هذه مقدمة أولى لكل تفكير سياسي مثمر في البلاد اليوم. وهي في الآن نفسه ما قد يساعد على بلورة سياسات عملية من وجهة نظر حركة المعارضة الجديدة في البلاد، وحتى من وجهة نظر أي جهات عاقلة داخل نخبة الحكم. البلد في أزمة عامة، لأن نظامه السياسي الموروث أضحى متجاوزا. وبينما لا يبدو حتى الآن أن حركة الاحتجاج الشعبي قادرة على حسم معركة التغيير السياسي الصراع بقواه الخاصة، وأنه ليس في النظام قوى تستطيع التقدم بمبادرة سياسية كبرى تفتح أفقا سياسيا وأخلاقيا جديدا أمام البلد، فإن سورية قد تكون على أعتاب أزمة وطنية متمادية، يصعب توقع منعطفاتها ومخاطرها.
غاية ما قامت وتقوم به نخبة النظام حتى اليوم هو وعود شكلية ومناورات وألعاب على الهامش، تعكس افتقارها إلى وعي مناسب بديناميات الزمن الراهن السياسية والاجتماعية والنفسية، وأكثر منه عنادها وتمسكها بمواقعها وامتيازاتها القائمة. قد تستطيع العثور على محاورين وشركاء في الطيف المعارض القديم، لكنها مع شركائها المحتملين هؤلاء في غربة متساوية عن الوقائع الجديدة، والمعارضة الشابة الجديدة، وروح التحرر والاستقلال الجديدة التي تسرى في المجتمع السوري. هذا الجديد السوري الواعد ينفتح فقط على تغيير سياسي حقيقي، يطوي صفحة الحكم المطلق أو حكم الواحد الأبدي، حزبا أم فردا. هذا هو المنبع الفياض للمشكلات الوطنية الأخرى من فساد كاسح وحكم اللاقانون واختناق اجتماعي ووطني عام. وليس غير نهاية الحكم المطلق الدائم ما يمكن أن يكون نقطة تحول لا بد منها ليمكن الكلام على تغيير سياسي حقيقي ونظام سياسي جديد.
وعلى كل حال، يمتنع التكلم على آليات إصلاح ذاتية لنظمنا السياسية، وهو ما يٌعول أن تثمره الانتفاضات والثورات الجارية، دون وضع حد للحكم المطلق والأبدي. الحكم الصالح هو المزود بآليات إصلاحية ذاتية (انتخابات حرة وتداول السلطة، تنظيم سياسي مستقل، حريات عامة...)، فيما لا يمكن للحكم الدائم أن يكون إلا مضخة للفساد والتفكك الوطني الدائم.
****
لا يعني الانتهاء التاريخي للنظام القديم في سورية انتهاءه السياسي الفوري. لقد دخل أزمته التاريخية التي يتعذر عليه مغالبة مفاعيلها المميتة دون توسع فاجر في وسائل الإكراه. هذا ما يثير تخوفا محسوسا لدى كثيرين من ثمانينات جديدة أمام البلاد. كان ذلك عقدا مجنونا في فظاعته، فظيعا في جنونه. كارثة وطنية كبرى تفوق في فداحتها كارثة حزيران 1967.
ولقد رأى السوريون في الأسابيع الأخيرة نماذج سريعة من امتزاج العنف القاتل مع إثارات طائفية منتشرة، الأمر الذي يذكر بمزيج الثمانينات الانفجاري نفسه. لكن هذا الاحتمال العدمي الذي تفجر بصورة غامضة في غير منطقة من البلد، انطوى بسرعة أيضا، وإن دون ضمان بأن لا تتكرر مشاهد شبيهة هنا وهناك. مع ذلك نجزم أن سورية لن تشهد ثمانينات جديدة، وبالمقياس المهول لتلك السنوات المظلمة. غاية ما يمكن أن يحصل هو تمارين استذكارية مقلقة، من نوع ما رأينا في الأسابيع الأخيرة. وكانت هذه ثمانينات وجيزة ومُلخّصة، تشير إلى امتناع عودة تلك السنوات الأليمة أكثر مما إلى احتمال عودتها. لقد تغيرت الأزمنة، بفعل سلمية الاحتجاجات الشعبية ووطنيتها السورية الجامعة. لم تطلق رصاصة واحدة من قبل المحتجين المطالبين بالحرية والكرامة في درعا واللاذقية ودوما وحمص والقامشلي. وأظهرت الاحتجاجات وعيا قويا بوحدة السوريين، وحرصا واضحا على تحييد التمايزات الإثنية والدينية والمذهبية الموروثة بينهم. لقد أورثت التجارب الأليمة الشعب السوري وعيا كافيا بأن العنف والطائفية محرمان وطنيان، وأن من شأن الانجرار إلى أي منهما أن يتسبب بكارثة وطنية وإنسانية تهدد كيان سورية ومعناها، وتخدم كل ما هو متدهور ومنحط فيها. وهما على كل حال وجها استراتيجية السيطرة السياسية المجربان، وليسا بحال من أدوات التحرر الديمقراطي.
****
هل من المحتمل أن تستمر الأوضاع السورية الحالية لوقت طويل؟ احتجاجات شعبية منتشرة، لكنها غير حاسمة، تواجه بمزيج من القمع ومحاولة الاحتواء؟ هذا مستبعد في تقديرنا. السلطات تفقد أعصابها حين يتظاهر الناس في الشوارع، ورغم اجتهادها في الربط بين الاحتجاجات الشعبية وبين "عصابات مسلحة" حينا، و"إرهابيين" حينا، و"أصوليين" حينا آخر، لتستطيع مواجهتها في الملعب الذي تملك أفضلية مطلقة فيه، ملعب العنف، إلا أنه لا يبدو أن أحدا في داخل البلاد أو خارجها مقتنع بهذه الرواية. وهذا يشكل ضغطا لا يستهان به على النظام، بخاصة في ظل عالم الاتصالات المفتوح.
هل يحتمل أن تنتقل السلطات من منطق الإجراءات الجزئية و"الوعود الإصلاحية" إلى مبادرة سياسية كبيرة، تعود بمكاسب حقيقية على الشعب، وتعيد عمليا بناء النظام السياسي بحيث يستمد شرعيته، أو جانبا أساسيا منها، من انتفاضة ربيع 2011؟ ليس ثمة علائم على ذلك. وهو يبدو مستبعدا من وجهة نظر النظام والمصالح المتأصلة، المادية والسياسية لنخبه القائدة.
هل يحتمل أن تتوسع الاحتجاجات الشعبية وتنتقل من مرتبة مظاهرات واعتصامات بالألوف إلى عشرات الألوف ومئات الألوف، مع محافظتها على سلميتها وطابعها الوطني العام، وتفوقها الأخلاقي الذي لا جدال فيه، فتكون عامل حسم لمصير النظام، ومصدر الشرعية الحصري لنظام جديد في البلاد؟ التكهن صعب.
لأسباب اجتماعية وتاريخية تتصل بتكوين المجتمع السوري وبنية نخبة السلطة، يستحسن البحث عن مخارج سياسية تفاوضية للأزمة الوطنية القائمة. لكن قبل كل شيء، هذا يقتضي تغييرا فعليا كبيرا في النظام، وهو الجهة السياسية الأشد تطرفا وعنفا وغرورا ورفضا للمساواة بين السوريين، والطرف الذي رفض على الدوام الاعتراف بسورية الأخرى، هذه التي تحتج اليوم وتنتفض وتطالب بالحرية والعدالة والمواطنة.
الخيار الوطني الأكثر عقلانية هو الاعتراف بشرعية الانتفاضة، وإعادة بناء النظام السياسي في البلاد حول هذا الاعتراف. هذا يضمن مزيجا من تغيير محرر ومن استقرار منشود، ويستجيب للتكوين المركب للمجتمع السوري، ولهواجس مشروعة لقطاعات منه، ويجنبه مخاطر التطرف والواحدية.
غاية ما قامت وتقوم به نخبة النظام حتى اليوم هو وعود شكلية ومناورات وألعاب على الهامش، تعكس افتقارها إلى وعي مناسب بديناميات الزمن الراهن السياسية والاجتماعية والنفسية، وأكثر منه عنادها وتمسكها بمواقعها وامتيازاتها القائمة. قد تستطيع العثور على محاورين وشركاء في الطيف المعارض القديم، لكنها مع شركائها المحتملين هؤلاء في غربة متساوية عن الوقائع الجديدة، والمعارضة الشابة الجديدة، وروح التحرر والاستقلال الجديدة التي تسرى في المجتمع السوري. هذا الجديد السوري الواعد ينفتح فقط على تغيير سياسي حقيقي، يطوي صفحة الحكم المطلق أو حكم الواحد الأبدي، حزبا أم فردا. هذا هو المنبع الفياض للمشكلات الوطنية الأخرى من فساد كاسح وحكم اللاقانون واختناق اجتماعي ووطني عام. وليس غير نهاية الحكم المطلق الدائم ما يمكن أن يكون نقطة تحول لا بد منها ليمكن الكلام على تغيير سياسي حقيقي ونظام سياسي جديد.
وعلى كل حال، يمتنع التكلم على آليات إصلاح ذاتية لنظمنا السياسية، وهو ما يٌعول أن تثمره الانتفاضات والثورات الجارية، دون وضع حد للحكم المطلق والأبدي. الحكم الصالح هو المزود بآليات إصلاحية ذاتية (انتخابات حرة وتداول السلطة، تنظيم سياسي مستقل، حريات عامة...)، فيما لا يمكن للحكم الدائم أن يكون إلا مضخة للفساد والتفكك الوطني الدائم.
****
لا يعني الانتهاء التاريخي للنظام القديم في سورية انتهاءه السياسي الفوري. لقد دخل أزمته التاريخية التي يتعذر عليه مغالبة مفاعيلها المميتة دون توسع فاجر في وسائل الإكراه. هذا ما يثير تخوفا محسوسا لدى كثيرين من ثمانينات جديدة أمام البلاد. كان ذلك عقدا مجنونا في فظاعته، فظيعا في جنونه. كارثة وطنية كبرى تفوق في فداحتها كارثة حزيران 1967.
ولقد رأى السوريون في الأسابيع الأخيرة نماذج سريعة من امتزاج العنف القاتل مع إثارات طائفية منتشرة، الأمر الذي يذكر بمزيج الثمانينات الانفجاري نفسه. لكن هذا الاحتمال العدمي الذي تفجر بصورة غامضة في غير منطقة من البلد، انطوى بسرعة أيضا، وإن دون ضمان بأن لا تتكرر مشاهد شبيهة هنا وهناك. مع ذلك نجزم أن سورية لن تشهد ثمانينات جديدة، وبالمقياس المهول لتلك السنوات المظلمة. غاية ما يمكن أن يحصل هو تمارين استذكارية مقلقة، من نوع ما رأينا في الأسابيع الأخيرة. وكانت هذه ثمانينات وجيزة ومُلخّصة، تشير إلى امتناع عودة تلك السنوات الأليمة أكثر مما إلى احتمال عودتها. لقد تغيرت الأزمنة، بفعل سلمية الاحتجاجات الشعبية ووطنيتها السورية الجامعة. لم تطلق رصاصة واحدة من قبل المحتجين المطالبين بالحرية والكرامة في درعا واللاذقية ودوما وحمص والقامشلي. وأظهرت الاحتجاجات وعيا قويا بوحدة السوريين، وحرصا واضحا على تحييد التمايزات الإثنية والدينية والمذهبية الموروثة بينهم. لقد أورثت التجارب الأليمة الشعب السوري وعيا كافيا بأن العنف والطائفية محرمان وطنيان، وأن من شأن الانجرار إلى أي منهما أن يتسبب بكارثة وطنية وإنسانية تهدد كيان سورية ومعناها، وتخدم كل ما هو متدهور ومنحط فيها. وهما على كل حال وجها استراتيجية السيطرة السياسية المجربان، وليسا بحال من أدوات التحرر الديمقراطي.
****
هل من المحتمل أن تستمر الأوضاع السورية الحالية لوقت طويل؟ احتجاجات شعبية منتشرة، لكنها غير حاسمة، تواجه بمزيج من القمع ومحاولة الاحتواء؟ هذا مستبعد في تقديرنا. السلطات تفقد أعصابها حين يتظاهر الناس في الشوارع، ورغم اجتهادها في الربط بين الاحتجاجات الشعبية وبين "عصابات مسلحة" حينا، و"إرهابيين" حينا، و"أصوليين" حينا آخر، لتستطيع مواجهتها في الملعب الذي تملك أفضلية مطلقة فيه، ملعب العنف، إلا أنه لا يبدو أن أحدا في داخل البلاد أو خارجها مقتنع بهذه الرواية. وهذا يشكل ضغطا لا يستهان به على النظام، بخاصة في ظل عالم الاتصالات المفتوح.
هل يحتمل أن تنتقل السلطات من منطق الإجراءات الجزئية و"الوعود الإصلاحية" إلى مبادرة سياسية كبيرة، تعود بمكاسب حقيقية على الشعب، وتعيد عمليا بناء النظام السياسي بحيث يستمد شرعيته، أو جانبا أساسيا منها، من انتفاضة ربيع 2011؟ ليس ثمة علائم على ذلك. وهو يبدو مستبعدا من وجهة نظر النظام والمصالح المتأصلة، المادية والسياسية لنخبه القائدة.
هل يحتمل أن تتوسع الاحتجاجات الشعبية وتنتقل من مرتبة مظاهرات واعتصامات بالألوف إلى عشرات الألوف ومئات الألوف، مع محافظتها على سلميتها وطابعها الوطني العام، وتفوقها الأخلاقي الذي لا جدال فيه، فتكون عامل حسم لمصير النظام، ومصدر الشرعية الحصري لنظام جديد في البلاد؟ التكهن صعب.
لأسباب اجتماعية وتاريخية تتصل بتكوين المجتمع السوري وبنية نخبة السلطة، يستحسن البحث عن مخارج سياسية تفاوضية للأزمة الوطنية القائمة. لكن قبل كل شيء، هذا يقتضي تغييرا فعليا كبيرا في النظام، وهو الجهة السياسية الأشد تطرفا وعنفا وغرورا ورفضا للمساواة بين السوريين، والطرف الذي رفض على الدوام الاعتراف بسورية الأخرى، هذه التي تحتج اليوم وتنتفض وتطالب بالحرية والعدالة والمواطنة.
الخيار الوطني الأكثر عقلانية هو الاعتراف بشرعية الانتفاضة، وإعادة بناء النظام السياسي في البلاد حول هذا الاعتراف. هذا يضمن مزيجا من تغيير محرر ومن استقرار منشود، ويستجيب للتكوين المركب للمجتمع السوري، ولهواجس مشروعة لقطاعات منه، ويجنبه مخاطر التطرف والواحدية.