جاءت فكرة عقد مؤتمر الحوار الوطني خطوة على طريق الاستجابة للمطالب الدولية في المرحلة الانتقالية: الشمولية والتعدّدية وحقوق الأقليات والنساء والشباب، التي طُرحت شرطاً للانفتاح الفعلي على السلطة الجديدة ورفع العقوبات عن سورية. مطالب كرّرها موفدون أميركيون وأوروبيون وأرفقوها بضغوط مباشرة عبر الالتقاء بممثلين عن منظمّات المجتمع المدني والأديان والنساء. كان المبعوث الأممي إلى سورية غير بيدرسون قد أشار إلى بعض هذه المطالب، وخاصة حكومة انتقالية شاملة وغير طائفية، باعتبارها بنوداً في قرار مجلس الأمن 2254 ما زالت صالحة. وهنا كمنت المشكلة/ المأزق حيث لا تشكل هذه المطالب مفردات النظام الذي تعمل السلطة الجديدة على إرسائه، كما عكسته خطواتها في الأشهر الماضية، بدءاً من نقلها حكومة إدلب إلى دمشق وتكليفها بتصريف الأعمال، ريثما تُشكّل حكومة انتقالية، والتي بدأت من فورها بالتصرف باعتبارها حكومة كاملة الصلاحيات من دون اعتبار لطبيعتها، ومن دون التوقف عند اعتراضات سوريين، حيث أعادت النظر في المناهج الدراسية وأغلقت القضاء وصرفت موظفين من وظائفهم وحدّدت طبيعة النظام الاقتصادي للدولة، نظام ليبرالي يستند إلى القطاع الخاص والاستثمارات الخارجية، من دون أن يعيدها قائد إدارة العمليات العسكرية أحمد الشرع إلى جادّة الصواب، ما يعني أنه موافق على ما جرى، وتصرفه هو نفسه بصلاحيات رئيس منتخب، بدءاً بتعيين رئيس أركان للجيش وترقية قادة وضباط فصائل شاركوا في عملية ردع العدوان ومنحهم رتباً عالية، ومنحِ رتب عسكرية عالية لأجانب في فصيله، تمهيداً لاحتلالهم مواقعَ قياديةً في الجيش الجديد، وتسمية رئيس جهاز الأمن العام التابع لهيئة تحرير الشام أنس خطاب رئيساً لإدارة المخابرات العامة، وتكليفه بتشكيل جهاز استخبارات جديد للدولة، وتعيين آخرين في مواقع وظيفية رفيعة: محافظين ومدراء أمن جنائي وإدارات مدنية... باسطاً بذلك سيطرته على البلاد بملء الفراغ الأمني والإداري برجاله ورجال حلفائه، قبل أن يُعقد مؤتمر النصر ويوليه رئاسة المرحلة الانتقالية.
وكانت ثالثة الاثافي، كما تقول العرب، تفويضه بتشكيل مجلس تشريعي مؤقت، فتفويضه بتشكيل مجلس تشريعي مؤقت يضع إعلاناً دستورياً جعله جزءاً من العملية التشريعية، في حين كان يجب أن يكون خارجها كي يُتاح للمجلس وضع قواعد عمل وضوابط دستورية لتصرّفاته رئيساً انتقالياً بمعزل عن أي تأثيرات جانبية، عدا أن قرار التفويض يُخضع عملية تشكيل المجلس لتقديرات فرد ورغباته وتفضيلاته السياسية والاجتماعية. جعل هذا كله خطوات السلطة الجديدة بمثابة وضع العربة أمام الحصان: السلطة والرئاسة أولاً ثم مجلس تشريعي وإعلان دستوري، فغدا المجلس والإعلان تحت قيادة السلطة، وسيأتي وفق تصورها ومصالحها بالضرورة. وقاد هذا إلى مزيد من الحذر في الأوساط السياسية العربية والأجنبية، الأميركية بشكل خاص، حيث أعلن وزير الخارجية الأميركي ماركو روبيو أن "الحكام الجدد في سورية لا يمنحوننا الطمأنينة". كان المنطقي أن تبدأ إدارة العمليات العسكرية بالتشاور مع القوى السياسية والمجتمعية ومنظمّات المجتمع المدني لاختيار أعضاء مجلس تشريعي مصغّر من قانونيين وخبراء دستوريين، يضع إعلاناً دستورياً مؤقتاً ينظّم عمل السلطات الثلاث قبل انتخاب رئيس جمهورية للمرحلة الانتقالية، التي ستستمر أربع أو خمس سنوات، وفق إعلان الشرع نفسه، بحيث يأتي انتخابه استكمالاً لهيكلة المرحلة الانتقالية، وضبط قراراته وممارساته بهذه المبادئ، كي تكون دستورية وشرعية بالتالي.
لم يكن ما جرى خطأ أو تصرّفاً عشوائياً؛ إنه عمل مخطّط ومنظّم هدفه إدارة المرحلة الانتقالية بشروط السلطة الجديدة وقيودها التي يسيطر عليها أحمد الشرع، تحقيقاً لهدفه في تشكيل نظام سياسي تحت السيطرة. وقد تجسّد هذا التوجه في حسمه في خطابه الرئاسي طبيعة النظام السوري الجديد: نظام رئاسي ومركزي، من دون انتظار تشكيل مجلس تشريعي مؤقت، ووضع إعلان دستوري للمرحلة الانتقالية، والبدء بمناقشة طبيعة النظام السياسي والاتفاق على النظام المناسب، كما جسّده حديثه عن رفضه استيراد أنظمة حكمٍ لا تتلاءم مع واقع البلاد وتحويل المجتمعات إلى حقل تجارب لتحقيق أهداف سياسية.
أرتبط عقد مؤتمر الحوار الوطني بتلبية مطالب دولية، على أمل استرضاء هذه الأطراف، والبدء برفع العقوبات المفروضة على سورية من أيام النظام البائد، وإطلاق عملية إعادة الإعمار، ما يسمح بتلبية تطلعات السوريين في توفير ظروف حياة مريحة في بلدهم على صعد المعيشة والخدمات، فالعقوبات لن ترفع عبر تكرار الطلب ليلاً ونهاراً؛ وإنما ترفع عند الاستجابة للمطالب الدولية، ما اضطرّ السلطة الجديدة لعقد المؤتمر، عله يحقق المأمول منه. غير أن تعارض التوجّهات الخارجية ومطالبها بخصوص الشمولية والتعدّدية مع توجهات قيادة السلطة الجديدة، الساعية إلى إقامة نظام بمواصفاتٍ توفر لها السيطرة والهيمنة، دفعها إلى ترتيب وعقد مؤتمر الحوار بشروط ومعايير تناسب هدفها، لا هدف المجتمع السوري، فكان "السّلق" وتحويل المؤتمر إلى "همروجة"، عبر تضخيم دلالات عقده وأهميته في صياغة سورية الجديدة وحشد عدد كبير من المواطنين، 800 شخص، قبل أن تعود وتقزّمه بالإعلان أن نتائجه توصياتٌ لا تلزمها، فالإعلان أن قرارات المؤتمر توصيات ينسجم مع توجهات الشرع الذي يعتنق، هو وأركان حكومته، مبدأ الشورى معلمة، فالسلطة الجديدة بحاجة ماسّة إلى رفع العقوبات واستجلاب الأموال والاستثمارات، كي تقدّم الخدمات الصحية والتعليمية، وتحسّن ظروف معيشة المواطنين، عبر توفير فرص عمل لهم، باعتبارها، إلى جانب توفير الأمن، رافعة الشرعية وقاعدة النظام المستهدف، وسبيله إلى الإمساك بالدولة وفرض السيطرة على المجتمع، كما حصل في مرحلة حكم إدلب، حيث حكمت هيئة تحرير الشام المجتمع وسيطرت عليه باعتمادها ثنائية الأمن والمعيشة رافعة لإغلاق الفضاء السياسي، حيث لا حرّيات ولا نشاطات سياسية واجتماعية ومدنية تحت طائلة الاعتقال والسجن بذرائع تعكير الأمن والاستقرار في "المحرّر".
جاءت صورة الحوار الوطني التي أرادت السلطة الجديدة تقديمها للدول الغربية، الولايات المتحدة على وجه الخصوص، بنتائج عكسية، فقد زادت من القلق الدولي على الوضع العام في سورية، إنْ لجهة دعوة المشاركين بصفتهم الشخصية وعدم إشراك القوى السياسية والمدنية، وهو ما يؤكّد ما ورد أعلاه عن توجه السلطة الجديدة إلى إغلاق الفضاء السياسي، أو لجهة عدم أخذ البيان الختامي بملاحظات المتحاورين في الغرف الست، ما كشف أنه مكتوبٌ سلفاً، واعتبار بنوده توصياتٍ سيبُقي بعمومياته الإيجابية المجال مفتوحاً أمام السلطة الجديدة للالتفاف على البنود التي لا تتوافق مع توجّهها. أرادته صورة لا أكثر، ما رفع من حدّة الانتقادات التي تُوجه إلى الشرع والحكومة، حتى من مواطنين كانوا حتى الأمس القريب من مؤيّدي القرارات التي اتخذتها هيئة تحرير الشام، وهو ما بدأنا نشاهده ونقرأه على وسائل التواصل الاجتماعي. هذا وقد ربطت تقديراتٌ بين دعوة الشرع لزيارة الأردن وعدم رضا عربي وأجنبي عما يحصل في سورية، من حبس السيولة والاستحواذ على مدّخرات المواطنين وحوالاتهم من العملة الأجنبية بأبخس الاسعار وصولاً إلى "همروجة" مؤتمر الحوار الوطني، مروراً بمنع عقد مؤتمرات صحافية وورشات عمل لناشطين سياسيين ومدنيين، وبفتح السوق لواردات غير مرتبطة بحاجة السوق المحلية ومن دون شروط جودة صارمة، مستشهدين على رأيهم بقصر فترة الزيارة، ساعات، وتواضع المراسم، لم تكن حافلة وأبقيت على مستوى منخفض، واعتبروها دعوة لتبليغ رسائل تذكّره بالمطالب الغربية.
عكس عقد مؤتمر الحوار الوطني بشروطه وقيوده ونتائجه المحددة مسبقاً، بالإضافة إلى قرارات السلطة الجديدة الأخرى، هدفها المركزي: اغلاق الفضاء العام أمام أي توجهاتٍ سياسيةٍ خارج خياراتها وقطع الطريق على العمل السياسي والحقوقي، في تكرار فج لتجربتها في فترة حكمها إدلب، متجاهلة عدم نجاح تجربتها هناك في إسكات المواطنين الذي جسّده خروجهم في تظاهرات واعتصامات كبيرة وواسعة، كادت تطيح التجربة وزعيمها أبو محمد الجولاني، لولا حصول تطوّرات إقليمية (طوفان الأقصى مثلاً) ساعدته على الالتفاف على مطالب المواطنين عبر تصوير نفسه جزءاً من المعركة في قطاع غزّة. ناهيك عن الفارق الكبير والجوهري بين فضاء محافظة ريفية وفضاء دولة كبيرة ذات مدن كبيرة لها ثقافتها وتطلعاتها وتوجهاتها السياسية والاجتماعية، ما سيجعل انفجار الوضع حتمياً، خاصة أن السلطة الجديدة لم تنجح في إقناع قطاعات واسعة من الشعب السوري أنها سلطتهم؛ وأنها لم تنجح في بسط الأمن، وأن التطورات الأمنية تُنذر بأخطار كبيرة في ضوء وجود دول طامحة لبسط سيطرة ونفوذ في سورية، وأخرى تسعى إلى إضعافها، وحل مشكلاتها مع توفير الأساسيات المعيشية والخدمية بيد الإدارة الأميركية، عبر رفع العقوبات وفتح باب الاستثمار في سورية. ما يستدعي تحرّكاً سريعاً لجسْر الهوة بين توجهاتها السياسية وتطلعات المواطنين في الحرية والكرامة، وتحاشي انفضاض الدول العربية عنها نتيجة تمسّكها بتوجّهاتها غير المقبولة لا عربياً ولا دولياً.
-------------

العربي الجديد