يجب إيجاد طرق بديلة لإيصال المساعدات للمستحقين الفعليين في مناطق سيطرة النظام السوري
“لقد تسبب زلزال شباط 2023 في عودة النقاش الذي خضناه منذ عام 2015 عن نهب النظام السوري للمساعدات الإنسانية، وقررنا أنه لا بدَّ من العمل على تقرير موسع يكشف توظيف النظام السوري لأبرز منظمتين وهما الهلال الأحمر السوري، والأمانة السورية للتنمية في نهب المساعدات الأممية والدولية، وأن نسبة هذا النهب قد تصل إلى تسعين بالمائة، وبالتالي تتحول المساعدات عبر هذه المنظمات من مساعدات إنسانية إلى تمويل للنظام السوري المتورط بجرائم ضد الإنسانية وجرائم حرب”.
جاء في التقرير أن النظام السوري بدأ بإلغاء الانتخابات في منظمة الهلال الأحمر مع بداية الحراك عام 2011، والاعتماد على “تعيين” الإداريين بشكل مباشر، وتزامن ذلك مع ضمان ولاء المتطوعين والموظفين في المنظمة وذلك عن طريق تجنيد المزيد من الموالين للنظام مقابل إخماد صوت المعارضين في صفوف المنظمة باستخدام الوسائل القمعية المعروفة، ابتداءً مِن الفصل التعسفي، مروراً بالاعتقال والاحتجاز القسري وانتهاءً باستهداف سيارات الإسعاف التابعة للهلال بشكل مباشر وقتل المسعفين. وثق التقرير ما لا يقل عن 54 حالة اعتقال لمتطوعين في الهلال الأحمر، بينهم 3 سيدات، لا يزالون قيد الاعتقال/ الاحتجاز أو الاختفاء القسري ومقتل ما لا يقل عن 5 ضحايا بسبب التعذيب في مراكز الاحتجاز التابعة لقوات النظام السوري وذلك منذ آذار/ 2011 حتى تشرين الأول/ 2023. وسجل التقرير مقتل 73 متطوعاً في الهلال الأحمر بينهم 7 سيدات على يد أطراف النِّزاع والقوى المسيطرة في سوريا، وذلك منذ آذار/ 2011 حتى تشرين الأول/ 2023.
أضاف التقرير أن إحدى أبرز الاستراتيجيات التي اتبعها النظام السوري في سبيل السيطرة على الهلال الأحمر كانت ضمان ولاءات الإداريين والموظفين على حد سواء من خلال سياسات التوظيف الفاسدة القائمة على المحسوبيات. وقد برزت المحسوبيات والممارسات التمييزية كواحدة من مظاهر الفساد الأكثر انتشاراً في الهلال الأحمر الذي بات أداة بيد النظام السوري لمكافأة الموالين له بتقديم المساعدات لهم حتى إن كانوا غير مستحقين لها، ولمعاقبة معارضيه عبر حرمانهم من المساعدات بغض النظر عن حاجتهم لها. وأكد التقرير أن كل هذه الممارسات تتعارض مع مبدأ “عدم التحيز” الذي تتبناه الحركة الدولية للصليب الأحمر والهلال الأحمر، ومن المفترض أن الهلال الأحمر السوري يتبناه كذلك. وذكر التقرير أن جميع أنواع الفساد تتم في ظل غياب الشفافية من قبل الهلال من جهة وافتقار الجهات المانحة لآليات المساءلة الفعالة من جهة أخرى، بما فيها التدقيق المالي الخارجي. فمن جهته، يقدم الهلال الأحمر السوري تقارير للمانحين حول المشاريع التي يفترض أنه ينفذها والمستفيدين الذين يفترض أنه قدم لهم المساعدات لكن لا يوجد أي آلية للتأكد من مدى صحة هذه التقارير ودقتها، ولا من المبالغ التي تم صرفها. كذلك ينشر الهلال الأحمر السوري على صفحته الرسمية تقارير سنوية ونصف سنوية عن المشاريع التي نفذها الهلال خلال فترة زمنية معينة، لكن تفتقر هذه التقارير بشكل واضح للمهنية المؤسساتية، والشفافية، وتكتفي بذكر عدد من المشاريع التي تم تنفيذها مقترنةً مع أعداد المستفيدين دون ذكر أي تفاصيل أو أدلة حول تلك المشاريع.
طبقاً للتقرير فإن أسماء الأسد حرصت منذ تولى زوجها السُّلطة عام 2000 على أن تبرز شخصيتها كفرد فاعل في النظام السوري وأسست العديد مِن المشاريع والمبادرات التي اندمجت جميعها تحت مظلة مُنظمة واحدة أطلق عليها “الأمانة السورية للتنمية” والتي حصلت في نيسان عام 2007 على الترخيص القانوني وأدرجت في قوائم وزارة الشؤون الاجتماعية والعمل وتم الترويج لها على أنها تدعم المبادرات المحلية، وتُعزِّز المواطنة النشطة وريادة الأعمال، وتدعو إلى مشاركة المجتمع المدني في صنع القرار ومسائل التنمية. وأضاف التقرير أن الأمانة بسطت سيطرتها على أسواق حلب القديمة، وكذلك على “التكية السليمانية” التي تعتبر مركزاً للحرفيين في العاصمة دمشق، كما تحتكر الأمانة السورية للتنمية العديد من القطاعات الأخرى أهمها القطاع التنموي فبفضل صلاحياتها الحصرية تتلقى المنظمة القسم الأكبر من الأموال الدولية المخصصة لإعادة الإعمار أو التعافي المبكر، وتحتكر الإغاثة وتقديم الدعم القانوني للنازحين داخلياً عبر برنامج “الاستجابة القانونية الأولية”. وذكر التقرير أن الأمانة السورية للتنمية تُعرِّف نفسها على أنَّها مؤسسة “غير ربحية” إلاَّ أنَّ الوقائع التي تدحض هذا التعريف كثيرة للغاية، فقد استخدمت الأمانة كوسيلة للتربح المادي تحت غطاء العمل المدني و”المساعدة الإنسانية”. وحقَّقت الشركات المرتبطة بالأمانة أرباحاً طائلة على مدار سنوات مِن خلال العديد مِن الوسائل منها الفوز بمناقصات لمشاريع طرحتها الأمم المتحدة، وإدارة المشاريع الربحية. ولا تقدم الأمانة السورية للتنمية أي بيانات تتعلق بأرباحها أو مصادر دخلها، في غياب واضح للشفافية.
قال التقرير إن من أبرز مظاهر الفساد المنتشرة في الأمانة السورية للتنمية أنها شكلت وجهاً “مدنياً” لنظام عسكري سلطوي، حيث عملت من البداية على تلميع صورة هذا النظام، بل والمساهمة أيضاً في التغطية على جرائمه. فقد عملت الأمانة السورية للتنمية على حشد المسيرات المؤيدة للنظام في أكثر مِن مناسبة، وقادت العديد من المبادرات الدعائية والترويجية لنظام الأسد كما قامت أسماء الأسد بتمرير رسائل سياسية داعمة للنظام في العديد من خطاباتها في المنظمة وخارجها، تحدثت فيها عن المؤامرات الخارجية، وعن قيادة زوجها الصامدة في وجه المؤامرات. كما تشرف الأمانة على العديد من المشاريع الداعمة للجيش والمبادرات التي تشيد وتمجد ببطولاته، وتحاول الأمانة كسر العزلة الدولية المفروضة على النظام في الخارج، فتشارك في المعارض في الإمارات العربية المتحدة وترسل نماذج من الصناعات اليدوية إلى إيطاليا وتحاول الانخراط في النشاطات الثقافية هنا وهناك، مع الحرص على ربط الثقافة والتاريخ والمجتمع السوري بصورة السيدة الأولى وزوجها.
عرض التقرير ثلاث ممارسات في الأمانة السورية للتنمية تثبت غرق المنظمة في الفساد والمحسوبيات، أولها أن الأمانة تساهم بشكل واضح في دمج الأموال المخصصة للمساعدات الإنسانية في اقتصاد الحرب، عن طريق تخصيص جزء كبير من المساعدات لدعم المجهود الحربي، وثانيها أن الأمانة تعمل بمثابة أداة لمكافأة الموالين وعقاب المعارضين عبر حرمانهم من المساعدات الدولية المتبقية التي لم تتم سرقتها. إذ تكرس المساعدات القادمة من الأمم المتحدة وغيرها من المانحين، لامتصاص الغضب الشعبي من الأحوال الاقتصادية المتردية في البيئة الحاضنة للنظام، وتعمل من خلال هذه المساعدات على سد الفجوة التي باتت تتسع أكثر فأكثر بين النظام السوري والحاضنة الموالية له، وذلك عن طريق تركيز تحويل المساعدات للموالين للنظام بغض النظر عن الحاجة والاستحقاق. وأخيراً فإن المساعدات الموجهة للموالين، تخضع لدورة ثانية من الفساد والمحسوبية، فقد تحدَّث الكثير من الموالين عن عدم وصول المساعدات لهم على الرغم من أنهم مستحقون لها، فقط لأنهم لا يملكون “واسطة” مما يعني أن النظام يمنح مواليه عبر الأمانة للتنمية مزايا وهمية تتحدث عنها أسماء الأسد في المؤتمرات لجلب الدعم المالي وعبر وسائل الإعلام للظهور بصورة الساعي لمساعدة الفقراء والمحتاجين، لكن لا يتم تطبيق معظم هذه المزايا على أرض الواقع.
أثبت التقرير أن النظام السوري نجح في تحويل منظمات غير حكومية مثل الهلال الأحمر والأمانة السورية للتنمية إلى منظمات تدار من قبل الحكومة وهو نمط شائع في السياقات الاستبدادية يهدف إلى تقويض قدرات المجتمع المدني والسيطرة الحكومية على مؤسساته لتحقيق أهداف سياسية واقتصادية تصب في صالح النظام. كما قام بخلق مجتمع مدني يخدم لأجل تلميع وتسويق صورته كما هو الحال مع الأمانة السورية للتنمية. كما أثبت قيام النظام السوري بفرض الهلال والأمانة لتكونا بوابات حصرية لتلقي الدعم الدولي من وكالات الأمم المتحدة والدول المانحة، واستخدمهما لرفد البنك المركزي بالعملات الصعبة والاستحواذ على أموال طائلة من المجتمع الدولي، على الرغم من العقوبات التي يخضع لها.
أكد التقرير أن منظمة الهلال الأحمر أصبحت تحت سيطرة الأجهزة الأمنية بشكل واضح بعد الحراك الشعبي في آذار/2011، واستخدمت تلك الأجهزة بيانات المستفيدين من الهلال لملاحقة المطلوبين أمنياً كما وثِقت حالات استخدمت فيها مقرات الهلال للاحتجاز التعسفي، ولم يعد بإمكان المنظمة العمل دون تصريحات أمنية لا سيما في المناطق التي تسيطر عليها المعارضة، ووثقت العديد من الحالات التي تمت فيها سرقة المساعدات من قبل فروع الأمن أو الحواجز. وأضاف أن النظام السوري مكَّن أسماء الأسد مِن القضاء على منافسيها في مجال العمل الإنساني وساعدها على سحق المنظمات غير الحكومية الأخرى التي فضلت الاستقلالية، ليستطيع النظام السوري التحكم بالقطاع الإنساني عبر الأمانة السورية للتنمية.
أوضح التقرير أنه لا يمكن اعتبار مؤسسات مثل الهلال الأحمر السوري والأمانة السورية للتنمية مؤسسات مجتمع مدني ومؤسسات للعمل الإنساني وفق ما تؤمن به الحركة الدولية للصليب الأحمر والهلال الأحمر، لأنه يستحيل على مثل هذه المؤسسات المسيطر عليها من قبل النظام السوري أن تلتزم الحياد، والاستقلال، وعدم التحيز.
استنتج التقرير أن النظام السوري استغل الأموال المقدمة من الدول المانحة للمساعدات الإنسانية في احتكارات اقتصادية ساهمت في بناء ثروات شخصية لرؤوس النظام السوري، كما استفاد بشكل غير مباشر من التحويلات المالية التي كان يقدمها المانحون للفوز بمناقصات الأمم المتحدة للمشاريع الإنسانية المقامة في مناطق النظام.
طالب التقرير الدول المانحة بالتأكد من وصول المساعدات إلى محتاجيها بغض النظر عن انتماءاتهم السياسية وذلك عبر فرض آليات رقابة فعالة على المشاريع التي تمولها، والتواصل بشكل مستقل وحيادي مع المجتمعات المستفيدة من المساعدات للتأكد من وصولها لهم. كما طالبها بالتأكد من أن الشركاء المنفذين للمشاريع الإنسانية في سوريا غير خاضعين للعقوبات، وغير مرتبطين بشخصيات خاضعة للعقوبات أو متهمة بارتكاب انتهاكات جسيمة.
أوصى التقرير المجتمع الدولي بإدانة هيمنة النظام السوري على المساعدات الإنسانية وفرض عقوبات عليه لانتهاكه قواعد القانون الدولي الإنساني، وتحويله منظمة بمكانة الهلال الأحمر إلى أداة تتحكم بها الأجهزة الأمنية وتخدم هدف إطالة عمر النظام. كما أوصى الأمم المتحدة برفض الالتزام بالوكالات الحصرية التي يحددها النظام لإيصال المساعدات (الهلال والأمانة)، ورفض تحكم أجهزة الأمن بأنواع المشاريع التي يتم تنفيذها وهوية المستفيدين من هذه المشاريع، وغير ذلك من أنواع الابتزاز الذي يمارسه النظام السوري على وكالات الأمم المتحدة بهدف تسخير المساعدات لصالحه.
إلى غير ذلك من توصيات إضافية..
للاطلاع على التقرير كاملاً