تروَّج الفكرة بخجل في فرنسا وفي كثير من البلدان الأوروبية. سبق لعواصم من داخل الاتحاد الأوروبي أن تواصلت مع دمشق التي زارتها وفود متفاوتة المهامّ والمستويات. لكنّ الأمر بقي استثناء وتجريبياً على هامش متن ما زال ملتزماً بموقف غربي عامّ تقوده الولايات المتحدة بعدم تعويم نظام دمشق قبل التزامه بقرار الأمم المتحدة رقم 2254 الذي صدر في 18 كانون الأول 2015، والذي يرسم الطريق لتسوية سياسية تكون المعارضة جزءاً منها.
مع ذلك لا أوهام في قدرة التحوّلات السياسية على إهمال أيّ قرار أممي والالتفاف عليه حتى تتجاوزه للعبور نحو صفقات تحت سقف "الواقعية السياسية". فإذا ما أطلقت فرنسا الورشة الدولية لإنشاء محكمة دولية خاصة بشأن اغتيال الرئيس رفيق الحريري في عهد الرئيس جاك شيراك، وإذا ما أشارت التحقيقات الدولية في مراحلها الأولى على يد القاضي الألماني ديتليف ميليس إلى تورّط النظام السوري بالجريمة، فإنّ فرنسا نفسها في عهد الرئيس نيكولا ساركوزي استضافت الأسد في باريس لحضور احتفالات اليوم الوطني الفرنسي في 14 تموز 2008.
الأمر ليس مستحيلاً في علم المنافع في العلاقات الدولية. والمصالح أساساً هي التي تفرض طبيعة السياسات الخارجية وتحوّلاتها لدى الدول. وإذا صحّ أنّ الرئيس الفرنسي ينتهز مناسبة الزلزال ويراها ملائمة لادّعاء ضرورات التحوّل في علاقات بلاده مع دمشق، فذلك قد يأتي لسخرية القدر منسجماً مع توق الرجل إلى شقّ طريقه من خلال الكوارث.
ماكرون بين زلزالين :
هكذا تماماً فعل ماكرون بعد يومين على "زلزال" بيروت حين انفجر مرفأ المدينة في 4 آب 2020. أمّا إذا كان الرئيس الفرنسي يريد أن ينهل من السابقة في لبنان إنجازاً لاحقاً في سوريا، فالفشل الذي مُنيت به همَمُه مذّاك لا يشجّع على نجاح في سوريا التي يُضاف إلى كارثتها الطبيعية مأساة خلّفها الصراع الدموي المنفجر منذ عام 2011. ولئن اكتشفت باريس هول المعضلة اللبنانية على نحو أعقد من مجرّد خلوة يحاضر خلالها في بعض قادة البلد، فإنّه لا شيء في إمكان ماكرون تحقيقه في الشأن السوري غير واجهات شكليّة بالحدّ الأقصى أو تسريب "تمنّيات" في "لو فيغارو" في الحدّ الأدنى.
لا تأتي "أفكار" الإليزيه خارج السياق. حثّ الزلزال عواصم الدنيا على الدفع بالمساعدات الإغاثية ونصب جسور جوّية صوب مطارات خاضعة لسيطرة النظام. ثمّ إنّ عواصم عربية حليفة وصديقة لباريس ما برحت تطالب بتطبيع العلاقة مع النظام السوري وتدفع باتّجاه إعادة سوريا إلى مقعدها داخل جامعة الدول العربية. جاءت زيارة وزير الخارجية الإماراتي عبد الله بن زايد للعاصمة السوريّة لتؤكّد مساراً إماراتيّاً ثابتاً ومستمرّاً في هذا الصدد كان أبرز تطوّر له الزيارة التي قام بها الأسد للإمارات في 18 آذار 2022. وجاء أخيراً اتّصال الرئيس المصري عبد الفتّاح السيسي بنظيره السوري مؤشّراً آخر في هذا الاتجاه. تصبّ في هذا التوجّه زيارة وزير الخارجية الأردني أيمن الصفدي وما تسرّب من موسكو عن زيارة يخطّط لها وزير الخارجية السعودي فيصل بن فرحان للعاصمة السوريّة.
وإذا ما تراقب فرنسا حراك دول صديقة مثل مصر والإمارات والأردن، فإنّ تطوّر "الفكرة" باتجاه المبادرة سيحمل ماء إلى طواحين الجزائر التي ما فتئت تجاهر بالدعوة إلى تطبيع العلاقة مع الأسد وكانت تمنّي النفس بأن يحضر القمّة العربية التي عُقدت في عاصمتها في تشرين الثاني الماضي. كما أنّ أمراً كهذا قد يساعد في تحسين علاقات صعبة ومعقّدة بين باريس والجزائر.
ما بين الإنساني والسياسي :
غير أنّ خلطاً يدور بين ما هو إنساني وما هو سياسي، وأنّ كثيراً من مبادرات الودّ قد لا تبارح حيّزها الإغاثي وإن قد تبدو مناسبة لتنشيط الحيّز السياسي. صحيح أنّ قيام الولايات المتحدة بتعليق العقوبات على دمشق لمدّة 180 يوماً قد يوحي بشقّ ثغرة في جدار العزلة حول النظام في سوريا، لكنّ تغريدة السيناتور الجمهوري جيم ريش، العضو البارز في لجنة العلاقات الخارجية في مجلس الشيوخ، التي اعتبر فيها "أنّه لأمر مثير للاشمئزاز أن يستخدم (بشار الأسد) مأساة الزلزال في سوريا كفرصة لإعادة الانضمام إلى المجتمع الدولي"، تعبّر عن مزاج أميركي عامّ لا يشجّع على تطبيع ما، خصوصاً في ظلّ التصدّع الدولي العامّ.
قد يبدو أنّ تسريبات "لو فيغارو" "أفكاراً" لها حساباتها ولها أغراضها، وقد تعبّر أيضاً عن امتعاض فرنسي (أوروبي) من سلوكيّات الحليف الأميركي في ملفّات كثيرة. بالمقابل فإنّ توتّر العلاقات بين باريس وطهران، سواء في ملفّ المعتقلين الفرنسيّين في السجون الإيرانية أو بشأن انخراط المسيّرات الإيرانية في الحرب في أوكرانيا، قد لا يدفع باتّجاه مغامرة فرنسية تقود إلى تعويم حليف طهران في دمشق. كما أنّ الحرب التي انخرط الغرب فيها، بما في ذلك فرنسا، دعماً لأوكرانيا ضدّ روسيا، والحرب الضمنيّة التي تخوضها روسيا من خلال مجموعة فاغنر ضدّ مصالح فرنسا في إفريقيا، تغنيان ماكرون عن تقديم هدايا مجّانية للرئيس الروسي فلاديمير بوتين في العاصمة السورية.
غير أنّ الزلزال الذي يفاقم المأساة السورية قد يدفع أيضاً المجتمع الدولي إلى تعويم القضية السورية وجعلها إحدى أولويّاته الحيويّة. تتحمّل العواصم الغربية مسؤولية أساسية في تفاقم الأزمة في سوريا، ذلك أنّ اكتفاء المجتمع الغربي بالحرد من سوريا (نظاماً ومعارضةً) وترك شأنها لمزاج دول تتناتش المصالح والأجندات داخلها، أدّى إلى إضعاف النظام والمعارضة ومفاقمة اعتمادهما على قرار الخارج من دون توفير أيّ أفق للحلّ والتسوية.
بالمقابل فإنّ هذه الاستقالة الدولية زادت من عذابات السوريين، سواء في تركيا المنكوبة أو داخل المناطق السورية التي دمّرها الزلزال وشرّد سكّانها. وفق ذلك يمكن فهم ما قاله وزير الخارجية السعودي، السبت، في منتدى ميونيخ للأمن من أنّ "إجماعاً بدأ يتشكّل في العالم العربي على أنّه لا جدوى من عزل سوريا، وأنّ الحوار مع دمشق مطلوب في وقت ما"…
المسألة باتت مسألة توقيت قد زادت من فرضية فظائع الزلزال
-----------
اساس ميديا
مع ذلك لا أوهام في قدرة التحوّلات السياسية على إهمال أيّ قرار أممي والالتفاف عليه حتى تتجاوزه للعبور نحو صفقات تحت سقف "الواقعية السياسية". فإذا ما أطلقت فرنسا الورشة الدولية لإنشاء محكمة دولية خاصة بشأن اغتيال الرئيس رفيق الحريري في عهد الرئيس جاك شيراك، وإذا ما أشارت التحقيقات الدولية في مراحلها الأولى على يد القاضي الألماني ديتليف ميليس إلى تورّط النظام السوري بالجريمة، فإنّ فرنسا نفسها في عهد الرئيس نيكولا ساركوزي استضافت الأسد في باريس لحضور احتفالات اليوم الوطني الفرنسي في 14 تموز 2008.
الأمر ليس مستحيلاً في علم المنافع في العلاقات الدولية. والمصالح أساساً هي التي تفرض طبيعة السياسات الخارجية وتحوّلاتها لدى الدول. وإذا صحّ أنّ الرئيس الفرنسي ينتهز مناسبة الزلزال ويراها ملائمة لادّعاء ضرورات التحوّل في علاقات بلاده مع دمشق، فذلك قد يأتي لسخرية القدر منسجماً مع توق الرجل إلى شقّ طريقه من خلال الكوارث.
ماكرون بين زلزالين :
هكذا تماماً فعل ماكرون بعد يومين على "زلزال" بيروت حين انفجر مرفأ المدينة في 4 آب 2020. أمّا إذا كان الرئيس الفرنسي يريد أن ينهل من السابقة في لبنان إنجازاً لاحقاً في سوريا، فالفشل الذي مُنيت به همَمُه مذّاك لا يشجّع على نجاح في سوريا التي يُضاف إلى كارثتها الطبيعية مأساة خلّفها الصراع الدموي المنفجر منذ عام 2011. ولئن اكتشفت باريس هول المعضلة اللبنانية على نحو أعقد من مجرّد خلوة يحاضر خلالها في بعض قادة البلد، فإنّه لا شيء في إمكان ماكرون تحقيقه في الشأن السوري غير واجهات شكليّة بالحدّ الأقصى أو تسريب "تمنّيات" في "لو فيغارو" في الحدّ الأدنى.
لا تأتي "أفكار" الإليزيه خارج السياق. حثّ الزلزال عواصم الدنيا على الدفع بالمساعدات الإغاثية ونصب جسور جوّية صوب مطارات خاضعة لسيطرة النظام. ثمّ إنّ عواصم عربية حليفة وصديقة لباريس ما برحت تطالب بتطبيع العلاقة مع النظام السوري وتدفع باتّجاه إعادة سوريا إلى مقعدها داخل جامعة الدول العربية. جاءت زيارة وزير الخارجية الإماراتي عبد الله بن زايد للعاصمة السوريّة لتؤكّد مساراً إماراتيّاً ثابتاً ومستمرّاً في هذا الصدد كان أبرز تطوّر له الزيارة التي قام بها الأسد للإمارات في 18 آذار 2022. وجاء أخيراً اتّصال الرئيس المصري عبد الفتّاح السيسي بنظيره السوري مؤشّراً آخر في هذا الاتجاه. تصبّ في هذا التوجّه زيارة وزير الخارجية الأردني أيمن الصفدي وما تسرّب من موسكو عن زيارة يخطّط لها وزير الخارجية السعودي فيصل بن فرحان للعاصمة السوريّة.
وإذا ما تراقب فرنسا حراك دول صديقة مثل مصر والإمارات والأردن، فإنّ تطوّر "الفكرة" باتجاه المبادرة سيحمل ماء إلى طواحين الجزائر التي ما فتئت تجاهر بالدعوة إلى تطبيع العلاقة مع الأسد وكانت تمنّي النفس بأن يحضر القمّة العربية التي عُقدت في عاصمتها في تشرين الثاني الماضي. كما أنّ أمراً كهذا قد يساعد في تحسين علاقات صعبة ومعقّدة بين باريس والجزائر.
ما بين الإنساني والسياسي :
غير أنّ خلطاً يدور بين ما هو إنساني وما هو سياسي، وأنّ كثيراً من مبادرات الودّ قد لا تبارح حيّزها الإغاثي وإن قد تبدو مناسبة لتنشيط الحيّز السياسي. صحيح أنّ قيام الولايات المتحدة بتعليق العقوبات على دمشق لمدّة 180 يوماً قد يوحي بشقّ ثغرة في جدار العزلة حول النظام في سوريا، لكنّ تغريدة السيناتور الجمهوري جيم ريش، العضو البارز في لجنة العلاقات الخارجية في مجلس الشيوخ، التي اعتبر فيها "أنّه لأمر مثير للاشمئزاز أن يستخدم (بشار الأسد) مأساة الزلزال في سوريا كفرصة لإعادة الانضمام إلى المجتمع الدولي"، تعبّر عن مزاج أميركي عامّ لا يشجّع على تطبيع ما، خصوصاً في ظلّ التصدّع الدولي العامّ.
قد يبدو أنّ تسريبات "لو فيغارو" "أفكاراً" لها حساباتها ولها أغراضها، وقد تعبّر أيضاً عن امتعاض فرنسي (أوروبي) من سلوكيّات الحليف الأميركي في ملفّات كثيرة. بالمقابل فإنّ توتّر العلاقات بين باريس وطهران، سواء في ملفّ المعتقلين الفرنسيّين في السجون الإيرانية أو بشأن انخراط المسيّرات الإيرانية في الحرب في أوكرانيا، قد لا يدفع باتّجاه مغامرة فرنسية تقود إلى تعويم حليف طهران في دمشق. كما أنّ الحرب التي انخرط الغرب فيها، بما في ذلك فرنسا، دعماً لأوكرانيا ضدّ روسيا، والحرب الضمنيّة التي تخوضها روسيا من خلال مجموعة فاغنر ضدّ مصالح فرنسا في إفريقيا، تغنيان ماكرون عن تقديم هدايا مجّانية للرئيس الروسي فلاديمير بوتين في العاصمة السورية.
غير أنّ الزلزال الذي يفاقم المأساة السورية قد يدفع أيضاً المجتمع الدولي إلى تعويم القضية السورية وجعلها إحدى أولويّاته الحيويّة. تتحمّل العواصم الغربية مسؤولية أساسية في تفاقم الأزمة في سوريا، ذلك أنّ اكتفاء المجتمع الغربي بالحرد من سوريا (نظاماً ومعارضةً) وترك شأنها لمزاج دول تتناتش المصالح والأجندات داخلها، أدّى إلى إضعاف النظام والمعارضة ومفاقمة اعتمادهما على قرار الخارج من دون توفير أيّ أفق للحلّ والتسوية.
بالمقابل فإنّ هذه الاستقالة الدولية زادت من عذابات السوريين، سواء في تركيا المنكوبة أو داخل المناطق السورية التي دمّرها الزلزال وشرّد سكّانها. وفق ذلك يمكن فهم ما قاله وزير الخارجية السعودي، السبت، في منتدى ميونيخ للأمن من أنّ "إجماعاً بدأ يتشكّل في العالم العربي على أنّه لا جدوى من عزل سوريا، وأنّ الحوار مع دمشق مطلوب في وقت ما"…
المسألة باتت مسألة توقيت قد زادت من فرضية فظائع الزلزال
-----------
اساس ميديا
|