على إسرائيل، باعتبارها القوة المحتلة، التزام واضح بموجب القانون الدولي بضمان تلبية الاحتياجات الأساسية لسكّان غزّة. فشلت إسرائيل فشلًا ذريعًا في توفير الاحتياجات الأساسية لسكان غزّة كما أنها منعت وعرقلت مرور المساعدات الكافية إلى قطاع غزّة، ولا سيما إلى الشمال الذي يتعذر الوصول إليه تقريبًا، في دليل واضح على ازدرائها لقرار محكمة العدل الدولية وفي انتهاك صارخ لالتزامها بمنع الإبادة الجماعية”.
“نظرًا إلى نطاق الكارثة الإنسانية الناجمة عن القصف الإسرائيلي المستمر وخطورتها، بالإضافة إلى الدمار والحصار الخانق، حياة أكثر من مليونَيْ فلسطيني في غزّة معرّضة لخطر ضرر لا يمكن إصلاحه”.
حتى قبل قرار محكمة العدل الدولية، بالكاد كانت الإمدادات التي تصل إلى غزّة على مدى السنوات الـ 16 الماضية تكفي أصلًا. ومع ذلك، ففي الأسابيع الثلاثة التي أعقبت صدور أمر محكمة العدل الدولية، انخفض عدد الشاحنات التي تدخل غزّة بنحو الثلث، من متوسط 146 شاحنة في اليوم في الأسابيع الثلاثة السابقة للقرار، إلى متوسط 105 شاحنات يوميًا على مدى الأسابيع الثلاثة التالية. قبل 7 أكتوبر/تشرين الأول، دخلت، كمعدّل، حوالي 500 شاحنة إلى غزّة كل يوم ، تحمل مساعدات وسلعًا تجارية، بما في ذلك احتياجات مثل الغذاء والماء وعلف وإمدادات طبية ووقود. حتى تلك الكمية كانت أقلّ بكثير من تلك اللازمة لتلبية احتياجات الناس. وفي الأسابيع الثلاثة التي تلت قرار محكمة العدل الدولية، وصلت كميات أقل من الوقود، الذي تُحكِم إسرائيل السيطرة عليه، إلى غزّة. كما أنّ المعابر الوحيدة التي سمحت إسرائيل بفتحها تم تشغيلها لعدد أقل من الأيام، مما يدل على تجاهل إسرائيل للتدابير المؤقتة. وتحدث عاملون في مجال تقديم المعونة عن وجود تحديات متعددة، لكنهم قالوا إنَّ إسرائيل ترفض اتخاذ خطوات واضحة لتحسين الوضع.
في القضية التي قدمتها جنوب إفريقيا أمام محكمة العدل الدولية، جادلت بأن حرمان إسرائيل المتعمد للفلسطينيين من الحصول على المساعدات الإنسانية يمكن أن يشكل أحد الأفعال المحظورة بموجب اتفاقية منع جريمة الإبادة الجماعية والمُعاقب عليها من خلال” إخضاع الجماعة، عمدًا، لظروف معيشية يراد بها تدميرها المادي كليًا أو جزئيًا”.
“حتى العلف أصبح شحيحًا الآن”
في جميع أنحاء قطاع غزّة، تتفاقم الكارثة الإنسانية المتعمدة كل يوم. في 19 فبراير/شباط، أفادت وكالات إنسانية بأن سوء التغذية الحاد آخذ في الارتفاع في غزّة ويهدد حياة الأطفال، بحيث يطال سوء تغذية حاد 15.6٪ من الأطفال دون سن الثانية في شمال غزّة و 5٪ من الأطفال دون سن الثانية في رفح في الجنوب. وكانت سرعة وشدّة تراجع الوضع الغذائي للسكان في غضون ثلاثة أشهر فقط “غير مسبوقة عالميًا”.
وقال حمزة، وهو من سكان شمال غزة، وزوجته كوثر أنجبت طفلهما الرابع في 17 فبراير/شباط، لمنظمة العفو الدولية في 20 فبراير/شباط إن أسرته المكونة من ستة أفراد بالكاد كانت قادرة على تأمين نصف وجبة في اليوم وسط نقص حاد في الغذاء والماء. بعد نفاد إمدادات الدقيق والذرة، لجأوا إلى طحن الشعير والعلف لصنع الخبز. وقال:”حتى علف [الحيوانات] أصبح شحيحًا الآن”.
وأنجبت زوجته في مستشفى كمال عدوان الخارج عن الخدمة الآن في بيت لاهيا. بعد الولادة، لم يكُن حليب الرضاعة متوفرًا وواجهت صعوبة في إطعام طفلها الرضيع.
نظرًا إلى نطاق الكارثة الإنسانية الناجمة عن القصف الإسرائيلي المستمر وخطورتها، بالإضافة إلى الدمار والحصار الخانق، حياة أكثر من مليونَيْ فلسطيني في غزّة معرّضة لخطر ضرر لا يمكن إصلاحهوأضاف: “بعد بحث مضنٍ في أنحاء المستشفى، أعطتنا امرأة كمية صغيرة من الحليب أطعمناها للطفل من خلال حقنة. تمكنت عمتي من العثور على بعض الحليب اليوم، ولا أعرف كيف، ولم تخبرنا كم كلّفها. لا يوجد أرزّ ولا لحم. ذهبت إلى السوق أمس للبحث عن الطعام وعدت كما ذهبت: لا لحم ولا حمّص ولا شيء”.
هبة مرايف، منظمة العفو الدولية
إنَّ التهديد الذي يلوح في الأفق بشنّ هجوم بري واسع النطاق على رفح في جنوب غزّة، التي يلتجئ فيها حاليًا أكثر من 1.2 مليون مدني، سيكون له عواقب مدمرة أخرى على الوضع الإنساني.
وتدخل الإمدادات المحدودة التي تتدفق إلى غزّة عبر معبرَيْن على الحدود مع إسرائيل ومصر. ويقع المعبران العاملان – رفح، على الحدود مع مصر، وكرم أبو سالم، على الحدود مع إسرائيل – في جنوب غزّة. وتهدد العملية البرية في المنطقة القريبة من المكان الذي يسمح فيه معبرا رفح وكرم أبو سالم للشاحنات بالدخول إلى جنوب غزّة بقطع تدفق المساعدات بالكامل وتدمير آخر مخلفات نظام المساعدات.
“الناس من حولي محطمون”
تحدثت منظمة العفو الدولية إلى عشرة عاملين في الإغاثة الإنسانية من خمس وكالات أو منظمات إنسانية في منتصف وأواخر فبراير/شباط، وصفوا الظروف المروّعة في غزّة، فضلًا عن القيود الصارمة المستمرة على الوصول إلى المساعدات. وقال الجميع إنَّ قدرتهم على إدخال المساعدات إلى غزّة وحولها إما ظلت على حالها أو ازدادت سوءًا منذ صدور حكم محكمة العدل الدولية.
وسلّط العاملون في المجال الإنساني الضوء على إخفاق إسرائيل في اتخاذ خطوات واضحة، مثل فتح جميع نقاط الوصول والمعابر المتاحة لتمكينها من نقل المساعدات بسرعة أكبر وعلى نطاق أوسع إلى المناطق المحتاجة أو لضمان عدم تعرض العمليات الإنسانية لهجوم عسكري.
وكان قرار صادر عن مجلس الأمن الدولي في ديسمبر/كانون الأول 2023 قد طالب الأطراف “بإتاحة وتيسير استخدام جميع الطرق المتاحة المؤدية إلى قطاع غزّة والكائنة في جميع أنحائه، بما في ذلك المعابر الحدودية” لضمان وصول المساعدات الحيوية إلى المدنيين “عبر أكثر الطرق المباشرة”. وعلى الرغم من هذا القرار الملزم قانونًيا، رفضت إسرائيل فتح المزيد من المعابر لتسهيل وصول المساعدات الإنسانية.
وشاركت فتحية، وهي عاملة في مجال دعم الصحة النفسية، منظمة العفو الدولية بالتحديات التي تواجهها مع أسرتها وعملها. ووصفت صعوبة محاولة إقناع والدتها البالغة من العمر 78 عامًا والتي أصيبت بنوع من الخرف منذ نزوحهم بفهم سبب عدم حصولهم على ما يكفي من الطعام.
وقالت: “بالكاد يكسب أبنائي قوت عيشهم، ولا يمكننا إيجاد الطعام الأساسي أو حتى تحمل تكلفته”. ليس هناك أي شيء، والقليل الموجود لا يمكننا تحمّل تكلفته. أمي غير قادرة على فهم ذلك وهي تظنّ أننا نهملها. لقد وصلت بي الأمور إلى تمني وفاة أمي بدلًا من رؤية معاناتها وهي تعتقد أننا نهملها. الناس من حولي محطمون لأنهم لا يستطيعون إطعام أطفالهم وأسرهم، وأنا غير قادرة على تقديم أي نصيحة أو دعم مفيد لهم لأنني أيضًا محطمة”.
ومنع المحتجون الإسرائيليون الذين يطالبون الحكومة بوقف السماح بدخول المساعدات إلى غزّة إلى أن يتم إطلاق سراح الرهائن الوصول مرارًا إلى معبر كرم أبو سالم، مما أرغم السلطات على إغلاقه بشكل متكرر، وأحيانًا لعدة أيام. ولا تعفي مثل هذه الاضطرابات السلطات الإسرائيلية من التزامها باتخاذ التدابير اللازمة للحفاظ على تدفق المساعدات من دون عوائق.
ومع ذلك، توجد منافذ وصول ومعابر أخرى. بعضها أغلقته إسرائيل بعد 7 أكتوبر/تشرين الأول، بينما أبقت إسرائيل البعض الآخر مغلقًا لسنوات عدّة. تسيطر إسرائيل بإحكام على ما يدخل غزّة ويخرج منها، بما في ذلك الأشخاص والبضائع، كجزء من حصارها غير القانوني، الذي أصبح أكثر إحكامًا في الأشهر الأخيرة.
والحالة مروعة بشكل خاص في شمال القطاع المحتل، الذي عزلته إسرائيل فعليًا عن بقية غزّة. في الفترة بين 1 يناير/كانون الثاني و12 فبراير/شباط، أفاد مكتب تنسيق الشؤون الإنسانية التابع للأمم المتحدة بأن إسرائيل رفضت السماح لأكثر من نصف الطلبات المقدمة من العاملين في المجال الإنساني بالوصول إلى الشمال. وفي 6 فبراير/شباط، أفاد مكتب تنسيق الشؤون الإنسانية أن إسرائيل لم تستجب لأي من طلبات الأمم المتحدة الـ 22 لفتح نقاط التفتيش في وقت مبكر، بما في ذلك منافذ الوصول إلى المناطق الواقعة شمال وادي غزّة.
وفي 21 فبراير/شباط، قال أحد العاملين في مجال تقديم المساعدات الذين تمت مقابلتهم: “لا يوجد فعليًا أي منفذ [إلى الشمال]. كان هناك وقف لإطلاق النار في نوفمبر/تشرين الثاني حيث أرسلنا العديد من الشاحنات شمالًا. غير ذلك، لم نتمكن من إدخال الشاحنات إلى الشمال على أي نطاق يذكر، وفي 2024، كان عدد الشاحنات التي تمكنت من الدخول حتى أقل. بعض الناس يتضورون جوعًا”.
منع وتأخير المعونات المنقذة للحياة بينما يتضور الناس جوعًا
تواصل إسرائيل فرض قيود مشددة على استيراد الإمدادات الأساسية إلى غزّة. ويجب أن تتم الموافقة المسبقة على جميع الواردات إلى غزّة من قبل السلطات الإسرائيلية. وفي فبراير/شباط، واصل العاملون في المجال الإنساني وصف حالات الرفض والقيود المتكررة وغير المتوقعة و”التعسفية”.
يلوم المسؤولون الإسرائيليون مرارًا المنظمات الإنسانية على أي ثغرات في إيصال المساعدات، زاعمين أنها غير قادرة على إرسال وتوزيع المزيد من المساعدات، أو يعزون النقص إلى النهب في غزّة. لكن العاملين في المجال الإنساني وصفوا مجموعة من الأساليب التي تعيق بها السلطات الإسرائيلية عملهم. وعرضوا قائمة بالخطوات الأساسية التي لم تتخذها إسرائيل لتسهيل إيصال المساعدات: من السماح بدخول إمدادات كافية وأساسية، وهو ما يرفضونه بانتظام؛ إلى فتح نقاط التفتيش في وقت مبكر، وهو ما رفضته السلطات مرارًا؛ واحترام الضمانات الأمنية الأساسية لقوافل الإغاثة وعاملي الإغاثة ومكاتب تقديم المعونة، التي تعرضت عوضًا عن ذلك لهجمات متكررة.
لا يمكن إنقاذ الأرواح وضمان تنفيذ التدابير المؤقتة التي اتخذتها محكمة العدل الدولية، بما في ذلك إيصال المساعدات المنقذة للحياة، إلا بوقف فوري ومستدام لإطلاق الناربالإضافة إلى السلع، تحتاج غزّة بشدة إلى الوقود للسماح للناس بتنقية المياه وتجهيز الأغذية وتشغيل المعدات الطبية، مثل الحاضنات. منذ 11 أكتوبر/تشرين الأول، تعاني غزّة من انقطاع التّيار الكهربائي نتيجة لقطع إسرائيل إمدادات الكهرباء عن القطاع. كما منعت إسرائيل تمامًا استيراد الوقود من أوائل أكتوبر/تشرين الأول حتى 18 نوفمبر/تشرين الثاني 2023. وفي حين أنها سمحت حاليًا بدخول بعض الوقود إلى غزّة، إلا أن الكميات غير كافية على الإطلاق. وحتى أواخر فبراير/شباط، استمرت السلطات الإسرائيلية أيضًا في رفض الطلبات الإنسانية لإدخال مصادر طاقة أخرى، مثل الألواح الشمسية والمولدات والبطاريات.
هبة مرايف، منظمة العفو الدولية
وختمت هبة مرايف حديثها بالقول: “لا يجوز أن يُجبر أي إنسان على تحمّل الظروف اللاإنسانية التي يعيشها سكان غزّة”. وبدلًا من رفع الحصار الوحشي، تخطط السلطات الإسرائيلية لتصعيد هجماتها بعملية عسكرية مميتة في رفح سيكون لها عواقب مروعة على المدنيين وتخاطر بقطع شريان الحياة الوحيد للمساعدات التي تدخل غزّة. لا يمكن إنقاذ الأرواح وضمان تنفيذ التدابير المؤقتة التي اتخذتها محكمة العدل الدولية، بما في ذلك إيصال المساعدات المنقذة للحياة، إلا بوقف فوري ومستدام لإطلاق النار”.
“وعوضًا عن ذلك، استخدمت الولايات المتحدة للمرة الثالثة حق النقض (الفيتو) ضد قرار لمجلس الأمن التابع للأمم المتحدة يطالب بوقف فوري لإطلاق النار، مما أعطى الضوء الأخضر فعليًا لمزيد من عمليات القتل والمعاناة الجماعية للفلسطينيين. يجب على البلدان صاحبة النفوذ على الحكومة الإسرائيلية، بما في ذلك الولايات المتحدة الأمريكية والمملكة المتحدة وألمانيا وغيرها من الحلفاء، ألا تقف مكتوفة الأيدي بينما يموت المدنيون الفلسطينيون موتًا يمكن تجنبه بسبب القصف ونقص الغذاء والماء وانتشار الأمراض ونقص الرعاية الصحية. وفي ضوء الكارثة الإنسانية في غزة، ما من مبرّر لدعم هذه الدول لأفعال إسرائيل، بما في ذلك استخفافها بقرار محكمة العدل الدولية، وقد ينتهك ذلك التزام تلك الدول بمنع الإبادة الجماعية”.
كما تدعو منظمة العفو الدولية الدول إلى ضمان حصول الأونروا على التمويل الكافي لمواصلة عملياتها بعد أن علّقت عدد من الدول تمويل المنظمة بناءً على مزاعم بأن بعض أعضائها شاركوا في هجوم 7 أكتوبر/تشرين الأول. ولطالما عملت الأونروا كشريان الحياة الوحيد للاجئين الفلسطينيين في غزّة وأماكن أخرى في الشرق الأوسط حيث تقدم المساعدات الإنسانية والمأوى والتعليم التي لا غنى عنها.
يجب على جميع الدول الوفاء بالتزامها بمنع الإبادة الجماعية من خلال اتخاذ خطوات عاجلة لضمان امتثال إسرائيل للتدابير المؤقتة لمحكمة العدل الدولية، بما في ذلك الضغط عليها لتسريع فتحها منافذ الوصول إلى غزة وإنهاء حصارها الوحشي كليًا. ويجب على جميع الدول أن تنهي فورًا نقل الأسلحة إلى إسرائيل، كما طلب منها مؤخرًا 24 خبيرًا من الأمم المتحدة.
خلفية
إنَّ الكارثة الإنسانية التي يتعرض لها قطاع غزّة المحتل اليوم هي نتيجة للحصار الذي تفرضه إسرائيل منذ 16 عامًا واشتداد وتكرار عملياتها العسكرية المدمرة. منذ 2007، حافظت إسرائيل على سيطرتها على المجال الجوي والحدود البرية والمياه الإقليمية في غزّة، وفرضت قيودًا مشددة على حركة السلع الأساسية والأشخاص من وإلى القطاع، مما أدى إلى كارثة إنسانية. وأجبرت إسرائيل سكان غزّة على العيش في ظروف قاسية بشكل متزايد، والتي تدهورت منذ أكتوبر/تشرين الأول 2023 بسرعة وشدة لدرجة أن جميع السكان يواجهون الآن مجاعة متعمدة.
ويُعتبر الحصار الإسرائيلي شكلاً من أشكال العقاب الجماعي ويشكل جريمة حرب. ويشكل إحدى الأدوات الرئيسية التي تفرض إسرائيل من خلالها نظام الأبارتهايد ضد الفلسطينيين، وهو جريمة ضد الإنسانية.
في 7 أكتوبر/ تشرين الأول 2023، أطلقت حماس والجماعات المسلحة الأخرى صواريخ عشوائية، وأرسلت مقاتلين إلى جنوب إسرائيل وارتكبت جرائم حرب. ووفقاً للسلطات الإسرائيلية، قُتل ما لا يقل عن 1,139 شخصًا، واحتُجز أكثر من 200 آخرين، معظمهم من المدنيين، ومن بينهم 33 طفلًا – كرهائن على يد حماس، وغيرها من الجماعات المسلحة في غزّة. وحتى 1 ديسمبر/كانون الأول، أطلق سراح 113 رهينة محتجزين لدى حماس وغيرها من الجماعات المسلحة في غزّة.