من يسترجع خطابات الحريري الابن وحلفائه في الائتلاف المذكور، على مدى السنوات الأربع الفائتة، سيدهش حقيقةً لحجم التحولات والتبدلات، فقد تحولت مهرجانات هذا التحالف إلى سوق عكاظ، يتبارى من على منصاته المتحدثون في كيل السباب والشتائم لسوريا وقيادتها (وأحيانا لشعبها)، ناهيك عن سيل التهديدات الذي ظل يتدفق بغزارة، إلى أن بدأ ينضب تدريجيا على وقع "صمود حلفاء سوريا في لبنان"، وضياع "المحكمة ذات الصبغة الدولية" في دهاليز تحقيق لا أحد يدري متى سينتهي أو إلى أين، فضلا عن وقائع "السابع من أيار "2008 التي قلبت الطاولة على رؤوس خصوم سوريا في لبنان.جملة من الأسباب قادت الحريري إلى "قصر تشرين"، في ثاني محطة عربية له منذ توليه رئاسة حكومة الوحدة الوطنية الجديدة التي انبثقت بعد ستة أشهر من المشاورات والفراغ، وبالطبع بعد محطته الأولى في السعودية، التي ينتمي إليها ويحمل جنسيها ويحتسب عليها.أول هذه الأسباب وأهمها، يتجلى في هزيمة "مشروع المحافظين الجدد" الذي انتعش إثر الغزو الأمريكي للعراق، ووضع في صدارة استهدافاته عزل سوريا و"تغيير سياساتها" وتدمير حلفائها في لبنان (حزب الله) وفلسطين (حماس)، الأمر الذي فتح الباب أمام خيار واحد للتعامل مع سوريا وحلفائها: خيار الاحتواء والحوار والدبلوماسية.ثاني هذه الأسباب، ويتجلى في التقارب السعودي - السوري، وهو التقارب الذي بدأ خجولا زمن اتفاق الدوحة، مرورا بقمة الكويت ونداء المصالحة الذي أطلقه العاهل السعودي، وتوج في زيارته لدمشق، حيث كانت "العقد اللبنانية" تتفكك و"تتحلل" الواحدة تلو الأخرى على وقع أقدام الزائرين والموفدين الذين تحركوا بكثافة على طريق الرياض دمشق.ثالث هذه الأسباب، حاجة الحريري لضوء أخضر من دمشق إن هو أراد لحكومته أن ترى النور أولا، وأن تحافظ على تماسكها ثانيا، وأن تحقق بعض النجاح في إنجاز مهامها ثالثا، الأمر الذي دفعه "للحس" مواقفه وتهديداته السابقة، والانصياغ لمقتضيات العمل السياسي ومستلزماته، حتى لا نقول لديكتاتورية التاريخ والجغرافيا على حد سواء، مجسدا بذلك المقولة الشائعة في لبنان: لبنان لا يحكم من سوريا ولا يحكم ضدها.رابع هذه الأسباب، دخول التحقيق الدولي في متاهة "فائض المتهمين المحتملين" والذي بدأ بسوريا وأصدقائها زمن القاضي ديتليف ميليس، ولم ينته بالقاعدة بطبعاتها الأصولية المحلية وفقا لخلفائه من سيرج براميرتس إلى دانييل بلمار، مرورا بكل ما قيل ويقال عن أيد إسرائيلية متحالفة مع بعض الدوائر الأشد تطرفا في "معسكر المحافظين الجدد".والخلاصة أن شعار "الحقيقة من أجل لبنان" الذي نهض عليه مشروع تيار المستقبل بخاصة 14و آذار عموما، لم يعد، حتى لا نقول لم يكن يوما، محركا حقيقيا لمواقف هذه القوى وسياساتها، وإلا لكان أداء هذه القوى مختلفا خصوصا بعد إفراج المحكمة عن الضباط الأربعة، وتوالي عمليات الكشف عن متهمين جدد وشهود زور لا يلاحقهم أحد من أركان هذا الفريق، بل ولا يكلف نفسه عناء الطلب إلى المحكمة الدولية، لملاحقة هؤلاء للتعرف على القوى المحركة لهم، والإجابة عن اسئلة من نوع: من حرض ولمصلحة من وضد من؟ جريمة اغتيال الحريري الأب، جريمة سياسية بامتياز، هكذا بدأت منذ يوم الأول، وهكذا تطورات في سياقات التوظيف السياسي لدم الحريري ورفاقه، ومن قبل أطراف عديدة، محلية وإقليمية ودولية، بمن فيهم أقرب المقربين من رئيس الحكومة الراحل، ولأنها كذلك، فإن ما تزرعه به السياسة من تحالفات وعداوات واتهامات، تذروه السياسة كذلك، وتحيله إلى صداقات جديدة وتحالفات جديدة، وهذا ما نشهد عليه اليوم، وفي دمشق بالذات.
__________
__________