نظرا للصعوبات الاقتصادية التي رافقت الجائحة وأعقبتها اضطررنا لإيقاف أقسام اللغات الأجنبية على أمل ان تعود لاحقا بعد ان تتغير الظروف

الهدهد: صحيفة اليكترونية عربية بخمس لغات عالمية
الهدهد: صحيفة اليكترونية عربية بأربع لغات عالمية
Rss
Facebook
Twitter
App Store
Mobile



عيون المقالات

المهمة الفاشلة لهوكستين

23/11/2024 - حازم الأمين

العالم والشرق الأوسط بعد فوز ترامب

17/11/2024 - العميد الركن مصطفى الشيخ

إنّه سلام ما بعده سلام!

17/11/2024 - سمير التقي

( ألم يحنِ الوقتُ لنفهم الدرس؟ )

13/11/2024 - عبد الباسط سيدا*

طرابلس "المضطهدة" بين زمنين

13/11/2024 - د.محيي الدين اللاذقاني

اليونيسيف ومافيا آل كابوني دمشق

12/11/2024 - عبد الناصر حوشان


أطباء بلا حدود تعيد بناء الثقة في الجنس البشري





ُولدت الحداثة الأوربية في ظل حالة حضارية جديدة بدأت بعصر النهضة ، وشبت عن الطوق مع حركة الإصلاح الديني في القرن السادس عشر، وبلغت رشدها في عصر التنوير- القرن الثامن عشر- عصر الثورة الفرنسية وإصدار الدستور الأمريكي وإعلان حقوق الإنسان لأول مرة في تاريخ البشر. وقد تمثلت قيم هذه الحداثة في 1- الإيمان بأهمية الفرد وجدارته بصنع مصيره 2- إعلاء شأن العقل وتحفيزه على نبذ الفكر الخرافي والأساطير الكهنوتية 3- الثقة في قدرة المجتمعات الإنسانية على مواصلة التقدم دون نكوص.


كان القرن التاسع عشر مختبراً لهذه القيم ، فيه نالت البورجوازية الأوربية درجة الدكتوراه بمرتبة الشرف الأولى، وكانت أطروحتها Thesis إزاحة قيم الإقطاع بعد تصفيته بنيوياً. لتنطلق بفضل فكرها اللبرالي إلى انتشال الاقتصاد من جموده وتحجره. وبفضل جديتها في تأسيس منظومات سياسية ديمقراطية الطابع؛ تجددت الحياة ُ جميعاً فـُاعترف للفرد بحق التفكير والتعبير والانخراط في الأحزاب المختلفة ، والتمتع غير المشروط بحرية العقيدة، بجانب تأمينه ضد العبودية رسمياً على مستوى العالم بأسره. ثمة نالت النساء حقوقهن كاملة بالمساواة مع الرجال، وانتشر التعليم حتى بين الطبقات الدنيا، مما أسهم في فتح فضاء الحراك الاجتماعي بصورة لم يسبق لها مثيل في التاريخ . و... وبدا كما لو أن عصراً ذهبياً للإنسان يدق على الأبواب .

لكن ما أن أوغل القرن العشرون في عمره ، حتى ُأدخلت هذه الأنوار " البورجوازية " الرائعة دور المحاق، ورويداً رويداً راح الكون يبدل بالضياء ثياب الظلمة الكابية، كيف؟ ذلك ما يحتاج إلى تفصيل.

الرأسماليون وجهاز الدولة

لدى نشأتها كانت البورجوازية ُ طبقة ً اجتماعية تضم سكان المدن Bourgeois من أصحاب المصانع والتجار والحرفيين والعمال. وقد أدى تحالف هؤلاء فيما بينهم بالضد على الإقطاعيين إلى انتصار البورجوازية في فرنسا على الملكية واللوردات والنبلاء وحلفائهم من الكاردينالات والقساوسة ، وسرعان ما انتقل هذا الكفاح البورجوازي إلي سائر البلدان الأوربية ؛ فسقطت الملكيات المستبدة تباعاً، لتأسس على أنقاضها جمهوريات ذات أنظمة برلمانية تتيح للشعوب اختيار حكامها وتغييرهم، وبهذا اتسمت الطبقة البورجوازية بسمة ثورية لا غش فيها، تحديدا في الفترة الواقعة بين الثورة الفرنسية المظفرة عام 1789 وبين الثورة العمالية الفاشلة عام 1848.

والحاصل أن استئثار أصحاب المصانع وكبار التجار بالثروة و" وتداولها " بينهم في عملية الرسملة وإعادة إنتاج رأس المال؛ كان حرياً بإقصاء العمال وصغار الحرفيين بعيداً عن الرأسماليين، فظهر ما ُعرف بطبقة "البروليتاريا " أي من لا يملكون لأنفسهم وسائل للإنتاج، وليست لهم إمكانية لكسب العيش سوى بيع قوة عملهم لملاك المصانع، حيث يحددون لهم أجورهم تبعاً لأسعار السوق باعتبارهم مجرد وسائل للإنتاج كالآلات والمباني والطاقة الكهربائية...الخ فكان طبيعياً – والحال كذلك- أن يثرى الرأسماليون (الذين انفردوا بصفة البورجوازية) وأن تفتقر البروليتاريا. وكان طبيعيا كذلك أن تحتكر البورجوازية، بتشكيلها الجديد سلطة الدولة كأمر واقع ، وكان طبيعياً ثالثاً أن تتوحش الدولة – بتوحش من يمسكون بزمامها– سواء بما تمتلكه من عناصر القوة الخشنة كالجيش والشرطة ، أو بما تسيطر عليه بآليات القوة الناعمة مثل برامج التعليم، والميديا، وغيرهما من مؤسسات غسل الأمخاخ. وبهذا كشفت الدولة عن طبيعتها كوظيفة كامنة Latent function في البنية الطبقية، بحسبانها أداة قمع لصالح القلة المهيمنة، لا مجرد جهاز محايد لخدمة جميع الأفراد حسب تصور هارولد لاسكي.

هكذا تبين للناس أن الدولة في واقع الأمر سيد مسيطر عليهم. وبالمقابل فإن الفرد - برغم اكتسابه لبعض المزايا السياسية والاجتماعية غير المنكورة عبر مساق الصراع

الطبقي - لم يعد يشعر في أعماقه بأنه حر، ومن ثم انكفأ على ذاته لا يطلب سواها، ليغدو بذلك أسير غرفته وحاسوبه وأوهامه ومخايلاته، معزولاً تماما عن مجتمعه، أشبه ما يكون بالرجل المعلق في الفضاء بحد تعبير ابن سينا.

انحسار العقلانية

بقدر ما افتخر مذهب الحداثة Modernism بكونه مؤسس العقلانية بقدر ما غفل هذا المذهب عن مناطق لا عقلانية مخبوءة داخله، مناطق كشف عنها فرويد وأسماها العقل الباطن حيث تعوي فيه ذئاب التغالب، ويسمع فيه حفيف الرعب وهدير الأنانية المدمرة، بينما أنذر نيتشة هذا المذهب بحتمية انتصار ديونيزوس إله الخمر والغريزة والنشوة على أبوللو إله الرشد والتعقل. ولقد كان لهذين الكشفين "الصادقين" أثرهما في تفجير صراع الحداثة مع نفسها، فكانت النتيجة - على أرض الواقع - أن انحسرت العقلانية عن أهل الحداثة في أوروبا فأشعلوا بينهم حربين عالميتين أبادتا الملايين ودمرتا آلاف المدن والقرى والمصانع والمتاحف ودور العلم. وبالتوازي أنجب العالم الثالث في مرحلة ما بعد الكولينيالية مئات الدكتاتوريين (الوطنيين !) الذين ساموا شعوبهم العذاب بأساليب أبشع من أساليب الاستعمار التقليدي. ومن ثم برز التناقض بين العقلانية المفترضة في حركات التحرير الوطني بعد انتصارها، وبين اللاعقلانية الضاربة بجذورها في تاريخ هذه المجتمعات.

والخلاصة: استعادة الفكر الخرافي والأسطوري سيطرته على نفوس البشر في كل مكان.

التاريخ يتقهقر

معلوم أن انتصار البلاشفة على النظام القيصري في روسيا عام 1917 قد أوحى بقيام دولة اشتراكية معادية للرأسمالية، حيث تجاهل معظم المحللين السياسيين حقيقة أن إعلان السياسة الاقتصادية الجديدة ( واختصارها "النيب" NEP ) عام 1921 على يد لينين نفسه، إنما كان انتقالاً من الحلم إلى الواقع، إذ كانت تلك السياسة الجديدة تؤسس لـ " رأسمالية دولة " يقودها حزب شيوعي ظاهره التعبير عن البروليتاريا، وباطنه تحالف البيروقراطية مع اليسار البورجوازي "العاقل"، ولم يكن للبروليتاريا دور في هذه الدولة سوى "أكل العيش" والتصفيق للحزب القائد صاحب الشعارات "التاريخية" المدوية! بيد أن ذلك لم يمنع من قيام ما سمي بالاتحاد السوفييتي 1922 مكوناً من 19 دولة أوربية وآسيوية تدور في فلك الروسيا، وتأتمر بأوامرها حيث تأجج الصراع بين هذه الكتلة المدعوة بالاشتراكية وبين الغرب الرأسمالي الصريح زهاء سبعين عاما وانتهى بسقوط الاتحاد السوفييتي وتفككه دون إطلاق رصاصة واحدة ، فأدي هذا بالكثيرين إلى "تطليق" حلم الاشتراكية عند "مأذون" تاريخ يتراجع ولا يتقدم! وكيف لا وهاهي دولة "الإشتراكية" الأم، ومن بعدها دول أوربا الشرقية ترتد إلى النظام الرأسمالي الصريح! وكان إخفاق ثورة الطلاب في فرنسا عام 1968 نبوءة ومؤشراً على حتمية هذا الارتداد، وهو ما اعترف به فلاسفة هذه الثورة الأخيرة أمثال ليوتار وبورديارد وجاك دريدا ، الذين آثروا الفرار إلى الأمام حيث ما بعد الحداثة Postmodernism التي تعيد إنتاج اللاعقلانية والأسطورة والخرافة بوصفها متطلبات "فترة انتقالية" داخل التاريخ الرأسمالي!

شعاع ضوء في آخر النفق

في ذلك الظلام الذي ضرب آفاق التفاؤل بجناحيه السوداويين، وطمس فلسفات التحرير بممحاته الغليظة؛ تقدم أطباء فرنسيون وصحافيون شباب ليؤسسوا عام 1971 منظمة غير حكومية باسم "أطباء بلا حدود" بمدينة جنيف يثبون منها لمناطق العالم المنكوبة، يساعدون أهلها طبياً وإنسانياً واجتماعياً دون تمييز بسبب العرق أو الدين أو العقيدة أو الموقف السياسي،ويلفتون الأنظار إلى معاناة الشعوب التي ترزح تحت نير النزاعات المسلحة ، أو تكابد عنف الوجود (كوارث طبيعية ومجاعات وأوبئة) فكان أن التف حولهم الصالحون يساندونهم بالمال والعتاد وتكاليف الدعم اللوجستي اللازمة لعمليات التهجير أو إعادة التوطين والتأهيل، وكأنهم يقولون: هؤلاء فتية آمنوا بالإنسانية فلنجعلهم قدوتنا.

وتقديراً لتلك الجهود, لم يكن مستغربا أن تنال هذه المنظمة الرائدة جائزة نوبل للسلام ،1999 وجائزة المؤسسة الصحية بالإمارات العربية المتحدة 2002، وجائزة الملك حسين للريادة في العمل الإنساني 2004 فضلا عن تكريم كافة منظمات المجتمع المدني لها في كل مكان.

فأين أطباؤنا وصحافيونا الشباب من هؤلاء الأبرار؟ سؤال يبحث عن إجابة.

أما السؤال الأهم فيمكن صياغته على المستوى الفلسفي على النحو التالي: هل يمكن لهذا الكائن المسمى الإنسان أن يصير فاعلاً في التاريخ، وليس مجرد مفعول به تحركه القوى غير المنظورة كالأقدار أو المنظورة كالدولة، والمؤسسات المتعالية Transcendental التي تتبنى (وترسخ) أيديولوجيات لا تعبر إلا عن مصالح أصحابها؟

ربما كان في نموذج منظمة أطباء بلا حدود ما يشي بأن ثمة أملاً في الإجابة بالإيجاب .


مهدي بندق
الثلاثاء 7 سبتمبر 2010