الجمعة الماضية توصلت المملكة العربية السعودية وإيران إلى اتفاق برعاية صينية يفضي إلى إعادة العلاقات الدبلوماسية بين البلدين خلال شهرين من إعلان الاتفاق. وعلى الرغم من الترحيب الواسع الذي لقيه الاتفاق إلا أن كثيراً من المراقبين والمسؤولين استقبل هذا الإعلان عن الاتفاق بـ«تفاؤل حذر» ألمح إليه وزير الخارجية السعودي الأمير فيصل بن فرحان الذي أشار إلى أن الاتفاق لا يعني حل كل الخلافات.
يأتي ذلك الحذر في التعاطي مع الاتفاق من تجارب كثيرة كان النظام في طهران من خلالها «يُظهر شيئاً ويبطن أشياء» على سبيل «التقية السياسية» التي تعد ضمن تكتيكات النظام المتبعة في علاقاته الدولية، رغم أن قروناً تفصل بينه اليوم وبين المراحل التي أنتجت مفهوم «التقية».
يريد النظام الإيراني من خلال الاتفاق المذكور أن يخرج من عزلته الإقليمية، ويعلم أن الطريق إلى علاقات مع دول المنطقة يمر عبر الرياض لما للسعودية من ثقل ديني ووزن اقتصادي يرى النظام أنه في حاجة إليه في ظل العزلة الإقليمية والدولية التي يعانيها. أما الرياض فيمكن ملاحظة أن استراتيجيتها الحالية ذات أبعاد اقتصادية وسياسية تريد من خلالها التفرغ لعمليات التغيير الواسعة التي تحدثها على المستوى الاقتصادي والاجتماعي والإداري، وهذا يحتاج إلى مناخ ملائم تتفرغ بموجبه الرياض لطموحاتها الداخلية والإقليمية والدولية، وفقاً لمبدأ «إطفاء الحرائق» في جوارها، وخاصة الجوار اليمني الذي كانت كلفة فاتورته باهظة على الرياض.
لا ننسى ـ هنا ـ أن للصين حساباتها ضمن هذا الاتفاق الذي تم برعايتها، حيث تريد بكين تأمين وصولاً سهلاً وأكثر فاعلية لمنطقة الشرق الأوسط، وترى أن الرياض كذلك هي بوابة تواجد صيني اقتصادي وسياسي في المنطقة يضمن للصين قدراً من التنافس مع الأمريكيين الذي كان الاتفاق فيما يبدو مفاجئاً لهم، والذين أظهروا ترحيباً بالاتفاق لا يخرج عن «كليشيهات المجاملة» التي تستعمل لإخفاء الامتعاض من سلوك ما، حيث ظهر أن أخطاء واشنطن الفادحة في التعامل مع ملف الحرب في اليمن وغيره، نتجت عن «انتهازية الأصدقاء» التي سعت واشنطن بموجبها لتوظف الورقة اليمنية لمزيد من الانتفاع على مستوى الداخل الأمريكي في التنافس بين الحزبين الجمهوري والديمقراطي، كما هو الشأن في محاولة واشنطن التكسب باستنزاف الأطراف المختلفة يمنياً وإقليمياً لتحقيق أهداف من بينها أن تزيد الرياض من اعتمادها على السلاح الأمريكي، وهي السياسة التي يبدو أن الرياض أدركتها، فأرادت أن ترسل برسائل محددة لواشنطن من خلال اتفاقها مع طهران ـ وبرعاية صينية ـ على جملة من التوافقات من المقرر أن تفضي إلى تبادل السفراء خلال شهرين.
لكن السؤال هنا هو: هل النظام الإيراني مستعد لدفع مقابل هذا التطبيع في العلاقات العربية الإيرانية، والذي إن لم يساعد النظام كثيراً على مستوى كسر العزلة العالمية، فلا أقل من أن يساعده في مواجهتها، وهذا ضمن أهداف طهران المتوخاة من سعيها نحو الرياض؟
يكمن جانب من أزمة النظام الإيراني في شعوره العاصف بـ«عزلة الأقلية» ورغبته الطاغية بـ»دور الأغلبية»، كما في إحساسه بـ«الإقصاء» وطموحه العارم لـ«القيادة»
هناك الكثير من الشكوك هي السبب في التعاطي الحذر مع هذا الاتفاق الذي يبدو أن الظروف الإقليمية والدولية هي التي دفعت إليه أكثر من كونه رغبة حقيقية في إقامة علاقات طبيعية، ما يجعلنا ننظر إلى الاتفاق على أساس أنه مرحلي وتكتيكي، بما أنه يصعب التوفيق بين المصالح الاستراتيجية المتناقضة في كثير من الجوانب لكل من السعودية وإيران، في ظل رغبة إيرانية واضحة في الهيمنة الإقليمية التي يُنظر إليها على أساس أنها النافذة الإيرانية نحو التنافس الدولي، وهذا يتعارض بكل تأكيد، ليس مع مصالح السعودية وحسب، ولكن مع المصالح العربية والدولية بشكل عام.
وبالعودة للاتفاق الذي نصت بعض بنوده على ضرورة احترام سيادة الدول وعدم التدخل في شؤونها الداخلية، يطرح هنا سؤال آخر عن سلوك طهران في دعم ميليشياتها الطائفية في المنطقة ومستقبل هذا الدعم لتلك الميليشيات التي تعتبر «السلاح النووي الحقيقي» الذي تملكه إيران في الوقت الحالي.
يصعب هنا تصور توقف إيران عن دعم تلك الميليشيات، ولكن إيران يمكن أن تلجأ إلى تكتيك آخر، بتوجيه ميليشياتها نحو نوع من التهدئة المطلوبة والكافية لجعل الرياض تستشعر قيمة هذه التهدئة بما يشجعها على الاستمرار في التقارب مع طهران، وبشكل يجعل من الصعب على الرياض العودة عن هذا الطريق الذي تراه طهران طريقها الوحيد لإحداث الاختراق المنشود.
ورغم أن الثمار ظهرت على الساحة اليمنية قبل الاتفاق الأخير بقرابة عام كامل من التهدئة، حيث أوقف الخبراء الإيرانيون في اليمن إطلاق الصواريخ والطائرات المسيرة الإيرانية على الجوار بشكل واضح، وخففوا من توجيه تلك الصواريخ والطائرات على الداخل اليمن، الأمر الذي فهم على أنه جاء ضمن محاولات مستمرة بدأت في 2021 في كل من مسقط وبغداد لتهيئة الأجواء للاتفاق الذي أعلن عنه الجمعة الماضية، رغم كل ذلك فإن شحنات الأسلحة الإيرانية المهربة لليمن لم تنقطع خلال تلك الفترة، وهو ما يجعل المراقبين يتعاملون بحذر في التعاطي مع الأجواء «الإيجابية» التي سادت عقب إعلان الاتفاق، ناهيك عن ما هو معروف من أن الإيرانيين يتعاطون مع الاتفاقات بشكل تكتيكي، حيث يستمرون فيها ما حققت مصالحهم، وينقلبون عليها متى انقضى الغرض منها، وفي أحيان كثيرة يظلون ملتزمين بها شكلياً وينسفونها على المستوى العملي، وكل ذلك بناء على ما تراه طهران تحقيقاً لمصالحها الاستراتيجية بغض النظر عن مصالح الأطراف الأخرى الداخلة في الاتفاق، وهو سلوك إيراني معروف نقلته إيران لوكلائها العرب في المنطقة.
بقي أن نورد هنا مقولة دقيقة لأحد وزراء الخارجية العرب الذي قال مرة: «الإيرانيون يكذبون، ونحن نعلم أنهم يكذبون، وهم يعلمون أننا نعلم أنهم يكذبون» وهذا السلوك هو الذي جعل كثيراً من المراقبين يقولون إن الاتفاق أقرب إلى «التكتيك» منه إلى «الاستراتيجية» الشاملة التي تسعى إلى تحقيق مصالح الجميع، حيث يبدو أن الطريق الإيراني الذي مر عبر كثير من المدن والعواصم العربية يريد أن يغير وجهته ليمر عبر الرياض التي تدرك الآثار الكارثية لهذا الطريق على المدن التي مر بها أثناء رحلته إلى «القدس» وما القدس هنا إلا «المجد الامبراطوري» الذي تسعى إيران لإحيائه.على حساب جيرانها العرب ـ تحديداً ـ وبكل وسيلة ممكنه.
أخيراً: قد يكون هناك قدر من التشاؤم إزاء الاتفاق السعودي الإيراني على عودة العلاقات بين البلدين، لكن «التشاؤم الواقعي» خير من «التفاؤل المثالي» ولندع ترجيح أي من الكفتين للأيام، فهي كفيلة بجلاء كل لبس.
القدس العربي