ثمّة مواقفُ تاريخية لا يوجد أي تفسير منطقي أو علمي لحدوثها، ولا يمكن إلا أن ترى كيف تدفع يدُ الإرادة السماوية البعضَ لاتخاذها لحكمةٍ ستظهر للناس عاجلاً أو آجلاً.
ولو أن سورياً صرّح إلى ما قبل أسابيع قليلة بالعبارة المذكورة أعلاه، ولصحيفة النيويورك تايمز الأميركية، لكان هذا أقصر طريق لمحاكمته بالخيانة العظمى. فالمفروض وفق منطق المقاومة والممانعة أن وجود الاستقرار في سوريا، بمعانيه ومقتضياته الحقيقية، هو الذي يجب أن يكون مدعاةً لغيابه في إسرائيل. وحين تربطُ بهذا الشكل الواضح، وفي مثل المقام الذي تمّت فيه المقابلة الصحفية، بين أمن النظام في سوريا وأمن إسرائيل، فإنك تتّهمُ ذلك النظام بكل وضوحٍ وصراحة. لأنك تؤكد بتصريحك أن استقراره هو الضامن الحقيقي والوحيد لاستمرار الاستقرار في إسرائيل. وهذا اتهامٌ في غاية الخطورة لا نعلم كيف يمكن أن يمرّ داخل سوريا نفسها مرور الكرام دون مساءلةٍ إن لم نقل محاكمة، بغضّ النظر عن كل ما يجري في سوريا هذه الأيام.
لن يكون غريباً أن يشعر عشرات الملايين من العرب والمسلمين بالغثيان بعد سماعهم بالتصريح المذكور. ويتفهّم المرء أن تبقى تلك المشاعر حبيسة النفوس ومجالس الكلام اليومية لأن الطريق مسدود بين هؤلاء وبين وسائل الإعلام. أما ما لا يمكن أن يُفهم من قريب أو بعيد فإنه يتمثل في غياب صوت كل من صنّف نفسه يوماً من الأيام في خانة دعم المقاومة بأي طريقة.
ماذا يقول العشرات من الفنانين والمثقفين والكتاب السوريين واللبنانيين والعرب ممن كانوا يؤكدون أن سوريا تتعرض لما تتعرض له لأنها تحديداً بلد المقاومة والممانعة في وجه إسرائيل؟ ما هو موقف الحركات والأحزاب والتنظيمات التي وقفت وتقف مع سوريا لأنها ذلك البلد المقاوم والممانع؟
هذه لحظة الحقيقة بالنسبة لهؤلاء جميعاً. فإما أن يسمع الرأي العام العربي والإسلامي صوتهم ويعرف موقفهم، أو يكفر بهم وبكل بياناتهم وتصريحاتهم إلى يوم الدين.
وإذا كنا نرى في السكوت عن التصريحات المذكورة داخل سوريا سقوطاً مدوياً ونهائياً لورقة المقاومة فيها، فإن السكوت عنها في الخارج يمكن أن يكون سبيلاً لسقوط المقاومة نفسها، وكل من يمثلها أو يقول بأنه يقف في صفّها.
قد ينسى بعض الناس، وقد يتناسى بعضهم الآخر، لكن التاريخ لا ينسى.
ربما يجدر هنا التذكير ببعض مواقف (المقاومة) و(الممانعة) التي لازالت جراحها تنزّ في الذاكرة الفلسطينية والعربية.
يقول كمال جنبلاط في كتابه (هذه وصيتي) في الصفحة (105): «نقل عن ياسر عرفات قوله للأسد عند اجتماعه به في 27/3/1976م (إن قلب المقاومة ومستقبلها موجود في لبنان، وإن إرهاب الجيش السوري والصاعقة لن يفيد، وإنه يعز علينا أن نصطدم بالجيش السوري ونحن على مرمى مدفعية العدو الصهيوني والأسطول السادس الأميركي). فكان رد الأسد (ليس هناك كيان فلسطيني، وليس هناك شعب فلسطيني، بل سوريا وأنتم جزء من الشعب السوري، وفلسطين جزء من سوريا، وإذن نحن المسؤولون السوريون الممثلون الحقيقيون للشعب الفلسطيني).
يُقتل الرجل الوطني المثقف بعدها بسنة، ثم يسقط مخيم تل الزعتر في لبنان على يد الميليشيات اليمينية بتاريخ 14 أغسطس من عام 1976م بعد أن حاصرته القوات السورية أكثر من شهر ونصف، حيث منعت تلك القوات وصول الطعام والماء والذخيرة إلى المخيم، كما شاركت في الإعدامات وهتك الأعراض والنهب تحت قيادة العقيد علي مدني، قائد الشرطة العسكرية، ومن رجال الحركة التصحيحية 1971م.
وفي عام 1982م اجتاحت إسرائيل لبنان واحتلت أول عاصمة عربية تحت نظر وسمع القوات السورية التي «خرجت بكامل أفرادها وما كان قد بقي سالما من معداتها، بعد أن فتحت لها القوات الإسرائيلية ممراً برياً خاصاً ومحدداً برعاية المبعوث الأميركي فيليب حبيب.. في حين رفض ياسر عرفات الخروج إلى دمشق أو عن طريقها وفضل الخروج إلى بلدٍ غربي هو اليونان في إشارة سياسية صريحة تعكس حجم توتر العلاقة بين القيادتين السورية والفلسطينية خلال الحرب» كما نقل ممدوح نوفل الزعيم السياسي والعسكري وعضو المجلس الوطني الفلسطيني.
وفي صيف عام 1983م حاصرت القوات السورية القائد الراحل ياسر عرفات بعد عودته لمناصرة قواته في شمال لبنان، إلى أن سقط مخيما البداوي ونهر البارد بعد ثلاثة أشهر بعد سقوط أكثر من 1000 شهيد فيهما من المقاتلين والمدنيين الفلسطينيين. وكان هذا الخروج الثاني من لبنان حيث غادر عرفات طرابلس على متن السفينة «أوديسيوس إيليتيس» مع ضباطه و4000 مقاتل، أقلتهم 5 سفن يونانية ترافقها البحرية الفرنسية. والمفارقة أن يتم هذا الرحيل بوساطة فرنسية- سعودية وبجهود مصرية وصينية مدعومة من غالبية الدول العربية، ومنها الكويت التي هددت يومها سوريا بوقف المساعدات الاقتصادية عنها.
قد تكون مثل هذه الأحداث جزءاً مما دفع الشاعرة العربية لينا أبو بكر للحديث عما أسمته بـ «الحَول السياسي»، لكنها رأت مصداقاً آخر له بقولها: «فالدبابات تقَتحم درعا التي يقطنها مدنيون سوريون وتقع تحت سيادة سوريا كاملة وعلى بعد 20 كيلومترا فقط من هضبة الجولان التي يحتلها الجيش الاسرائيلي منذ النكسة عام 1967، فأن يضطر نظام ما لاحتلال ومحاصرة مدينة تقع أصلا تحت حكمه وسيطرته لمجرد أن المدنيين يطالبون بإصلاحات، بينما يُغفل جيشا بل ودولة -يفترض أنها عدوة- تتوغل في عمقه الجغرافي منذ ما يزيد على الأربعين عاما من دون أن يكلف نفسه إطلاق رصاصة عرس واحدة حتى في سمائها».
هل ثمة داعٍ للتذكير أيضاً بتفاصيل الصبر الأسطوري على كل أنواع المعاناة، والتي كانت من نصيب الشعب السوري على مدى عقود باسم المقاومة والممانعة؟ هل ثمة داعٍ للتوضيح بأن هذا الشعب، وليس غيره، هو الذي احتضن الفلسطينيين بعد (النكبة)، واحتضن اللبنانيين أثناء عدوان إسرائيل على لبنان عام 2006م؟
ما يدعو للرثاء أكثر من كل شيء آخر هو تلك المحاولات المتخبطة لتغطية «فلتة» رامي مخلوف حين يُعلن أحد مواقعه الإلكترونية أن الصحيفة شوّهت تصريحاته. ثم حين يظهر أن سجلّ المقابلة موجود، تخرج السفارة السورية في واشنطن ببيان تقول فيه إن الرجل مواطن سوري عادي لا يشغل أي منصب حكومي وأن آراءه شخصية ولا تعبر عن وجهة نظر الحكومة السورية؟!
صدق المثل السوري (اللي استحوا ماتوا).
------------------
"العرب القطرية"
ولو أن سورياً صرّح إلى ما قبل أسابيع قليلة بالعبارة المذكورة أعلاه، ولصحيفة النيويورك تايمز الأميركية، لكان هذا أقصر طريق لمحاكمته بالخيانة العظمى. فالمفروض وفق منطق المقاومة والممانعة أن وجود الاستقرار في سوريا، بمعانيه ومقتضياته الحقيقية، هو الذي يجب أن يكون مدعاةً لغيابه في إسرائيل. وحين تربطُ بهذا الشكل الواضح، وفي مثل المقام الذي تمّت فيه المقابلة الصحفية، بين أمن النظام في سوريا وأمن إسرائيل، فإنك تتّهمُ ذلك النظام بكل وضوحٍ وصراحة. لأنك تؤكد بتصريحك أن استقراره هو الضامن الحقيقي والوحيد لاستمرار الاستقرار في إسرائيل. وهذا اتهامٌ في غاية الخطورة لا نعلم كيف يمكن أن يمرّ داخل سوريا نفسها مرور الكرام دون مساءلةٍ إن لم نقل محاكمة، بغضّ النظر عن كل ما يجري في سوريا هذه الأيام.
لن يكون غريباً أن يشعر عشرات الملايين من العرب والمسلمين بالغثيان بعد سماعهم بالتصريح المذكور. ويتفهّم المرء أن تبقى تلك المشاعر حبيسة النفوس ومجالس الكلام اليومية لأن الطريق مسدود بين هؤلاء وبين وسائل الإعلام. أما ما لا يمكن أن يُفهم من قريب أو بعيد فإنه يتمثل في غياب صوت كل من صنّف نفسه يوماً من الأيام في خانة دعم المقاومة بأي طريقة.
ماذا يقول العشرات من الفنانين والمثقفين والكتاب السوريين واللبنانيين والعرب ممن كانوا يؤكدون أن سوريا تتعرض لما تتعرض له لأنها تحديداً بلد المقاومة والممانعة في وجه إسرائيل؟ ما هو موقف الحركات والأحزاب والتنظيمات التي وقفت وتقف مع سوريا لأنها ذلك البلد المقاوم والممانع؟
هذه لحظة الحقيقة بالنسبة لهؤلاء جميعاً. فإما أن يسمع الرأي العام العربي والإسلامي صوتهم ويعرف موقفهم، أو يكفر بهم وبكل بياناتهم وتصريحاتهم إلى يوم الدين.
وإذا كنا نرى في السكوت عن التصريحات المذكورة داخل سوريا سقوطاً مدوياً ونهائياً لورقة المقاومة فيها، فإن السكوت عنها في الخارج يمكن أن يكون سبيلاً لسقوط المقاومة نفسها، وكل من يمثلها أو يقول بأنه يقف في صفّها.
قد ينسى بعض الناس، وقد يتناسى بعضهم الآخر، لكن التاريخ لا ينسى.
ربما يجدر هنا التذكير ببعض مواقف (المقاومة) و(الممانعة) التي لازالت جراحها تنزّ في الذاكرة الفلسطينية والعربية.
يقول كمال جنبلاط في كتابه (هذه وصيتي) في الصفحة (105): «نقل عن ياسر عرفات قوله للأسد عند اجتماعه به في 27/3/1976م (إن قلب المقاومة ومستقبلها موجود في لبنان، وإن إرهاب الجيش السوري والصاعقة لن يفيد، وإنه يعز علينا أن نصطدم بالجيش السوري ونحن على مرمى مدفعية العدو الصهيوني والأسطول السادس الأميركي). فكان رد الأسد (ليس هناك كيان فلسطيني، وليس هناك شعب فلسطيني، بل سوريا وأنتم جزء من الشعب السوري، وفلسطين جزء من سوريا، وإذن نحن المسؤولون السوريون الممثلون الحقيقيون للشعب الفلسطيني).
يُقتل الرجل الوطني المثقف بعدها بسنة، ثم يسقط مخيم تل الزعتر في لبنان على يد الميليشيات اليمينية بتاريخ 14 أغسطس من عام 1976م بعد أن حاصرته القوات السورية أكثر من شهر ونصف، حيث منعت تلك القوات وصول الطعام والماء والذخيرة إلى المخيم، كما شاركت في الإعدامات وهتك الأعراض والنهب تحت قيادة العقيد علي مدني، قائد الشرطة العسكرية، ومن رجال الحركة التصحيحية 1971م.
وفي عام 1982م اجتاحت إسرائيل لبنان واحتلت أول عاصمة عربية تحت نظر وسمع القوات السورية التي «خرجت بكامل أفرادها وما كان قد بقي سالما من معداتها، بعد أن فتحت لها القوات الإسرائيلية ممراً برياً خاصاً ومحدداً برعاية المبعوث الأميركي فيليب حبيب.. في حين رفض ياسر عرفات الخروج إلى دمشق أو عن طريقها وفضل الخروج إلى بلدٍ غربي هو اليونان في إشارة سياسية صريحة تعكس حجم توتر العلاقة بين القيادتين السورية والفلسطينية خلال الحرب» كما نقل ممدوح نوفل الزعيم السياسي والعسكري وعضو المجلس الوطني الفلسطيني.
وفي صيف عام 1983م حاصرت القوات السورية القائد الراحل ياسر عرفات بعد عودته لمناصرة قواته في شمال لبنان، إلى أن سقط مخيما البداوي ونهر البارد بعد ثلاثة أشهر بعد سقوط أكثر من 1000 شهيد فيهما من المقاتلين والمدنيين الفلسطينيين. وكان هذا الخروج الثاني من لبنان حيث غادر عرفات طرابلس على متن السفينة «أوديسيوس إيليتيس» مع ضباطه و4000 مقاتل، أقلتهم 5 سفن يونانية ترافقها البحرية الفرنسية. والمفارقة أن يتم هذا الرحيل بوساطة فرنسية- سعودية وبجهود مصرية وصينية مدعومة من غالبية الدول العربية، ومنها الكويت التي هددت يومها سوريا بوقف المساعدات الاقتصادية عنها.
قد تكون مثل هذه الأحداث جزءاً مما دفع الشاعرة العربية لينا أبو بكر للحديث عما أسمته بـ «الحَول السياسي»، لكنها رأت مصداقاً آخر له بقولها: «فالدبابات تقَتحم درعا التي يقطنها مدنيون سوريون وتقع تحت سيادة سوريا كاملة وعلى بعد 20 كيلومترا فقط من هضبة الجولان التي يحتلها الجيش الاسرائيلي منذ النكسة عام 1967، فأن يضطر نظام ما لاحتلال ومحاصرة مدينة تقع أصلا تحت حكمه وسيطرته لمجرد أن المدنيين يطالبون بإصلاحات، بينما يُغفل جيشا بل ودولة -يفترض أنها عدوة- تتوغل في عمقه الجغرافي منذ ما يزيد على الأربعين عاما من دون أن يكلف نفسه إطلاق رصاصة عرس واحدة حتى في سمائها».
هل ثمة داعٍ للتذكير أيضاً بتفاصيل الصبر الأسطوري على كل أنواع المعاناة، والتي كانت من نصيب الشعب السوري على مدى عقود باسم المقاومة والممانعة؟ هل ثمة داعٍ للتوضيح بأن هذا الشعب، وليس غيره، هو الذي احتضن الفلسطينيين بعد (النكبة)، واحتضن اللبنانيين أثناء عدوان إسرائيل على لبنان عام 2006م؟
ما يدعو للرثاء أكثر من كل شيء آخر هو تلك المحاولات المتخبطة لتغطية «فلتة» رامي مخلوف حين يُعلن أحد مواقعه الإلكترونية أن الصحيفة شوّهت تصريحاته. ثم حين يظهر أن سجلّ المقابلة موجود، تخرج السفارة السورية في واشنطن ببيان تقول فيه إن الرجل مواطن سوري عادي لا يشغل أي منصب حكومي وأن آراءه شخصية ولا تعبر عن وجهة نظر الحكومة السورية؟!
صدق المثل السوري (اللي استحوا ماتوا).
------------------
"العرب القطرية"