يُفترض بألمانيا وفرنسا، أن تموّلا هؤلاء الأوروبيين الجنوبيين الكسالى" عبر السماح بالتضخم في منطقة اليورو؟
ثالثاً، فيما أسست ألمانيا، وهي قلب أوروبا، تجربتها كماكينة إنتاج جبارة، ليس للتصدير إلى أوروبا، بل إلى العالم بأسره، شكل التصدير 49% من مجمل الدخل القومي الألماني. لكن مع تداعي مقومات العولمة، وما يوصف بتحوّل الأسواق بعد كوفيد وأوكرانيا، وانكسار سلاسل الإنتاج، يدخل نموذجها الاقتصادي أزمة هيكلية خطرة.
رابعاً، كان كل الترف ممكناً تحت مظلة العولمة، وفي ظل الوجود الكثيف للقوات الأميركية في أوروبا. وفي ظل وهم السلام الأبدي الحميد مع الجيران. فقد سمح الرخاء والبطر لأوروبا بتقليص تعداد قواتها لبضع عشرات من الألوف، وصناعاتها العسكرية والجوية لمجرد ألعاب متقدمة ينقصها الهيكل والتكامل والأهداف بطريقة مزرية. وباختصار، كانت أوروبا سعيدة بعولمة لا تكلفها إلا القليل.
رابعاً والأنكى، أن أوروبا لم تتعلم من تاريخها، بل استندت استراتيجيتها من جديد، إلى وهم ساذج بأن العلاقات الاقتصادية الجيدة تضمن السلام في أوروبا. فعلى مشارف الحربين العالميتين الأولى والثانية، كانت العلاقات الاقتصادية البريطانية الألمانية تصل إلى حد الاندماج، لكن ذلك لم يمنع الهجوم الألماني في كلتا الحربين.
ومرة أخرى غرق البيزنس الأوروبي الفاسد في تشابك اقتصادي وجودي واستراتيجي مع منظومة الأوليغارشيات الروسية للطاقة والمنظومة الصينية المعلوماتية. هذا، رغم معرفة أوروبا أن هذه الدول تجد في النموذج الاقتصادي الغربي، والأوروبي تحديداً، خطراً على نظامها السياسي ومصالحها الاستراتيجية، إذ لم يخف بوتين طموحه لاستعادة هيمنته الإمبراطورية على نصف أوروبا منذ عام 2007 ثم عام 2014.
خامساً، بسبب نسيان الأوروبيين فن إنجاب الأطفال وتربيتهم، ورفضهم حتى الهجرة الانتقائية، كانت أوروبا تدخل مرحلة اللارجعة في الانهيار الديموغرافي النهائي.
سادساً، بعد انهيار جدار برلين، لم ترغب أوروبا في أن تستفيق من الأحلام الوردية للعولمة الكونية، حيث الكل يمر والكل ينتج، والكل حبايب. إلى حد أنها كانت ترفض أن تستفيق على ضربات بوتين المبكرة على أبوابها منذ 2014.
من دون أزمة كوفيد ومغامرة بوتين، كان يكفي تأمل تداعي سلاسل التوريد والإنتاج كي ندرك عمق التحول الآتي. لكن أوروبا كانت تقاوم غريزياً حاجتها للاستيقاظ. إنما بحسب الأزمات، فإنها تسرّع التفاعلات الاجتماعية والسياسية.
ثم، فعلها بوتين وصفع أوروبا أولاً!
تختمر الآن تدريجياً ملامح تسونامي أوروبي للتحول والتكيف مع التحديات الهائلة المقبلة. وتتبدل أوروبا كما لم يحصل قط. وتبدو أوروبا الآن، رغم كل تناقضاتها، أكثر اتحاداً من أي وقت مضى منذ معاهدة وستفاليا في القرن السابع عشر.
وإذ ترمي أوروبا خياراتها الاقتصادية الساذجة لتعيد تأسيس موقفها على الجيو-استراتيجية، نستطيع القول إن غزو أوكرانيا نقطة انعطاف تاريخية نوعية.
أخيراً، يولّد خيار الأوروبيين أن يكونوا متّحدين الكثيرَ من الأمل في مستقبل أوروبا السياسي. فرغم أن أوكرانيا ليست في الناتو، تصبح الحرب الأوكرانية فرصة لتفكيك الخطر الروسي على السلم الأوروبي. وهذا ليس خياراً مجانياً، بل يكمن في صلب المصلحة الأوروبية، كما أنه خيار مكلف ومؤلم من لسعات البرد والجوع. ومجرد أن تقرر أوروبا أن تذهب موحدة وبوعي كامل منها نحو أزمة اقتصادية عميقة، قد تدوم بضع سنين، وأن ترفض الخضوع للابتزاز الاستراتيجي الروسي، فهذا يعزز المشروع الأوروبي.
تفطم أوروبا نفسها بعنف عن إدمانها الطاقة الروسية، وتفتح ألمانيا كيس نقودها، ليس لرفع موازناتها الحربية، ولا لرفع مستويات التصنيع الحربي، فحسب، بل من أجل التشارك مع الدول الأضعف في تحمل الأزمة الاستراتيجية والمعيشية المستحكمة والمتصاعدة، وترسل ألمانيا قواتها إلى بولندا. وها هي مع العديد من دول أوروبا، تشن حملة للتطهر من اختراقات بوتين لأولغارشيتها الفاسدة، وها هي تفك زنارها المالي لتقبل بآليات التضخم، وتغطي عجز شركائها الأوروبيين الأضعف. من دون ذلك ستصل روسيا إلى قلب الحصون الأوروبية.
سيتطلب بناء منظومة التكامل الأوروبية الكثير من العزيمة السياسية والمرونة الاقتصادية، والكثير من التضحيات الاجتماعية. سيتطلب خاصةً تبديلاً عميقاً في النموذج الاقتصادي الألماني، وسيتطلب من فرنسا الخلاص من لوثتها لاشتراكية الخ. وسيتطلب قبل كل شيء المزيد من الوحدة والتكافل الأوروبي.
والأجمل، بالنسبة إلينا، أن أوروبا التي ازدرت طويلاً جنوب المتوسط، منذ الحرب الباردة، تعود لتكتشف ذاتها الاستراتيجية المتوسطية من جديد. فها هو ماكرون يعتذر متأخراً عن الفظائع الفرنسية في الجزائر، وها هو شولتس يزور السعودية لعقد صفقات السلاح، الخ، والحبل على الجرار، فسبحان الله مبدّل الأحوال على ما تفعل الجيو-استراتيجيا.
تنجح أوروبا نجاحاً لافتاً في إدارة خلافاتها والتوافق على إعادة إنتاج أوروبا من جديد. فعلى مشارف 2023، نرى أن وحدها هذه الخيارات، ستسمح لها بالعودة كندّ في الشراكة مع الولايات المتحدة. والرياح من أوروبا توحي بأمل حقيقي!
------
النهار العربي
------
النهار العربي