وكان ذلك بمعرفة أحد الجيران، حيث كانت الأسرة عُرفت وسط جيرانها في حي باب البحر. قبل فؤاد أن يعمل لدى الدكتور شلبي طبيب الأسنان الشهير آنذاك في حي الموسكي بقروش بسيطة، لكنها كانت مهمة جدا في ذلك الوقت الذي تخلى فيه الجميع عن الأسرة، حيث استنفدت كل المال الذي تملكه وانقطعت أخبار الوالد.
من خلال تردد عالية على مدرسة الراهبات في شبرا والتي تدرس فيها «آمال»، استطاعت أن تدبر لها إحدى الراهبات عملا في الأديرة، فتقوم بأعمال التنظيف مقابل قروش بسيطة أيضا، يمكن أن تساعدها بجانب قروش فؤاد التي يتكسبها من عمله لدى طبيب الأسنان.
لكن حياة الضنك تلك لم تستمر طويلا، وذات يوم طرق باب الأسرة موظف من الجامعة الأميركية يدعو الأم وأولادها لمقابلة البارون أيكرين، وهو مليونير أميركي كان معجبا بثورة الدروز وصمود «آل الأطرش» أمام فرنسا, إذ كان يمدهم بالمال والسلاح، وقرر مساعدة الأسرة بمنحها 100 دولار شهريا، وبذلك انفرج الضيق وتحول البؤس إلى رخاء، إذ عرفت الحلوى الشامية طريقها إلى بيتهم للمرة الأولى منذ مجيئهم إلى مصر، واستمع الجيران الى صوت بلبل يصدح في بعض أوقات النهار والليل، عندما تشدو عالية بأجمل ما لديها من أغان.
تعرّضت آمال لسوء التغذية بعدما نضب مورد الأسرة ومصدر انتعاشها، عندما سافر المليونير الأميركي الذي كان يمدهم شهرياً بمائة دولار. في تلك الأيام، عرفت أمال الجوع والحرمان، وفي أحد الأيام خلا البيت من أي طعام فأرسلتها والدتها لاقتراض بعض المال من الدكتور عبد الرحمن الشهبندر، أحد الزعماء السوريين، والمقيم في القاهرة وعلى معرفة بأسرة الأطرش، وكان منزله في منطقة غاردن سيتي، التي تبعد كيلومترات عدة عن حي الفجالة، فقطعت المسافة كلها مشياً على الأقدام، وحين قابلته وأبلغته رسالة والدتها عن سوء حالتهم قدم لها «ريالا» واحدا عادت به إلى أمها، وعندما رأته والدتها بكت وبكت معها آمال وقدّرت في ذلك الوقت بأنهم أوشكوا أن يتسولوا.
مسارح روض الفرج
مر وقت طويل انقطعت فيه أخبار «السويداء», حيث يقيم الأب ويقاتل، ولم يبق أي أمل في أن يجيء العز القديم وذكريات الترف، ماذا تفعل الأم كي تواجه الحياة؟ استقر رأيها على أن تغني في «روض الفرج»، وهو قرار خطير... جد خطير، لم يملك الصغيران فؤاد وفريد إلا أن يقابلاه بالوجوم. أما آمال فكانت أصغر من أن تعي معنى القرار، ومن ناحيتهما التزم فؤاد وفريد بأن يذهبا مع أمهما إلى حيث تغني، فيمكثان في الكواليس الى أن يجيء دورها في الغناء، فيرهف فريد السمع إليها وفي قلبه حسرة، وفؤاد الذي يعرف قدر أهله أكثر مما يعرف فريد يتمزق قلبه، غير أن حزن فريد يتبدد أمام سماع الموسيقى والغناء، فذلك هو الفن وهو أسمى ما في الوجود، ولا شيء عنده يعادل آهة الاستحسان عندما يسمعها من المستمعين أو من نفسه، عمل شريف لا غبار عليه، لماذا يحزن. أما فؤاد فكان له رأي ومشاعر مختلفين، فهو يرفض أن تعمل أمه كمغنية في المسارح، ولولا ضغط الحاجة وضيق ذات اليد لمنعها من ذلك.
يجلس كل منهما، فؤاد وفريد، يجتر خواطره مع نفسه، فإذا فرغت الأم من الغناء عادوا إلى البيت في عربة «حنطور» يجرها جواد وأيقظوا آمال من نومها عند الجيران، وفي كثير من الأحيان تضطر آمال لأن تذهب لقضاء اليوم عند أسرة من الأسر التي تعرفوا إليها، لحين انقضاء اليوم وعودة الأم وبصحبتها فؤاد وفريد. كانت آمال تعودت على زيارة أسرة الأمير الاي محسن بك، من وقت الى آخر تلهو مع أولادهم، وتقضي معهم النهار، وكان بيتهم في شارع الشيخ ريحان، بالقرب من ميدان عابدين، وفي أحد أيام الشتاء، ذهبت آمال، وبقيت معهم طوال اليوم، وما أن استعدت للرحيل، حتى انهمر المطر بغزارة، وظنت آمال أنهم سيقلّونها بسيارتهم إلى منزلها في حي الفجالة، في ظل البرد القارس والأمطار الغزيرة، فعرضوا عليها البقاء الى أن ينتهي المطر. بقيت بعض الوقت، لكن المطر في تزايد مستمر، فعدلوا عن الخروج بالسيارة، وآمال تنتظر والليل يهجم ببرده وأمطاره، فقررت الذهاب: لكن ماذا ستفعلين في ذلك الجو المطير؟
أجابت آمال: سأستقل سيارة أجرة (تاكسي) حتى منزلنا في الفجالة.
خرجت بكبريائها وكأنها تريد أن تستقل سيارة أجرة فعلا، وقد خجلت أن تقول لهم إنها لا تملك قرشا، وسارت تحت المطر وفي الوحول من عابدين حتى الفجالة، لتصل إلى بيتها في حالة إعياء شديدة، ظلت بعدها طريحة الفراش عشرة أيام.
فريد يدرس الموسيقى
كان فريد ينظر إلى تلك المرحلة من عمر الأسرة على أنها مرحلة استيعاب، وكانت ذاكرته كالخزانة الكبيرة تتلقى كل نغم، فتحتضنه وتهتز له، فإذا التقى بعوده يسرد كل ما سمع ويضيف إليه، والأم من ذلك كله في فرحة. سمع بنبوغ فريد شيخ العروبة أحمد زكي وهو الذى أفنى عمره في الترجمة وإحياء التراث العربي، متخذا ذلك الخط الذي يعتبر العمل الفكري وسيلة لتنوير الأذهان، لنشر التراث والتنقيب عنه في مكتبات الشرق والغرب، فلم يكن أحمد زكي باشا يمتلك ثروة طائلة، إلا أنه كان أبعد يدا وأكثر جرأة في السفر والترحال والبحث، واسع الحيلة في الحصول على الكتب والمخطوطات وقد ساعده في ذلك أيضا، ظروف حياته الخاصة، إلى جانب وظيفته في مجلس النظار التي أمنت له فرصة السفر والتعرف الى شخصيات عربية وعالمية عدة، من خلال اتصاله بدوائر الباحثين والمستشرقين في المجمع العلمي المصري والجمعية الجغرافية، ومن هنا جاءت صلته بعائلة آل الأطرش.
ما ان علم أحمد زكي باشا بحب فريد ونبوغه في الموسيقى، حتى قرر أن يساعده في دراسة الموسيقى، وكتب له «بطاقة توصية» وقال له: خذها إلى مصطفى رضا.
- أين؟
- في نادي الموسيقى الشرقي، معهد الموسيقى العربية راهنا، فهو رئيس النادي.
استقبل مصطفى رضا فريد الأطرش بما يليق أن يستقبل به من يحمل بطاقة أحمد زكي باشا: على العين والرأس بطاقة الباشا، لكن لا شفاعة لك عندي إن لم تكن فنانا تتقن العزف على آلة موسيقية.
أثلجت العبارة صدر فريد وقال: نعم، هل يسمح وقت سيادتكم فتسمع عزفي على العود؟
- العود، إذن هيا يا فتى، دعني أرى مؤهلك الحقيقي.
تأمل مصطفى رضا فريد وهو يحتضن العود، ثم وهو يجري عليه أنامله بمقطوعات معروفة، ثم فجأة بدأ يعزف مقطوعات جديدة.
لمن المقطوعة يا فتى؟
تلعثم فريد... غير أنه وجد نظرات الإعجاب في عيني مصطفى رضا تشجعه.
هذه من تأليفي.
تجولت عينا مصطفى رضا فوق بنطال فريد القصير وعوده الذي انبثقت منه أنغام ساحرة، ثم وجهه الطفولي، ثم بطاقة الباشا وقال: حسناً... ستبدأ الدراسة في المعهد فورا.
خرج فريد من عند مصطفى رضا بقلب مفعم بالفرحة، فاتصل الاخير بأحمد باشا زكي ليشكره على الموهوب الصغير الذي أهداه للمعهد، فردّ: لي عندك رجاء يا مصطفى بك، «فريد» هذا «عزيز قوم ذل»، فهلا ساعده المعهد فأعطاه ولو مصاريف تنقلاته، ولو أنني أعرف أنه سيقبل مني ذلك لفعلت، لكن نفسه أبية وعزيزة وسيرفض، لكن عندما يأتي ذلك من خلال المعهد سيقبل.
له هذا يا باشا... وستسمع عنه الخير دائما.
عالية تعتزل المسارح
كان فؤاد وفريد اتخذا قراراً في شأن عمل أمهما في {روض الفرج}، والذي يعتبر الرئة الثانية لأهل القاهرة يلجأون إليه في الصيف لمشاهدة الفرق المسرحية التي كانت تقدم عروضها على شاطئ النيل، كفرقتي الريحاني والكسار، فضلا عن مسارح كثيرة تقدم الغناء والرقص الشرقي، وهي أجواء لم تلق هوى في نفس فؤاد تحديدا، فقبل بداية على مضض وتحت الحاجة، لكن الآن يشعر أن عمله وفريد، الى جانب بعض ما تقوم به الأم من عمل الحياكة، قد يعينهم على الحياة، فكان قرار فؤاد أن تمتنع أمه عن الغناء في مثل تلك المسارح، واتفق الاثنان على أن ينبريا لمواجهة تكاليف الحياة. كان فؤاد استقر في عمله لدى طبيب الأسنان الدكتور شلبي، ليتعلم على يديه الحرفة، أما فريد فقد ذهب إلى محل «بلاتشي»، وهو لا يبعد كثيرا عن عيادة الدكتور شلبي، وعرض عليه خدماته فقبل ليقبض النقود من المشترين، فتذكر فريد كيف كان يكره الحساب في المدرسة، وكيف كان يقول لمدرس الحساب كلما أنزل به العقاب إنه لن يبيع «البطاطس»، لذلك فإن الحساب لا يهمه، وها هو يبيع القماش ولا بد من أن يكون مفتوح العينين معا كي لا يخطئ ويضطر لدفع قروشه البسيطة ثمنا لخطئه، وإذا ما جاء موعد «الأوكازيون» السنوي فإن على فريد واجبا آخر، وهو أن يركب «دراجة هوائية» ويحمل الإعلانات التي تحدد موعد «الأوكازيون» وفرص الزبائن فيه، ويطوف الأحياء والشوارع، يصعد إلى البيوت فيقذف بالإعلانات من تحت الأبواب، أو يضعها في صناديق البريد في العمارات الكبيرة، أو يسلمها باليد للجمهور في الشوارع، وله عن هذا العمل الإضافي عشرة قروش.
نبوءة السنباطي...
ومفاجأة داود
كان فريد سعيداً بهذا الشقاء، خصوصًا أنه يتقاضى عنه أربعة جنيهات شهريًا، وهو مبلغ كبير في ذلك الوقت، وقد أمضى في عمله هذا فترات الإجازات، وكان يذهب إلى المعهد مساءً. كانت القروش القليلة التي تدخل جيبه تمنحه إحساسًا بالرضا بأنه عائل الأسرة، وبأنه يستطيع أن يكسب بعرق جبينه، وقد تصيبه ضربة شمس فلا يبالي، وقد كان في يقينه أن العمل عند «بلاتشي» لن يستمر طويلاً بعد ذلك الإطراء على فنه الذي سمعه من أستاذه في معهد الموسيقى، وكان وقتها الأستاذ رياض السنباطي. بعد أن تتلمذ فريد على يديه عامًا أتقن فيه العزف على العود كموسيقي محترف، فوجئ في أحد الأيام بالسنباطي يدخل عليه ذات يوم وهو يقول له: لن أعلمك بعد اليوم!
تقطب جبين فريد ورد: لماذا يا أستاذ... هل أخطأت في شيء؟
ضحك السنباطي وهو يربت على كتفه.
- بالعكس، لكن ليس عندي بعد اليوم ما اعلمه لك، فقد أصبحت بارعًا بما فيه الكفاية، بل ويمكن أن تنافسني، وسيكون لك شأن عظيم.
ترك فريد أستاذه السنباطي، وكلماته تطارده، وراح يفكر فيها، وكيف يحقق تلك النبوءة؟
في هذا الوقت، بدأت عالية تعمل في حياكة الملابس للسيدات، وكان ما تحصل عليه قليلا لكنه يقي شر الجوع، وذات يوم ذهبت لتوصيل ما حاكته من فساتين لبعض النسوة السوريات، وكن مجتمعات في بيت إحداهن، من خلال حفلة سمر وموسيقى وغناء، وكن جميعا يعرفن قدر عالية وصوتها الساحر، فطلبن منها أن تشدو لهن إحدى أغنياتها على العود، وشاءت المصادفة أن يتواجد الموسيقار داود حسني، وهو من كبار الملحنين القدماء، ذائع الصيت حيث كانت ألحانه تلقى كل الترحيب من غالبية المطربين والمطربات في ذلك الوقت، مثل زكي مراد, ومحمد صابر, وعبد الله الخولي, وعبد اللطيف البنا, ومنيرة المهدية, فتحية أحمد, وأم كلثوم، وليلى مراد، حيث كانت موسيقاه تختلف في التوزيع بمزج النغمات مع الإنشاء والتوزيع الموسيقى, ومنذ عام 1910 بدأت ألحان حسني بنوع جديد من الموسيقى وهو مزج بين الموسيقى الشعبية مع التقليدية، ومن خلال تلك الموسيقى دخل إلى قلوب الجميع وإلى المجتمع المصري في جميع طبقاته وانتشرت ألحانه وأغانيه في مصر والبلدان العربية، علمًا بأنه كان يهوديًا مصريًا وكانت أغانيه خفيفة وبسيطة وسلسة، وهو ما كان مثار إعجاب عالية المنذر وفريد وآمال.
كانت المفاجأة عندما سمع حسني صوت عالية المنذر وهي تغني في بيت صديقتها السورية، وأعجب جدا بصوتها، فسألها لماذا لا تحاول استغلال موهبتها، خصوصًا أنها تملك الجمال والصوت الأصيل، وكانت عالية تعرفت سابقا إلى سامي الشوا عازف الكمان المعروف في ذلك الوقت، وهو سوري الأصل من مدينة حلب، وهذان الموسيقيان ساعدا عالية فنيا وأخذت تحيي الحفلات الخاصة عند بعض العائلات واتسع رزق العائلة قليلا.
بزوغ نجم موسيقي جديد
كانت كلمات الموسيقار رياض السنباطي ترن طوال الوقت في أذن فريد، لقد أصبح على مستوى عال جدا كموسيقي، بارعًا لدرجة أنه يمكن أن ينافس أستاذه، ولكن لا بد من أن يترجم ذلك على أرض الواقع، فهو يريد أن ينطلق، لكن كيف يدخل ميدان الفن الرحب؟ كيف يطرق أبوابه؟ كيف تفتح له تلك الأبواب المستعصية؟ إنه بلغ في فن العزف على العود درجة شهد بها أستاذه، وأستاذه أحد سادة النغم في هذا البلد، فكيف ينتقل من حجرة الدراسة في نادي الموسيقى إلى الجمهور؟ وكيف ينتهي عذابه مع «بلاتشي»، وكيف يريح أمه من سهرها على الإبرة؟
في حجرات نادي الموسيقى العربية، التقى فريد الأطرش بزميل الدراسة، وهو أحد الموسيقيين الذي بدأ اسمه يبزغ في تلك الفترة، وهو الموسيقار اللبناني فريد غصن أحد أبرع العازفين على آلة العود. تعددت لقاءاتهما، وكانا يتحدثان طويلا، وفورا جمعهما حبهما المشترك للعود، وفي أحد الأيام بعد أن فرغا من اللقاء في نادي الموسيقى، استقلا الترام سويًا إلى غمرة، فهناك كانا يسكنان، وقد أدهش فريد أنه جار غصن وهو لا يدري! في المساء، ذهب فريد إلى بيت جاره وهناك التقى بالمطرب ابراهيم حمودة، وكان الأخير في ذلك الحين نجما متألقا في سماء الأغنية المصرية، ولما سمع فريد اهتز طربا وطلب منه أن يعيد أكثر من مرة، وما أن فرغ حتى قال له غصن: سمعت عن عزفك، لكني لم أكن سمعتك تعزف... وأشهد اليوم أن نجمًا في الموسيقى بزغ.
أما حمودة فقد أضاف إلى الإطراء اتفاقًا فوريًا على العمل، فهو الذي شغل مكان محمد عبد الوهاب حين كفّ الأخير عن العمل مع فرقة منيرة المهدية، وقرر أن يأخذ فريد للعزف على العود مع فرقته، في مقابل أن يعطيه جنيهاً أو جنيهين حسب الحفلة التي يحييها! لكن تلك الجنيهات القليلة لم تكن دائمة يمكن أن يرتب فريد حياته عليها، كانت متقطعة لا يعرف لها موعدا، لهذا استمر يعمل عند «بلاتشي»، واستمر يفكر في كيف يجد القليل الدائم الذي ينسج منه هناءة أسرته.
من خلال تردد عالية على مدرسة الراهبات في شبرا والتي تدرس فيها «آمال»، استطاعت أن تدبر لها إحدى الراهبات عملا في الأديرة، فتقوم بأعمال التنظيف مقابل قروش بسيطة أيضا، يمكن أن تساعدها بجانب قروش فؤاد التي يتكسبها من عمله لدى طبيب الأسنان.
لكن حياة الضنك تلك لم تستمر طويلا، وذات يوم طرق باب الأسرة موظف من الجامعة الأميركية يدعو الأم وأولادها لمقابلة البارون أيكرين، وهو مليونير أميركي كان معجبا بثورة الدروز وصمود «آل الأطرش» أمام فرنسا, إذ كان يمدهم بالمال والسلاح، وقرر مساعدة الأسرة بمنحها 100 دولار شهريا، وبذلك انفرج الضيق وتحول البؤس إلى رخاء، إذ عرفت الحلوى الشامية طريقها إلى بيتهم للمرة الأولى منذ مجيئهم إلى مصر، واستمع الجيران الى صوت بلبل يصدح في بعض أوقات النهار والليل، عندما تشدو عالية بأجمل ما لديها من أغان.
تعرّضت آمال لسوء التغذية بعدما نضب مورد الأسرة ومصدر انتعاشها، عندما سافر المليونير الأميركي الذي كان يمدهم شهرياً بمائة دولار. في تلك الأيام، عرفت أمال الجوع والحرمان، وفي أحد الأيام خلا البيت من أي طعام فأرسلتها والدتها لاقتراض بعض المال من الدكتور عبد الرحمن الشهبندر، أحد الزعماء السوريين، والمقيم في القاهرة وعلى معرفة بأسرة الأطرش، وكان منزله في منطقة غاردن سيتي، التي تبعد كيلومترات عدة عن حي الفجالة، فقطعت المسافة كلها مشياً على الأقدام، وحين قابلته وأبلغته رسالة والدتها عن سوء حالتهم قدم لها «ريالا» واحدا عادت به إلى أمها، وعندما رأته والدتها بكت وبكت معها آمال وقدّرت في ذلك الوقت بأنهم أوشكوا أن يتسولوا.
مسارح روض الفرج
مر وقت طويل انقطعت فيه أخبار «السويداء», حيث يقيم الأب ويقاتل، ولم يبق أي أمل في أن يجيء العز القديم وذكريات الترف، ماذا تفعل الأم كي تواجه الحياة؟ استقر رأيها على أن تغني في «روض الفرج»، وهو قرار خطير... جد خطير، لم يملك الصغيران فؤاد وفريد إلا أن يقابلاه بالوجوم. أما آمال فكانت أصغر من أن تعي معنى القرار، ومن ناحيتهما التزم فؤاد وفريد بأن يذهبا مع أمهما إلى حيث تغني، فيمكثان في الكواليس الى أن يجيء دورها في الغناء، فيرهف فريد السمع إليها وفي قلبه حسرة، وفؤاد الذي يعرف قدر أهله أكثر مما يعرف فريد يتمزق قلبه، غير أن حزن فريد يتبدد أمام سماع الموسيقى والغناء، فذلك هو الفن وهو أسمى ما في الوجود، ولا شيء عنده يعادل آهة الاستحسان عندما يسمعها من المستمعين أو من نفسه، عمل شريف لا غبار عليه، لماذا يحزن. أما فؤاد فكان له رأي ومشاعر مختلفين، فهو يرفض أن تعمل أمه كمغنية في المسارح، ولولا ضغط الحاجة وضيق ذات اليد لمنعها من ذلك.
يجلس كل منهما، فؤاد وفريد، يجتر خواطره مع نفسه، فإذا فرغت الأم من الغناء عادوا إلى البيت في عربة «حنطور» يجرها جواد وأيقظوا آمال من نومها عند الجيران، وفي كثير من الأحيان تضطر آمال لأن تذهب لقضاء اليوم عند أسرة من الأسر التي تعرفوا إليها، لحين انقضاء اليوم وعودة الأم وبصحبتها فؤاد وفريد. كانت آمال تعودت على زيارة أسرة الأمير الاي محسن بك، من وقت الى آخر تلهو مع أولادهم، وتقضي معهم النهار، وكان بيتهم في شارع الشيخ ريحان، بالقرب من ميدان عابدين، وفي أحد أيام الشتاء، ذهبت آمال، وبقيت معهم طوال اليوم، وما أن استعدت للرحيل، حتى انهمر المطر بغزارة، وظنت آمال أنهم سيقلّونها بسيارتهم إلى منزلها في حي الفجالة، في ظل البرد القارس والأمطار الغزيرة، فعرضوا عليها البقاء الى أن ينتهي المطر. بقيت بعض الوقت، لكن المطر في تزايد مستمر، فعدلوا عن الخروج بالسيارة، وآمال تنتظر والليل يهجم ببرده وأمطاره، فقررت الذهاب: لكن ماذا ستفعلين في ذلك الجو المطير؟
أجابت آمال: سأستقل سيارة أجرة (تاكسي) حتى منزلنا في الفجالة.
خرجت بكبريائها وكأنها تريد أن تستقل سيارة أجرة فعلا، وقد خجلت أن تقول لهم إنها لا تملك قرشا، وسارت تحت المطر وفي الوحول من عابدين حتى الفجالة، لتصل إلى بيتها في حالة إعياء شديدة، ظلت بعدها طريحة الفراش عشرة أيام.
فريد يدرس الموسيقى
كان فريد ينظر إلى تلك المرحلة من عمر الأسرة على أنها مرحلة استيعاب، وكانت ذاكرته كالخزانة الكبيرة تتلقى كل نغم، فتحتضنه وتهتز له، فإذا التقى بعوده يسرد كل ما سمع ويضيف إليه، والأم من ذلك كله في فرحة. سمع بنبوغ فريد شيخ العروبة أحمد زكي وهو الذى أفنى عمره في الترجمة وإحياء التراث العربي، متخذا ذلك الخط الذي يعتبر العمل الفكري وسيلة لتنوير الأذهان، لنشر التراث والتنقيب عنه في مكتبات الشرق والغرب، فلم يكن أحمد زكي باشا يمتلك ثروة طائلة، إلا أنه كان أبعد يدا وأكثر جرأة في السفر والترحال والبحث، واسع الحيلة في الحصول على الكتب والمخطوطات وقد ساعده في ذلك أيضا، ظروف حياته الخاصة، إلى جانب وظيفته في مجلس النظار التي أمنت له فرصة السفر والتعرف الى شخصيات عربية وعالمية عدة، من خلال اتصاله بدوائر الباحثين والمستشرقين في المجمع العلمي المصري والجمعية الجغرافية، ومن هنا جاءت صلته بعائلة آل الأطرش.
ما ان علم أحمد زكي باشا بحب فريد ونبوغه في الموسيقى، حتى قرر أن يساعده في دراسة الموسيقى، وكتب له «بطاقة توصية» وقال له: خذها إلى مصطفى رضا.
- أين؟
- في نادي الموسيقى الشرقي، معهد الموسيقى العربية راهنا، فهو رئيس النادي.
استقبل مصطفى رضا فريد الأطرش بما يليق أن يستقبل به من يحمل بطاقة أحمد زكي باشا: على العين والرأس بطاقة الباشا، لكن لا شفاعة لك عندي إن لم تكن فنانا تتقن العزف على آلة موسيقية.
أثلجت العبارة صدر فريد وقال: نعم، هل يسمح وقت سيادتكم فتسمع عزفي على العود؟
- العود، إذن هيا يا فتى، دعني أرى مؤهلك الحقيقي.
تأمل مصطفى رضا فريد وهو يحتضن العود، ثم وهو يجري عليه أنامله بمقطوعات معروفة، ثم فجأة بدأ يعزف مقطوعات جديدة.
لمن المقطوعة يا فتى؟
تلعثم فريد... غير أنه وجد نظرات الإعجاب في عيني مصطفى رضا تشجعه.
هذه من تأليفي.
تجولت عينا مصطفى رضا فوق بنطال فريد القصير وعوده الذي انبثقت منه أنغام ساحرة، ثم وجهه الطفولي، ثم بطاقة الباشا وقال: حسناً... ستبدأ الدراسة في المعهد فورا.
خرج فريد من عند مصطفى رضا بقلب مفعم بالفرحة، فاتصل الاخير بأحمد باشا زكي ليشكره على الموهوب الصغير الذي أهداه للمعهد، فردّ: لي عندك رجاء يا مصطفى بك، «فريد» هذا «عزيز قوم ذل»، فهلا ساعده المعهد فأعطاه ولو مصاريف تنقلاته، ولو أنني أعرف أنه سيقبل مني ذلك لفعلت، لكن نفسه أبية وعزيزة وسيرفض، لكن عندما يأتي ذلك من خلال المعهد سيقبل.
له هذا يا باشا... وستسمع عنه الخير دائما.
عالية تعتزل المسارح
كان فؤاد وفريد اتخذا قراراً في شأن عمل أمهما في {روض الفرج}، والذي يعتبر الرئة الثانية لأهل القاهرة يلجأون إليه في الصيف لمشاهدة الفرق المسرحية التي كانت تقدم عروضها على شاطئ النيل، كفرقتي الريحاني والكسار، فضلا عن مسارح كثيرة تقدم الغناء والرقص الشرقي، وهي أجواء لم تلق هوى في نفس فؤاد تحديدا، فقبل بداية على مضض وتحت الحاجة، لكن الآن يشعر أن عمله وفريد، الى جانب بعض ما تقوم به الأم من عمل الحياكة، قد يعينهم على الحياة، فكان قرار فؤاد أن تمتنع أمه عن الغناء في مثل تلك المسارح، واتفق الاثنان على أن ينبريا لمواجهة تكاليف الحياة. كان فؤاد استقر في عمله لدى طبيب الأسنان الدكتور شلبي، ليتعلم على يديه الحرفة، أما فريد فقد ذهب إلى محل «بلاتشي»، وهو لا يبعد كثيرا عن عيادة الدكتور شلبي، وعرض عليه خدماته فقبل ليقبض النقود من المشترين، فتذكر فريد كيف كان يكره الحساب في المدرسة، وكيف كان يقول لمدرس الحساب كلما أنزل به العقاب إنه لن يبيع «البطاطس»، لذلك فإن الحساب لا يهمه، وها هو يبيع القماش ولا بد من أن يكون مفتوح العينين معا كي لا يخطئ ويضطر لدفع قروشه البسيطة ثمنا لخطئه، وإذا ما جاء موعد «الأوكازيون» السنوي فإن على فريد واجبا آخر، وهو أن يركب «دراجة هوائية» ويحمل الإعلانات التي تحدد موعد «الأوكازيون» وفرص الزبائن فيه، ويطوف الأحياء والشوارع، يصعد إلى البيوت فيقذف بالإعلانات من تحت الأبواب، أو يضعها في صناديق البريد في العمارات الكبيرة، أو يسلمها باليد للجمهور في الشوارع، وله عن هذا العمل الإضافي عشرة قروش.
نبوءة السنباطي...
ومفاجأة داود
كان فريد سعيداً بهذا الشقاء، خصوصًا أنه يتقاضى عنه أربعة جنيهات شهريًا، وهو مبلغ كبير في ذلك الوقت، وقد أمضى في عمله هذا فترات الإجازات، وكان يذهب إلى المعهد مساءً. كانت القروش القليلة التي تدخل جيبه تمنحه إحساسًا بالرضا بأنه عائل الأسرة، وبأنه يستطيع أن يكسب بعرق جبينه، وقد تصيبه ضربة شمس فلا يبالي، وقد كان في يقينه أن العمل عند «بلاتشي» لن يستمر طويلاً بعد ذلك الإطراء على فنه الذي سمعه من أستاذه في معهد الموسيقى، وكان وقتها الأستاذ رياض السنباطي. بعد أن تتلمذ فريد على يديه عامًا أتقن فيه العزف على العود كموسيقي محترف، فوجئ في أحد الأيام بالسنباطي يدخل عليه ذات يوم وهو يقول له: لن أعلمك بعد اليوم!
تقطب جبين فريد ورد: لماذا يا أستاذ... هل أخطأت في شيء؟
ضحك السنباطي وهو يربت على كتفه.
- بالعكس، لكن ليس عندي بعد اليوم ما اعلمه لك، فقد أصبحت بارعًا بما فيه الكفاية، بل ويمكن أن تنافسني، وسيكون لك شأن عظيم.
ترك فريد أستاذه السنباطي، وكلماته تطارده، وراح يفكر فيها، وكيف يحقق تلك النبوءة؟
في هذا الوقت، بدأت عالية تعمل في حياكة الملابس للسيدات، وكان ما تحصل عليه قليلا لكنه يقي شر الجوع، وذات يوم ذهبت لتوصيل ما حاكته من فساتين لبعض النسوة السوريات، وكن مجتمعات في بيت إحداهن، من خلال حفلة سمر وموسيقى وغناء، وكن جميعا يعرفن قدر عالية وصوتها الساحر، فطلبن منها أن تشدو لهن إحدى أغنياتها على العود، وشاءت المصادفة أن يتواجد الموسيقار داود حسني، وهو من كبار الملحنين القدماء، ذائع الصيت حيث كانت ألحانه تلقى كل الترحيب من غالبية المطربين والمطربات في ذلك الوقت، مثل زكي مراد, ومحمد صابر, وعبد الله الخولي, وعبد اللطيف البنا, ومنيرة المهدية, فتحية أحمد, وأم كلثوم، وليلى مراد، حيث كانت موسيقاه تختلف في التوزيع بمزج النغمات مع الإنشاء والتوزيع الموسيقى, ومنذ عام 1910 بدأت ألحان حسني بنوع جديد من الموسيقى وهو مزج بين الموسيقى الشعبية مع التقليدية، ومن خلال تلك الموسيقى دخل إلى قلوب الجميع وإلى المجتمع المصري في جميع طبقاته وانتشرت ألحانه وأغانيه في مصر والبلدان العربية، علمًا بأنه كان يهوديًا مصريًا وكانت أغانيه خفيفة وبسيطة وسلسة، وهو ما كان مثار إعجاب عالية المنذر وفريد وآمال.
كانت المفاجأة عندما سمع حسني صوت عالية المنذر وهي تغني في بيت صديقتها السورية، وأعجب جدا بصوتها، فسألها لماذا لا تحاول استغلال موهبتها، خصوصًا أنها تملك الجمال والصوت الأصيل، وكانت عالية تعرفت سابقا إلى سامي الشوا عازف الكمان المعروف في ذلك الوقت، وهو سوري الأصل من مدينة حلب، وهذان الموسيقيان ساعدا عالية فنيا وأخذت تحيي الحفلات الخاصة عند بعض العائلات واتسع رزق العائلة قليلا.
بزوغ نجم موسيقي جديد
كانت كلمات الموسيقار رياض السنباطي ترن طوال الوقت في أذن فريد، لقد أصبح على مستوى عال جدا كموسيقي، بارعًا لدرجة أنه يمكن أن ينافس أستاذه، ولكن لا بد من أن يترجم ذلك على أرض الواقع، فهو يريد أن ينطلق، لكن كيف يدخل ميدان الفن الرحب؟ كيف يطرق أبوابه؟ كيف تفتح له تلك الأبواب المستعصية؟ إنه بلغ في فن العزف على العود درجة شهد بها أستاذه، وأستاذه أحد سادة النغم في هذا البلد، فكيف ينتقل من حجرة الدراسة في نادي الموسيقى إلى الجمهور؟ وكيف ينتهي عذابه مع «بلاتشي»، وكيف يريح أمه من سهرها على الإبرة؟
في حجرات نادي الموسيقى العربية، التقى فريد الأطرش بزميل الدراسة، وهو أحد الموسيقيين الذي بدأ اسمه يبزغ في تلك الفترة، وهو الموسيقار اللبناني فريد غصن أحد أبرع العازفين على آلة العود. تعددت لقاءاتهما، وكانا يتحدثان طويلا، وفورا جمعهما حبهما المشترك للعود، وفي أحد الأيام بعد أن فرغا من اللقاء في نادي الموسيقى، استقلا الترام سويًا إلى غمرة، فهناك كانا يسكنان، وقد أدهش فريد أنه جار غصن وهو لا يدري! في المساء، ذهب فريد إلى بيت جاره وهناك التقى بالمطرب ابراهيم حمودة، وكان الأخير في ذلك الحين نجما متألقا في سماء الأغنية المصرية، ولما سمع فريد اهتز طربا وطلب منه أن يعيد أكثر من مرة، وما أن فرغ حتى قال له غصن: سمعت عن عزفك، لكني لم أكن سمعتك تعزف... وأشهد اليوم أن نجمًا في الموسيقى بزغ.
أما حمودة فقد أضاف إلى الإطراء اتفاقًا فوريًا على العمل، فهو الذي شغل مكان محمد عبد الوهاب حين كفّ الأخير عن العمل مع فرقة منيرة المهدية، وقرر أن يأخذ فريد للعزف على العود مع فرقته، في مقابل أن يعطيه جنيهاً أو جنيهين حسب الحفلة التي يحييها! لكن تلك الجنيهات القليلة لم تكن دائمة يمكن أن يرتب فريد حياته عليها، كانت متقطعة لا يعرف لها موعدا، لهذا استمر يعمل عند «بلاتشي»، واستمر يفكر في كيف يجد القليل الدائم الذي ينسج منه هناءة أسرته.